حديث الجمعةشهر محرم

في ذكرى وفاة سراج الدنيا وزين العابدين

في ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين “ع”، مشعل الهداية والمدرسة الأخلاقية. .. سراج الدنيا وجمال الإسلام، نتناول نسبه الشريف، فهو الرابع في سلسلة الأئمة الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي “ص” كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، إذ قال: “الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلهم من قريش”.
أحد الذرية الطاهرة الذين قال الله تعالى فيهم: “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا” “33: الأحزاب”.
جاء في صحيح مسلم بالإسناد إلى صفية بنت شيبة، قالت: قالت عائشة: خرج النبي “ص” غداة وعليه مرط مرحل “كساء من اليمن” من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا”.
وفي صحيح الترمذي، بالإسناد إلى ابن أبي سلمة، قال: لما نزلت هذه الآية على النبي “ص” “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا” في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنا وحسينا، وعلي خلف ظهره فجللهم بكساء ثم قال: “اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا”، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال “ص”: “أنت على مكانك وأنت على خير”.
وجاء في شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني بالإسناد إلى أنس بن مالك، قال: كان رسول الله “ص” يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر فيقول: “الصلاة يا أهل البيت “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا””.
وجاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل: عن أم سلمة أن النبي “ص” كان في بيتها فأتت فاطمة ببرمة فيها خزيرة “حساء من لحم ودقيق أو من دسم ونخالة” فدخلت بها عليه فقال لها: “ادعي زوجك وابنيك”، قالت: فجاء علي والحسن والحسين، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أصلي في الحجرة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا”، قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها السماء ثم قال: “اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال “ص”: “إنك إلى خير، إنك إلى خير”.
فالإمام زين العابدين “ع” ينحدر من هذه الشجرة المباركة، فجده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “ع”، وجدته فاطمة الزهراء بضعة رسول الله “ص” وفلذة كبده وسيدة نساء العالمين، وأبوه الإمام الحسين “ع” سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة…


دوره العلمي والثقافي


كان للإمام علي بن الحسين زين العابدين “ع” حلقة من البحث والدرس في مسجد رسول الله “ص”، يحدث الناس من خلالها بشتى ألوان المعرفة الإسلامية من تفسير وحديث وفقه، وما زخرت به مدرسة أهل البيت من علوم وفيوضات ربانية. وقد تخرج في هذه الحلقة عدد كبير من فقهاء المسلمين، وأئمة الحديث بمختلف انتماءاتهم إذ استقطب الإمام جمهور القراء وحملة الكتاب والسنة.
قال سعيد بن المسيب: “إن القراء لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين “ع”، فخرج وخرجنا معه ألف راكب”.
وقال عنه: “ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين وما رأيته قط إلا مقت نفسي”.
وقال فيه الزهري: “ما رأيت قرشيا أفضل منه”.
وقال عنه أبوحازم: “ما رأيت أفقه منه”.
وعده الإمام الشافعي “أفقه أهل المدينة”.
وقال عمر بن عبدالعزيز لما أتاه نعي علي بن الحسين: “ذهب سراج الدنيا، وجمال الإسلام، وزين العابدين”.


دوره التربوي


يمثل الترشيد الروحي والأخلاقي والتربوي أحد المسئوليات الكبيرة التي مارسها الإمام زين العابدين “ع” في مواجهة خطر المسخ الذي تعرضت له الأمة في تلك المرحلة من حياتها، فقد أصاب القيم الإسلامية اهتزاز كبير وتعرضت روحية الأمة لهبوط واضح، ووجدت قيم الجاهلية – من خلال سياسة الأمويين – أجواء منفتحة، فامتدت في حياة المسلمين…
وفي ظل هذا الواقع التحريفي لقيم الأمة، وانتزاع هويتها الإسلامية، ومصادرة روحيتها الإيمانية، وجد الإمام زين العابدين نفسه أمام مسئولياته الكبيرة في الحفاظ على الصيغة الإسلامية الأصيلة على كل المستويات العقيدية والفكرية والروحية والأخلاقية والتشريعية والاجتماعية والسياسية، كما هي مسئوليات كل الأئمة من أهل البيت “ع”.
وقد اعتمد الإمام زين العابدين “أسلوب الدعاء” كإحدى الوسائل المهمة في مجال البناء الفكري والروحي والتربوي… وتجلى ذلك بوضوح في “أدعية الصحيفة السجادية” التي قال عنها الشهيد السيد محمدباقر الصدر في بعض كلماته إنها “تعبر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام إضافة إلى كونها تراثا ربانيا فريدا يظل على مر الدهور مصدر عطاء، ومشعل هداية، ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظل الإنسانية بحاجة إلى هذا التراث المحمدي العلوي، وتزداد الحاجة كلما ازداد الشيطان إغراء، والدنيا فتنة”.
فما أحوج واقعنا المعاصر الذي تهدده مشروعات الفساد الأخلاقي، وتعصف به أشد ألوان المغريات والفتن والأهواء الشيطانية، ما أحوج هذا الواقع الى أن يتغذى بالنفحات الروحية والفيوضات الربانية من أدعية الإمام زين العابدين…
أعطوا لهذه الأدعية حضورها في حياتكم وانفتحوا بوعي على مضامينها الربانية وعطاءاتها الروحية، واتخذوها منهجا تربويا يصوغ الفكر والعاطفة والسلوك…


