حديث الجمعة 650: موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)
مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول حديث الجمعة (650) تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 11 جمادى الأولى 1446هـ الموافق: 14 نوفمبر 2024 م
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
نلتقي مع موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)، هذا الموسم يحمل أهميَّة كبرى كونه يخصُّ أعظم امرأة في تاريخ الدُّنيا، فمنذ أوَّل أنثى حوَّاء وحتَّى نهاية الدُّنيا تبقى فاطمة بنت مُحمَّد (صلَّى الله عليه وآله) هي القمَّة والمَثل الأعلى في تاريخ المرأة، ورغم ما حفل به هذا التَّاريخ مِن نماذج نسائيَّة، إلَّا أنَّ الزَّهراء (عليها السَّلام) هي النَّموذج الأرقى، هكذا قالَ أبوها (صلَّى الله عليه وآله) في قولته الشَّهيرة: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِين، …».([1]) (بحار الأنوار، ك 10، العلَّامة المجلسي، ص 31)
وأبدأ حديثي بالتَّذكير بقِيمة المواسم الدِّينيَّة.
المواسمُ الدِّينيَّةُ لها قِيمتها الكبرى متى وُظِّفتْ توظيفًا جادًّا وهادفًا، فليست القِيمة بعدد الأيَّام التي تُحيا فيها المناسبات الدِّينيَّة، وإنَّما القِيمةُ كلُّ القِيمةِ بمستوى الإحياء، وبفاعليَّة الإحياء، هنا يكون للعدد قِيمتُه.
وكيف نعطي لهذه المواسم الدِّينيَّة قِيمتَها وفاعليَّتَها؟
إنَّها مسؤوليَّة حَمَلَة الخطاب الدِّينيِّ مِن علماء وخطباء وشعراء ورواديد ومثقَّفين …
فإذا انخفض مستوى الخطاب انخفض مستوى هذه المواسم الدِّينيَّة.
وحينما نتحدَّث عن مستوى الخطاب نتحدَّث عن الأفكار والمضامين المطروحة، فكلَّما ارتقى هذا الطَّرح ارتقى هذا المستوى، وكلَّما انخفض هذا الطَّرح انخفض هذا المستوى.
هذا ما يتَّصل بمسؤوليَّة الخطاب وحَمَلَة الخطاب.
وهناك مسؤوليَّة ترتبط بجمهور هذه المواسم وحُضَّار هذه المواسم، مطلوبٌ جدًّا أنْ يكون هناك حضورٌ كبير، ومطلوبٌ جدًّا أنْ يكون هذا الحضور فاعلًا.
فحينما نريد أنْ نقيِّم المواسم الدِّينيَّة فمِن خلالِ مستويات العطاء، ومِن خلالِ مستويات الفاعليَّة والتَّأثير.
قد يُقال:
إنَّ إحياءَ هذه المواسم الدِّينيَّة
وإنَّ المشاركةَ في الحضورِ
هو بهدفِ الثَّوابِ والتَّقريبِ إلى الله سُبحانه وتَعالى.
هذا صحيحٌ جدًّا، فإنَّ هذه الإحياءاتِ والمشاركاتِ لها ثوابُها الكبير، الكبير جدًّا، إلَّا أنَّ هذا الثَّواب
وأجر يتحدَّد مِن خلالِ ثلاثة معايير:
المعيارُ الأوَّل: مستوى الإخلاصِ لدى حَمَلَة الخطاب، ولدى حُضَّار هذه ا المواسم.
المعيارُ الثَّاني: مستوى الطَّرح والعطاء الفكريُّ والرُّوحيُّ والأخلاقيُّ.
المعيارُ الثَّالث: مستوى التَّمثُّل والالتزام والفاعليَّة.
فكلَّما ارتقت هذه المستويات (الإخلاص، الطَّرح، التَّمثُّل) ارتقى الثَّواب، وكلَّما انخفضت هذه المستويات انخفض الثَّواب.
بعد هذه المُقدِّمة نعرِّج بالحديث إلى (موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)) بما يحمله هذا الموسم مِن مضامين كبرى ودلالات استثنائيَّة، مِمَّا يحمِّلنا مسؤوليَّات كبيرة فيما يطرحه خطابُ هذا الموسم، وفيما يتمثَّله حُضَّارُ هذا الموسم.
وقد تمَّ اختيارُ عنوانٍ لموسمِ هذا العام، هذا العنوان هو:
(الدَّورُ التَّربويُّ والرِّسَاليُّ للمرأة)
وهنا سؤالٌ كبير يُطرح:
هل تتحمَّلُ المرأةُ مَسْؤُوليَّاتٍ تربويَّةً وثقافيَّةً واجتماعيَّةً وسياسيَّة؟
في الإجابة عن هذا السُّؤال هناك ثلاثة اتِّجاهات:
اتِّجاه يحاول أنْ يجمَّد دور المرأة الثَّقافيِّ والتَّربويِّ والاجتماعيِّ والسِّياسيّش.
واتِّجاه يحاول أنْ ينحرف بدور المرأة.
هذا الاتِّجاه ينطلق بدور المرأة ولكن مِن خلالِ منظورٍ منحرفٍ عن الإسلام.
واتِّجاه ثالث يحاول أنْ يُؤصِّل دور المرأة في خطِّ الإسلام أي يريد للمرأة أنْ تنشط ولكن مِن خلالِ منظورٍ إسلاميٍّ.
هذه ثلاثُة اتِّجاهاتٍ، ولكلِّ اتِّجاه رؤيته في التَّعاطي مع واقع المرأة في هذا العصر بكلِّ تحدِّيَّاته الصَّعبة، وبكلِّ منزلقاته الخطيرة.
أحاول في هذه الكلمة العاجلة أنْ أقارب هذه الاتِّجاهات مقاربةً سريعةً.
أبدأ بالاتِّجاه الأوَّل:
وهو الاتِّجاه الذي يُشكِّل تجميدًا لدور المرأة، فلا يسمح للمرأة أنْ تُمارس أيَّ عملٍ تربويٍّ أو ثقافيٍّ أو اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ في خارج نطاق البيت.
وقد اعتمد هذا الاتِّجاه بعض أدلة:
مِن هذه الأدلَّة
الرِّوايات التي تؤسِّس لبقاء المرأة في بيتها وأنْ لا ترى الرِّجال ولا يراها الرِّجال.
- جاء في كتاب وسائل الشِّيعة للحرِّ العامليّ عن أميرِ المؤمنين (عليه السَّلام) قالَ:
«كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) فَقَالَ: أَخْبِرُونِي أَيُّ شَيْئ خَيْرٌ لِلنِّسَاءِ؟ فَعَيِينَا بِذَلِكَ كُلُّنَا – أي عجزنا عن الإجابة –([2]) حَتَّى تَفَرَّقْنَا، فَرَجَعْتُ إِلَى فَاطِمَةَ (عليها السَّلام) فَأَخْبَرْتُهَا بالَّذِي قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا عَلِمَهُ وَلَا عَرَفَهُ، فَقَالَتْ فاطمة (عليها السَّلام): وَلَكِنِّي أَعْرِفُهُ، خَيْرٌ لِلنِّسَاءِ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَلَا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَأَلْتَنَا: أَيُّ شَيْئٍ خَيْرٌ لِلنِّسَاءِ؟ خَيْرٌ لَهُنَّ أَنْ لَا يَرَيْنَ الرِّجَالَ وَلَا يَرَاهُنَّ الرِّجَالُ، فقَالَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): مَنْ أَخْبَرَكَ، فَلَمْ تَعْلَمْهُ وَأَنْتَ عِنْدِي؟ فقُلْتُ: فَاطِمَةُ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي».([3]) (وسائل الشِّيعة، ج 20، الحرُّ العامليّ، ص 67)
هنا بعض ملاحظات على هذه الرِّواية:
الملاحظة الأولى: الرِّواية ضعيفة سندًا.
الملاحظة الثَّانية: المضمون فيه خدش، حيث يتَّهم عليًّا بالعجز وعدم القدرة على الجواب وإنْ كان على حساب إثبات فضيلة إلى الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام).
وممَّا يؤكِّد هذه الإساءة استغراب الرَّسول (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) مِن معرفة الإمام عليٍّ للجواب.
الملاحظة الثَّالثة: تتنافى هذه الرِّواية مع الواقع التَّاريخيِّ للمرأة المسلمة في عصر الرِّسالة.
الملاحظة الرَّابعة: لو سلَّمنا بصحَّة الرِّواية فهي تمثِّل توجيهًا أخلاقيًّا لخلق حالة العفاف عند المرأة، وابتعادها عن كلِّ الأجواء المختلطة الفاقدة للضَّوابط الإسلاميَّة، ولا تدل على التَّجميد المُطلق لأيِّ حَراك في خارج البيت.
مِن المبرِّرات التي يطرحها أصحاب الاتِّجاه الأوَّل:
المرأة مسؤولة أنْ تمارسَ دورَها في داخل البيت:
– أداء حقوق الزَّوج.
– رعاية الأولاد.
– خدمات البيت.
هنا ملاحظات:
1- خدمات البيت هل هي جزء مِن مسؤوليَّات المرأة؟
الأصل ليست جزءًا إلَّا إذا كان هناك شرطٌ لفظيٌّ أو ضمنيٌّ، ورُبَّما يذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ ما جرى عليه العرف مِن خدمة المرأة لزوجها يشكِّل شرطًا ضمنيًّا.
2- وقد أكَّدت الرِّوايات القِيمة الكبرى للزَّوجة المثاليَّة.
- جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) وقالَ: إِنَّ لِي زَوْجَةً إِذَا دَخَلْتُ تَلَقَّتْنِي، وَإِذَا خَرَجْتُ شيَّعتني، وَإِذَا رَأَتْنِي مَهْمُومًا قَالَتْ: مَا يُهِمُّكَ؟ إِنْ كُنْت تهتم لِرِزْقِكَ فَقَدْ تَكَفَّلَ بِهِ غَيْرُكَ، وَإِنْ كُنْتَ تَهْتَمُّ بِأَمْرِ آخِرَتِكَ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا.
فقالَ لَهُ النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «بشِّرها بالجنَّة، وقلْ لها: إنَّكِ عاملة مِنْ عُمَّالِ الله، ولكِ في كلِّ يوم أجر سبعين شهيدًا [أو لها نصف أجر الشَّهيد]».([4]) (مكارم الأخلاق، ص 200، الطَّبرسي)
بقي أنْ نتحدَّث عن خروج المرأة مِن البيت، فهل هو جائز، أو يشترط فيه إذن الزَّوج؟
هذا بحث نتناوله في حديثٍ قادم – إن شاء الله تعالى –.
ونأمل أنْ يتناول خطاب المنبر عنوان الموسم تناولًا جادًّا وواعيًا وبصيرًا، لما يحمله مِن أهميَّة استثنائيَّة، خاصَّة وأنَّ التَّحدِّيات التي تواجه المرأة المسلمة في هذا العصر تحدِّيات في غاية الصُّعوبة والخطورة، وقد سقط أعدادٌ غير قليلة مِن نساء أُمَّتنا أمام هذه التَّحدِّيات، وإنْ استطاعت أعدادٌ كبيرة مِن الصُّمود في زحمة هذا المدّ مِن التَّحدِّي.
وآخرُ دَعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
[1]– المجلسي: بحار الأنوار 10/31 (ك: تاريخ الزَّهراء والحسنين [عليهم السَّلام]، ب: مناقبها وفضائلها، 46- قب).
[2] هذه الإضافة توضيحيَّة من سماحة السَّيد لا من المصدر نفسه.
[3] الحرُّ العاملي: وسائل الشِّيعة 20/67، (ك: النّكاح، ب 24: استحباب حيس المرأة في بيتها أو بيت زوجها …)، ح [25054] 7.
[4] الطَّبرسي: مكارم الأخلاق، ص 200، (ب 8: في النّكاح، ف 2: في أصناف النّساء وأخلاقهن).