البكاء في حياة الإمام


إن روايات السيرة تؤكد أنه “ع” كان كثير البكاء على مصاب أبيه الإمام الحسين.
وهنا نطرح هذا السؤال: ما مدى صحة هذه الظاهرة؟
توجد ثلاثة اتجاهات في الإجابة عن هذا السؤال: اتجاه يحاول أن ينفي هذه الظاهرة في حياة الإمام، كونها لا تنسجم مع موقعه وصبره، ورضاه بقضاء الله وقدره، ودوره في تربية الناس وتوجيههم، ولا يمنع هذا من أن يكون الإمام قد بكى أباه الحسين ولكن ليس بالشكل الذي تتحدث عنه الروايات.
الاتجاه الثاني يحاول أن يؤكد هذه الظاهرة البكائية بقوة إلى درجة الاستغراق والاستيعاب لمساحة كبيرة من حياة الإمام زين العابدين، فالبكاء على أبيه الحسين كان الهاجس الأكبر في حياته، وكان الهم الذي سيطر على كل أوقاته.
الاتجاه الثالث يعطي لهذه الظاهرة حضورها البارز والواضح في حياة الإمام، ولكن ليس إلى درجة الاستغراق الذي قد توحي به بعض الروايات…
ولعل هذا الاتجاه هو الأقرب انطلاقا من مجموعة اعتبارات:
الاعتبار الأول، الروايات التاريخية الصحيحة تؤكد وجود هذه الظاهرة في حياة الإمام وبطريقة غير عادية، ما يوحي بوجود هدف كبير أراد الإمام أن يحققه من خلال ظاهرة البكاء، على رغم أن الحدث بكل مأسويته يفرض هذا المستوى من اللوعة والأسى والحزن…
الاعتبار الثاني، الظاهرة البكائية على رغم بروزها الكبير في حياة الإمام فإنها لم تكن على حساب المسئوليات الأخرى التي فرضتها مهمات الإمام وحاجات المرحلة، وإنما انتظمت معها لإبراز الدور الكبير الذي مارسه الإمام في الحفاظ على الإسلام ومواجهة كل محاولات التحريف، وحماية الهوية الأصيلة للأمة…
الاعتبار الثالث، البكاء عند الإمام إضافة إلى كونه تعبيرا عن حجم الانصهار والتأثر بمصاب الإمام الحسين، فإنه يحمل دلالات كبيرة، أذكر منها هاتين الدلالاتين:
الدلالة الأولى: تعميق المأسوية لقضية كربلاء في نفسية الأمة وفي وجدانها، فالبكاء عند الإمام لا يعبر عن حال انفعالية ساذجة، وإنما هي صيغة واعية تتحرك من خلالها عدة معطيات هادفة، من قبيل تأصيل وخلق التلاحم العاطفي والنفسي والروحي مع قضية الإمام الحسين؛ الانفتاح الذهني والفكري على أهداف ثورة كربلاء… وكون العاطفة تمنح الفكرة الحرارة والفاعلية والحركية، وحينما تخبو وقدة العاطفة تصاب الفكرة بحال من الركود والخمود والجمود…
الدلالة الثانية: تأجيج مشاعر الرفض والغضب تجاه القوى الظالمة التي صنعت مأساة كربلاء، فالبكاء بما يحمله من تعبير عن الانفعال بأحداث المأساة فإنه يختزن في داخله مشاعر الرفض والتحدي والغضب تجاه صانعي هذه المجزرة الرهيبة في كربلاء…
قد يقال إن ثقافة التأجيج والتصعيد والتحريض وثقافة الاستشهاد والموت هي أحد مكونات ظاهرة العنف والإرهاب والتطرف… وتعليقنا على ذلك أن ثقافة الاستشهاد والموت في سبيل العقيدة والمبدأ هي ثقافة قرآنية إيمانية هدفها حماية الدين والعرض والأرض والإنسان ضد كل ألوان العدوان وليس هدفها التدمير والإفساد والعدوان…
– “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون” ” 169: آل عمران”.
– “ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون”” 154: البقرة”.
– “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” “190: البقرة”.
– “ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا””32: المائدة”.
ربما استخدمت بعض حركات الإرهاب ثقافة الاستشهاد والقتل في سبيل الله بشكل محرف ومزور، فهل عمليات التفجير التي تطول الأبرياء والآمنين والنساء والشيوخ والأطفال، وتطول المؤسسات المدنية، ومصالح الناس وحاجاتهم المعيشية كما يحدث في العراق وبعض بلداننا العربية والإسلامية، هل هذه العمليات استشهاد في سبيل الله؟
هل هؤلاء الذين يحملون الأحزمة الناسفة ويحصدون آلاف الأرواح البريئة هم استشهاديون في سبيل الله؟
هل هؤلاء الذين يقودون السيارات الملغمة بآلاف الأطنان من المتفجرات ويزرعون الدمار في كل مكان هم شهداء من أجل العقيدة والمبدأ؟
ثانيا: إن ثقافة الرفض للظلم والقهر والاستبداد هي ثقافة أصلها القرآن…
– “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار””113: هود”.
– “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم…”. “148: النساء”
– “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير” “39: الحج”.
إلا أن هذه الثقافة لا يصح أن توظف توظيفا منحرفا ومشوها لتتحول إلى أداة عبث وإفساد وإرهاب…
ثالثا: إن الغضب العاشوري هو غضب ضد العنف والإرهاب الأموي وضد التطرف الذي مارسه النظام الحاكم ومارسه عملاء النظام وكان نتيجة ذلك المأساة الدامية يوم عاشوراء.
فالغضب الذي يصنع خطاب عاشوراء هو غضب في مواجهة كل الذين يصنعون المأساة في كل عصر، وفي كل مكان، وفي مواجهة كل الذين يمارسون الإرهاب والعنف والتطرف ضد الإنسان.
إن الذين تغذوا بقيم الإمام الحسين وبقيم ثورته لا يمكن أن يتحولوا إلى إرهابيين يقتلون الأبرياء ويذبحون الأطفال، ويروعون الآمنين، ويهددون أمن الناس واستقرارهم.
فتشوا عن الإرهاب في هذا العصر فلن تجدوه عند عشاق الحسين…
فتشوا عن التطرف فلن تجدوه عند أتباع الإمام الحسين، لأن الإمام الحسين إنما ثار وضحى بدمه من أجل أن يواجه الظلم والقهر والاستبداد ومن أجل أن يزرع في الأرض العدل والأمن والاستقرار. فالسائرون في خطى الإمام الحسين سيبقون دعاة خير وإصلاح وأمن واستقرار… وسيبقون أعداء للإرهاب والعنف والتطرف، لأن مأساة الحسين صنعها الإرهاب والعنف والتطرف.
ها هم زوار الإمام الحسين في كربلاء، وها هم عشاق الإمام الحسين في أرض العراق يسقطون ضحايا العنف والإرهاب وضحايا العبث والتطرف من قبل أناس حاقدين لا يعرفون معنى للدين والقيم والإنسانية ولا يؤمنون بالمبادئ والأخلاق، ولا ينتمون إلى هذه الأمة التي علمها الإسلام كيف تحافظ على حرمة الدماء والأرواح والأعراض.
إن الإعلام الفاسد يحاول دائما أن يخلط الأوراق، فربما اعتبر الإرهاب مقاومة وربما اعتبر المقاومة المشروعة إرهابا، فهناك إعلام يرى في عمل حزب الله في لبنان إرهابا ويرى في عمل المقاومة الفلسطينية إرهابا… ويرى في حركة الشعوب المستضعفة ضد أنظمة الحكم المستبدة إرهابا… ويرى في ارتفاع أي صوت يطالب بالحقوق والحريات إرهابا.
وهناك إعلام يرى في عمليات الإرهاب التي تستهدف الأبرياء والآمنين في العراق مقاومة.
إن هذا الخلط في الأوراق، والعناوين والممارسات محاولة هادفة إلى التزوير والتشويش، وإرباك الرؤية وتضليل الشعوب.


كلمة أخيرة عن الداخل


إن التجاذبات الحادة بين السلطة والجمعيات السياسية المعارضة في شأن الملف الدستوري أمر يبعث على القلق، إننا ندعو إلى عودة الحوار الهادئ، وإلى اعتماد المرونة والشفافية في التعاطي مع هذا الملف من أجل مصلحة الوطن، وحماية مسار الإصلاح، والتخفيف من كل الاحتقانات والتوترات.
– ما حدث أخيرا من اعتقال المشرف العام لملتقى البحرين الإلكتروني واثنين آخرين أمر أثار الكثير من المخاوف والأسئلة، وما نخشاه أن يترتب على ذلك بعض التداعيات، فما نتمناه أن تبادر الحكومة إلى إطلاق سراح المعتقلين، ومعالجة المسألة بطريقة أكثر هدوءا، وهنا نؤكد مسألتين:
أ- حرية الرأي والتعبير.
ب- أن تكون الكلمة نظيفة ومسئولة في كل وسائل التعبير.
– مازالت بعض الأقلام التي مارست التطاول والإساءة إلى المرجعية تحاول أن تبرر موقفها اللامسئول، وأن تخلط الأوراق في الحديث عما أسمته بالطائفية الدينية والطائفية السياسية، إننا ننصح هذه الأقلام ألا تتمادى في هذا الاتجاه الخاطئ لتوفر على هذا البلد الكثير من الإرباكات والتداعيات والتشنجات.
إن مواقف الرفض والاستنكار التي واجهت تلك الكلمات السيئة كانت تعبيرا عن الولاء الصادق للمرجعية الدينية، وتعبيرا عن الحرص المخلص على وحدة الصف، ولأمن هذا البلد واستقراره… وإذا كان يحلو لتلك الأقلام أن تتمادى في هذا الاتجاه الذي يزرع الحقد والعداوة والفتنة، فعليها وعلى كل المعنيين تحمل مسئولية كل النتائج.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى