في ذكرى ميلاد الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه): ماذا يعني أن يكون الإحياء لهذه المناسبة كبيرًا؟
14 شعبان 1443 هـ - الموافق 18 مارس 2022 م | ألقيت لمأتم النعيم الجنوبي بمناسبة ذكرى ولادة الإمام المهديِّ المنتظر (عجَّل الله فرجه)
هذه الكلمة لسماحة العلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، والتي ألقيت لمأتم النعيم الجنوبي بمناسبة ذكرى ولادة الإمام المهديِّ المنتظر (عجَّل الله فرجه)، وقد تمَّ بثُّها عبر البثِّ الافتراضي في يوم الجمعة (ليلة السَّبت)، بتاريخ: (14 شعبان 1443 هـ – الموافق 18 مارس 2022 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
في ذكرى ميلاد الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه)
ماذا يعني أن يكون الإحياء لهذه المناسبة كبيرًا؟
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغويّ الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّد، وعلى آله الطَّيِّبين الطَّاهرين المعصومين المنتجبين الأخيار الأبرار.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا ورحمة الله وبركاته.
أبارك لكم هذه المناسبة العظيمة، سائلًا المولى القدير أن يجعلها مناسبة أمنٍ وأمانٍ وخيرٍ وسلام.
أيُّها الأحبَّة الكرام:
1- في هذه اللَّيلة المباركة نلتقي بمناسبة كبيرة جدًّا.
مناسبة تحمل عنوان الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) كيف لا تكون مناسبة كبيرة جدًّا.
ومناسبة تحمل عنوان الإمامة الخاتمة كيف لا تكون كبيرة جدًّا.
ومناسبة تحمل عنوان النِّصف من شعبان كيف لا تكون مناسبة كبيرة جدًّا.
لذلك مطلوب أنْ يكون الإحياء لهذه المناسبة كبيرًا جدًّا.
وهنا نطرح هذا السُّؤال:
• ماذا يعني أن يكون الإحياء لهذه المناسبة كبيرًا جدًّا؟
(1) هل يعني ذلك أن تكون أعداد الاحتفالات كبيرة؟
هذا الأمر مطلوب جدًّا بلا إشكال، أن تتعدَّد الاحتفالات.
وإن كان وجود إحياءات مركزيَّة مهم جدًّا.
إحياءات مركزيَّة على مستوى كلِّ منطقة، وإحياء مركزيٌّ على مستوى البلد بكامله.
ويمكن اختيار غير ليلة المناسبة للإحياءات المركزيَّة.
ليلة المناسبة تكون مفتوحة لكلِّ المواقع، لكلِّ الحُسينيَّات، لكلِّ المراكز، وتبقى القيمة للإحياء المركزي إذا لم يكن في نفس ليلة المناسبة.
إذًا أن تكون أعداد الاحتفالات كبيرة هو أمرٌ مطلوب، ولكن ليس هذا معنى الإحياء الكبير، ويبقى للإحياء الكبير معنى غير ذلك.
(2) هل يعني ذلك (الاحتفال الكبير) أن تكون مظاهر الإحياء كبيرة؟
(زينات، مظاهر، أضواء).
هذا أمر مطلوبٌ جدًّا؛ لأنَّه:
– يُعبِّر عن قِيمة المناسبة.
– ويكرِّس التَّأثير في نفوس الجماهير.
إلَّا أنَّه لا يُعطي للإحياء معناه الكبير.
التحذير من المظاهر غير المشروعة
الحذر كلُّ الحذر من المظاهر غير المشروعة
وهنا ألفت النَّظر إلى ضرورة الحفاظ على المظاهر المشروعة، فنحن نرى ضرورة أن تكون المظاهر كبيرة، لكن يجب أن لا ينفلت الإحياء بحيث تكون هناك مظاهر غير مشروعة: اختلاط رجال ونساء، تبرُّج، مظاهر غير نظيفة كما تبرز في بعض المناطق.
نحذِّر ونحذِّر تحذيرًا شديدًا من أيِّ مظاهر تسيئ إلى سمعة هذه المناسبة.
الذين يسيئون إلى سمعة هذه المناسبة من خلال المظاهر غير الملتزمة هؤلاء لا يحترمون المناسبة، فهم يسيئون جدًّا إلى هذه المناسبة ولا يحترمونها ولا يقدِّرونها.
هذه مناسبة دِين، ومناسبة قِيم، ومناسبة أخلاق، ومناسبة ارتباط بالدِّين وبالإسلام وبالقرآن وبأهل البيت (عليهم السَّلام)، فأن تنفلت مظاهر إحيائيَّة هنا أو هناك فهي إساءة.
إذًا المظاهر الإحيائية الكبيرة مطلوبة إذا كانت مشروعة، لكن ليس هذا معنى الإحياء الكبير.
(3) هل يعني (الإحياء الكبير) أن يكون التَّفاعل مع الذِّكرى كبيرًا؟
بأن تكون العواطف، والانفعالات، والمشاعر كبيرة؟
وأن يرتقي ويرتفع مستوى منسوب المشاعر في هذه المناسبة؟
هذا مطلوبٌ جدُّا لأنَّه:
يُعبِّر عن حضور المناسبة في مشاعر النَّاس.
إلَّا أنَّ هذا لا يُعطي للإحياء معناه الكبير.
(4) هل يعني (الإحياء الكبير) أنْ تكون البرامج الاحتفاليَّة كبيرة؟
هذا أيضًا مطلوب جدًّا بلا اشكال لأنَّه:
يعبّر عن درجة الاهتمام بهذه المناسبة.
إلَّا أنَّه لا يُعطي للإحياء معناه الكبير.
يبقى السُّؤال مطروحًا:
• ماذا يعني أنْ يكون الإحياءُ كبيرًا؟
نحن أمام مناسبة كبيرة، والمطلوب أن يكون الإحياء كبيرًا، فإذا كانت كلُّ هذه الإجابات لا تُمثِّل معنى الإحياء الكبير رغم أنَّها مطلوبة، ولا أقلِّل من قيمتها لكنَّها لا تعني الإحياء الكبير، فإنَّ السُّؤال يبقى مطروحًا:
ماذا يعني أن يكون الإحياءُ كبيرًا؟
والإجابة الواعية عن هذا السُّؤال تضعنا أمام الاستفادة الكبيرة لهذا الإحياء، ولهذا التَّعاطي مع هذه المناسبة.
في الإجابة عن هذا السُّؤال نضع مجموعة محدِّدات مهمَّة جدًّا:
نحن نريد إحياءً كبيرًا لمناسبة النِّصف من شعبان، نريد إحياء كبيرًا لمناسبة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه).
ما هي محدِّدات هذا الإحياء الكبير؟
ما هي شروط هذا الإحياء الكبير؟
ما هي مكوِّنات هذا الإحياء الكبير؟
أتناول بشكلٍ موجز أهم المحدِّدات للإحياء الكبير:
محدِّدات الإحياء الكبير
المحدِّد الأوَّل: أنْ نملك درجةً كبيرةً من البصيرة بقيمة هذه المناسبة.
إذا ارتقى مستوى الوعي كان الإحياء كبيرًا، وإذا انخفض مستوى الوعي ومستوى البصيرة كان الإحياء ضعيفًا.
إذًا هذا معيار ومحدِّد، فإذا أردت إحياءً كبيرًا عليك أن ترتقي بمستوى وعيك للمناسبة.
إذا استطاع الاحتفال أن يرتقي بمستوى الوعي، وبمستوى ثقافة المناسبة إذًا هذا احتفال كبير؛ لأنَّه أعطى منسوبًا كبيرًا من الوعي بقضيَّة الإمام المهدي (عليه السَّلام)، وبقضيَّة الانتظار، وبقضيَّة الدِّين.
بشكلٍ عام إذا استطعنا أن نرتقي بهذا المنسوب من الوعي، وبهذا المنسوب من الثَّقافة، وبهذا المنسوب من البصيرة الإيمانيَّة بقضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إذًا نحن أعطينا المناسبة حجمها الكبير.
الاحتفالات والإحياءات التي لا تستطيع أن ترتقي بمنسوب الوعي هي ليست إحياءات كبيرة، وإنَّما هي إحياءات صغيرة وضعيفة.
الإحياء القوي، والإحياء الكبير هو الذي يرتقي بمستوى أو بمنسوب الوعي والثَّقافة والفهم، وبمستوى الوعي والبصيرة بقيمة هذه المناسبة.
الإمام المهدي يُمثّل الإمامة الخاتمة.
ففي الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمدوَّن في الكثير من المصادر الإسلاميَّة الشِّيعيَّة والسُّنِّيَّة – بصيغ متعدِّدة – يقول:
• «الأئمَّة اثنا عشر أوَّلُهُم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) وآخِرُهُمُ القائم …».(1)
إذًا نحن عندما نحتفل بذكرى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نحتفل بذكرى الإمامة الخاتمة.
هذه بصيرتنا، وهذا وعينا بالقضيَّة.
والإمام المهدي (عج) هو المخلِّص للعالم في آخر الزَّمان.
وقد جاءت الرِّوايات عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمدوَّنة في مصادر المسلمين مؤكِّدة على هذه الحتميَّة الإيمانيَّة.
حتميَّة الخلاص هذه حتميَّة إيمانيَّة بلا إشكال.
فمسيرة البشر، والعالم كلُّه في النِّهاية إلى الخلاص.
الخلاص على يد مَن سيكون في آخر الزَّمان؟
الخلاص سيكون على يدِ الإمام المهديِّ المنتظر (عليه السَّلام)، بغضِّ النَّظر عن الخلافات في المصداق التَّطبيقي لهذا المخلِّص، نحن نقول أنَّه هو المهديّ من آلِ محمَّد (عليهم السَّلام)، والإمام الثَّاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السَّلام)، وعلى يده سيكون الخلاص للعالم، وانتصار الحقِّ على الباطل، وانتصار العدل على الظُّلم، وانتصار الإسلام على كلِّ المذاهب والأديان الأخرى.
هذا مصير ونهاية العالم.
أنت عندما تحتفل فإنَّك تحتفل بـالمخلِّص الأكبر للعالم.
• عن النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) كما في مصادر المسلمين – لا أستثني مصدرًا سُنِّيًّا أو شِيعيًّا -:
«أُبَشِّرُكُم بِالمَهدِيِّ يُبعَثُ في أُمَّتي عَلَى اختِلافٍ مِنَ النَّاسِ، …».
في زمن صراعات، تجاذبات، ارهاصات خطيرة، ظلم كبير، عدوان، فساد، انحراف، خلافات.
«أُبَشِّرُكُم بِالمَهدِيِّ يُبعَثُ في أُمَّتي عَلَى اختِلافٍ مِنَ النَّاسِ وزِلزال – أو زَلازِلَ –(2)، فَيَملَأُ الأَرضَ قِسطًا وعَدلًا كَما مُلِئَت ظُلمًا وجَورًا، …».(3)
وأنت تحتفل بمناسبة بهذا المستوى، لابدَّ أن يكون هذا الوعي حاضرًا، حتى يكون الاحتفال كبيرًا.
• وفي حديثٍ آخر عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«لَو لَم يَبْقَ مِن الدُّنيا إلَّا يَومٌ لَطوَّلَ اللهُ ذلكَ اليومَ حتَّى يَليَ رَجُلٌ مِن أهلِ بيتي».(4)
باتفاق المسلمين أنَّ هذا المخلِّص من أهل بيت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وباتفاق المسلمين أنَّ هذا المخلِّص من ولدِ عليٍّ وفاطمة، يبقى الخلاف في المصاديق، وليكن هذا الخلاف، ولتكن هناك حوارات في هذا الجانب.
إذًا هناك مخلِّص ونحن نحتفل به.
• وفي حديث ثالث عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):
«لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنيا إلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اللهُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يملؤها عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا».(5)
كيف يتعاطى جمهورنا مع هذه المناسبة؟
هل يتعاطى مع حجمها الكبير بهذا المعنى الواعي لقيمة هذه المناسبة في الكون، والعالم، ومسار البشريَّة كلِّها؟
يمكن أن نصنِّف جمهورنا في التَّعاطي مع هذه المناسبة إلى ثلاث مستويات.
الذين يعيشون هذه المناسبة على مستوى الوعي، وعلى مستوى الثَّقافة، وعلى مستوى البصيرة، وعلى مستوى الفهم، والذين يحيون هذه المناسبة فإنَّهم يُصنَّفون إلى ثلاثة مستويات:
1- مستوى يملك بصيرة منخفضة بقيمة هذه المناسبة
لا يفهم المناسبة إلَّا فرحٌ ولونٌ من المظاهر التي تمارسها النَّاس عادة، ليس أكثر من هذا، فهذا جمهور منخفض الوعي، يعيش الفرح وربَّما الفرح الكبير، لكنَّه لا يملك وعيَ وبصيرة وثقافة المناسبة.
2- مستوى يملك بصيرة متوسطة
بصيرة ليست منخفضة ولا مرتفعة، بين الارتفاع وبين الانخفاض.
3- ومستوى يملك بصيرة عالية
هناك مستوى عالٍ من الفهم، عندما يحتفل يفهم لماذا يحتفل بهذا اليوم وبهذه اللَّيلة.
هذه المناسبة ما هي قيمتها في منظور الدِّين، والإسلام، والكون، والعالم.
يفهم تمامًا لماذا يعيش هذه المناسبة.
وهنا تأتي مسؤوليَّة القائمين على هذه الاحتفالات في أن يرتقوا بمستوى (البرامج الاحتفاليَّة).
فيما هي الكلمات.
وفيما هي الأشعار.
وفيما هي بقيَّة فعَّاليَّات الاحتفاء (الاحتفالات).
هذه هي التي تصنع وعي النَّاس.
إذا ارتقى مستوى عطاء هذه المناسبات الفكري الثَّقافي الإيماني، يرتقي مستوى وعي النَّاس.
فحتى نرتقي بوعي النَّاس بهذه المناسبة، نحتاج أن نرتقي بمستوى الاحتفالات، وألَّا تكون مجرَّد حالة تقليديَّة لا تصنع وعي النَّاس، ولا تُغيِّر شيئًا من وعي النَّاس.
وهنا تأتي مسؤوليَّة المشاركين من:
أ- علماء
ب- خطباء
ج- أدباء
د- شعراء
ه- وكلِّ المشاركين
فهم الذين يصنعون وعي النَّاس بهذه المناسبة.
ومسؤوليَّتهم أن يرتقوا بمستوى الطَّرح.
– فيما هي المضامين
– وفيما هي اللُّغة
– وفيما هو الأسلوب.
فكلَّما ارتقى مستوى الطَّرح ارتقى مستوى التَّأثير والفاعليَّة، وارتقى مستوى بناء أجيال الانتظار بناء واعيًا بصيرًا.
نحن نرحِّب بـ (الجلوات)، ونرحِّب بالمظاهر العاطفيَّة المهمَّة، فهذه أمور ضروريَّة، ولا نقلِّل من قيمتها، لكن لا بدَّ من الوعي بقيمة هذه المناسبة.
اصنعوا وعي النَّاس بقضيَّة الإمام المهدي (عليه السَّلام)، واصنعوا ثقافة النَّاس بقضيَّة الإمام المنتظر (عليه السَّلام).
إذًا الحاجة كبيرةٌ إلى بناء أجيال الانتظار، في هذا العصر الذي يزدحم بثقافات الانحراف والضَّلال.
وثقافة الانحراف والضَّلال في هذا العصر تعتمد أحدث (التَّقنيات والأدوات).
فهل تواجه ثقافة الانحراف بثقافةٍ منخفضةٍ؟
وهل تواجه بلغةٍ منخفضة؟
وهل تواجه بأساليب منخفضة؟
وأخلص إلى القول: إنَّ أوَّل المحدِّدات لإعطاء هذه الاحتفالات معناها الكبير؛ أن تكون قادرة على أن ترتقي بثقافة الانتماء إلى خطِّ الانتظار؛ من أجل صناعة أجيال واعية وبصيرة.
لقد أكَّدت الرِّوايات أنَّ أصحاب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هم (أصحاب البصائر).
وبحسب مصطلحات عصرنا الحاضر (يملكون درجةً عالية من الوعي الإيماني، والثَّقافة الإيمانيَّة).
فإذا استطاعت هذه الإحياءات والاحتفالات أن ترتقي بمستوى وعي أجيال الانتظار كانت إحياءاتٍ واحتفالاتٍ كبيرة.
وإلَّا فهي صغيرة صغيرة مهمَّا توفَّرت عليه من مظاهر كبيرة، ومهما توفَّرت عليه من أصداء مرتفعة، ومهما توفَّرت عليه من مراسيم حاشدة.
المحدِّد الثَّاني- من المحدّدات التي تعطي للإحياء معناه الكبير -: أن يملك هذا الإحياء القدرة على إنتاج المستوى العالي من (روحانيَّة الانتماء لخطِّ الانتظار).
إنتاج البصيرة أمرٌ مهمٌ جدًّا.
إلَّا أنَّ قيمة البصيرة حينما تنتج روحانيَّة عالية لخط الانتظار.
والرَّوحانيَّة حبٌ لله متجذِّر في القلب.
والرَّوحانيَّة حياء من الله.
والرَّوحانيَّة خوفٌ ورجاء.
المنتظرون الحقيقيون هم عُشَّاق الله.
الوجلون من خشية الله، الواثقون برحمة الله.
وكما وصفتهم الرِّوايات:
• «…، رِجالٌ لا يَنامونَ اللَّيلَ، لَهُم دَوِيٌّ في صَلاتِهِم كَدَوِيِّ النَّحلِ، …».(6)
• «…، رُهبانٌ بِاللَّيلِ لُيوثٌ بِالنَّهارِ، …».(7)
فلا قيمة لهذه المناسبات إذا غذَّت العقل بالمفاهيم ولكنّها لم تغذِّ القلب بالرَّوحانيَّة.
كما أنَّ الرَّوحانيَّة التي لا تحمل بصيرة هي روحانيَّة ساذجة ومتخلِّفة.
هنا يجب أن تتزاوج العلاقة بين العقل والرُّوح.
فإحياءات لا تنتج وعيًا إحياءات فاشلة.
وإحياءات لا تنتج روحانيَّة إحياءات فاشلة.
مهما ملكت من أصداءَ وعناوينَ ومظاهر.
المحدِّد الثَّالث – من المحدِّدات التي تعطي للإحياء معناه الكبير-: أن يملك هذا الإحياء القدرة على إنتاج المستوى العالي من (تقوى الانتماء لخط الانتظار).
المنتظرون أتقياء، صلحاء، نبلاء، طاهرون في سلوكهم، في أخلاقهم.
إنسانٌ فاسدٌ فاسقٌ فاجرٌ ليس منتظرًا، ليس هؤلاء هم المنتظرون.
المنتظرون يملكون درجة عالية من التَّقوى والصَّلاح والنُّبل والطُّهر في سلوكهم.
• في الرِّوايات أنَّ أصحاب الإمام المهدي (عليه السَّلام) هم: صلحاء، نجباء.(8)
• وفي الرِّوايات عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «مَن سَرَّهُ أن يَكونَ مِن أصحابِ القائِمِ فَليَنتَظِر، وَليَعمَل بِالوَرَعِ ومَحاسِنِ الأَخلاقِ وهُوَ مُنتَظِرٌ».(9)
أن تنتج هذه الاحتفالات وعي الانتماء لخط الانتظار، أمرٌ في غاية الأهميَّة.
وأن تنتج هذه الاحتفالات روحانيَّة الانتماء لخط الانتظار أمرٌ في غاية الأهميَّة.
ولكن تبقى القيمة حينما يتحوَّل الوعي تمثُّلًا، وحينما تتحوَّل الرَّوحانيَّة سلوكًا.
هكذا تتزاوج العلاقة بين المفاهيم والقِيم والممارسات.
غياب المفاهيم ينتج انتظارًا مُتخلِّفا.
وغياب القِيم ينتج انتظارًا تائهًا.
وغياب السُّلوك ينتج انتظارًا لا يملك واقعًا.
وهنا أكرِّر التَّأكيد على ضرورة الحذر كلّ الحذر من الممارسات المنفلتة، والتي تسيئ كلّ الإساءة إلى هذه المناسبة العظيمة.
إحياء المناسبة بفسقٍ وفجور، وباختلاطٍ ومظاهر تبرُّج، هل هذا إحياء؟!
أين تقوى الانتظار؟ أين صلاح الانتظار؟
فهذه الممارسات لا تصدر إلَّا عن جهلةٍ متخلِّفين، أو عابثين مغرضين.
الذين يمارسون مظاهر الفساد في هذه المناسبة (اختلاط، انفلات) إمَّا متخلِّفين في وعيهم، وإمَّا أُناس عابثين يريدون الإساءة لهذه المناسبة، فالحذر الحذر من أيِّ ممارسة تسيئ إلى سمعة المناسبة.
المحدِّد الرَّابع – من المحدِّدات التي تعطي لإحياء هذه المناسبة معناها الكبير-: أنْ يملك الإحياء القدرة على إنتاج المستوى العالي من (فاعليَّة الانتماء لخطِّ الانتظار).
في المحدِّد الأوَّل تحدَّثنا عن البصيرة، والوعي.
وفي المحدِّد الثَّاني تحدَّثنا عن الرَّوحانيَّة.
وفي المحدِّد الثَّالث تحدَّثنا عن السُّلوك.
بقي محدِّدٌ في غاية الأهميَّة وهو المحدِّد الرِّسالي.
فالرِّساليَّة تعني توظيف القدرات الذِّهنية والنَّفسية والعمليَّة في خدمة أهداف الرِّسالة، بشرط أن يكون هذا التَّوظيف محكومًا لضوابط الدِّين والشَّرع، وليس منفلتًا.(10)
فالرِّساليَّة أنْ أدعو إلى الله.
والرِّساليَّة أنْ آمر بمعروف وأن أنهي عن منكر.
والرِّساليَّة أن أمارس الإصلاح في المساحات التي أتوفَّر فيها على قدرة الإصلاح.
ربَّما أملك قدرة الإصلاح في أسرتي.
وربَّما أملك قدرة الإصلاح في قريتي.
وربَّما أملك قدرة الإصلاح في مساحة أوسع من قريتي.
وربَّما أملك قدرة الإصلاح في وطني.
وربَّما أملك قدرة الإصلاح في مساحة أوسع من ذلك.
ويكفي أنْ أكون داعية إصلاح إذا لم أتوفر على الشُّروط الموضوعيَّة لتحقيق الإصلاح.
• جاء في سورة هود على لسان نبيِّ الله شعيب (عليه السَّلام):
{… إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.(11)
أيُّها الأحبَّة:
مطلوبٌ منَّا ونحن نحتفل بذكرى الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه):
1- أنْ نؤسِّس لانتظارٍ واعٍ.
2- أن نؤسِّس لانتظارٍ صادق.
3- أن نؤسِّس لانتظارٍ ملتزم.
4- أنْ نؤسِّس لانتظارٍ فاعلٍ.
وبقدر ما تتكامل هذه المكوِّنات يتشكَّل الانتظار الأكمل.
وغياب أيَّ مكوِّنٍ من هذه المكوّنات يحدث خللًا في مستوى الانتظار.
وحينما نتحدَّث عن (فاعليَّة الانتظار) لا نتحدَّث عن ممارسات منفلتةٍ غير محكومة لضوابط.
صحيح مطلوبٌ أنْ نقول كلمة الحق.
وصحيح مطلوبٌ أنْ ندعو إلى الله، وأنْ نأمر بمعروف، وأن ننهى عن منكر.
وصحيح مطلوبٌ أنْ نكون دعاة إصلاح.
ولكن قبل أن نقول الكلمة، وأن نمارس الدَّعوة إلى الله، وأن نأمر بمعروف وننهى عن منكر.
وقبل أن نكون دعاة إصلاح.
قبل كلِّ ذلك:
مطلوبٌ أن نملك الوعي والبصيرة.
ومطلوبٌ أن نملك القِيم والمُثل.
ومطلوبٌ أن نملك التَّقوى والصَّلاح.
وإلَّا انحرفت مسارات الكلمة، والدَّعوة والإصلاح.
لماذا انحرف دُعاة العُنف والتَّطرُّف؟
لأنَّهم لا يملكون بصيرة الدِّين.
ولأنَّهم لا يملكون قِيم الدِّين.
ولأنَّهم لا يملكون تقوى الدِّين.
مهما حملوا من شعارات كاذبة.
مع هموم النَّاس المعيشيَّة
وفي سياق الحديث عن الدَّعوة والإصلاح، مطلوب أن تلامس الكلمة هموم النَّاس الحقَّة.
المنتظرون دعاة إصلاح بالكلمة البصيرة الواعية، والأساليب النَّظيفة الهادئة.
المنتظرون يعيشون هموم النَّاس، وقضاياهم.
وما أكثر هذه الهموم، وخاصَّة الهموم المعيشيَّة.
ففي هذا الوطن الحبيب – وأنا أتحدَّث عن وطني هنا-، ففي هذا الوطن الحبيب الغالي على قلوبنا جميعًا، نسمع شكاوى وآهات ما كنَّا نتمنَّى أنْ نسمعها.
فمن ضرائب مرهقة بالنِّسبة لكثيرين مِمَّن تنوء بهم أعباءُ المعيشة، وتثقلُهُم حاجاتُ الحياة، فلا يملكون حتى لقمةَ العيشِ، وحتى ما يكسو أبدانَ أطفالِهم، هذا إنْ توّفَّرُوا على سكنٍ يأوي عوائلهم.
ومن قوانينَ لها آثارُها الكارثيَّةُ على أبناءِ هذا الوطنِ، كقانونِ التَّقاعدِ الذي يُرادُ تمريرَهُ عَبر مجلسِ النُّوابِ، فإنَّنا نطالبُ أن يُعاد النَّظرُ في هذا اللَّون من القوانين والتي تحمل تداعياتٍ صعبة، لا تتحمَّلها أوضاعُ هذا الوطنِ، ولا يتحمَّلُها أبناءُ هذا الوطن في ظلِّ تعقيدات معيشيَّةٍ ثقيلةٍ، يجب أنْ تتعاونَ كلُّ الجهودِ الرَّسميَّةِ وغيرِ الرَّسميَّة من أجل تجاوزِ هذه التَّعقيداتِ المعيشيَّة، وكلَّما تآزرت الجهودُ وصدقتْ النَّوايا أمكنَ الخلاصُ من كلِّ الأزماتِ بكلِّ امتداداتِها ومساحاتِها، وأمكن الانفتاحُ بأوضاعِ الوطنِ على كلِّ الآفاقِ الخيِّرة والمسَاراتِ الصَّالحةِ، وأمكنَ إنتاج كلِّ الخياراتِ الطَّيِّبة التي تؤسِّسُ لوطنِ المحبَّةِ والرَّفاهِ والخيرِ والصَّلاح.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَن الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
(1) المجلسي: بحار الأنوار 27/62.
(2) أحمد بن حنبل: مسند الإمام أحمد بن حنبل (ط الرسالة) 17/426.
(3) الطوسي: الغيبة، ص 206.
(4) يوسف بن يحيى المقدسي: عقد الدُّرر في أخبار المنتظر، ص 32.
(5) مهدي الفقيه إيماني: الإمام المهدي (ع) عند أهل السنة 2/282.
(6) المجلسي: بحار الأنوار 52/310.
(7) المجلسي: بحار الأنوار 52/310.
(8) عن جابر الجعفي قال: قال أبو جعفر (عليه السَّلام): «يبايع القائم بين الرُّكن والمقام ثلاثمائة ونيف عدَّة أهل بدر، فيهم النُّجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشَّام، والأخيار من أهل العراق، فيُقيم ما شاء الله أن يقيم». (الطُّوسي: الغيبة، ص 504، ح502)
(9) النعماني: الغَيبة، ص 207.
(10) المنتظرون رساليون، دُعاة حقّ، دُعاة إيمان، يأمرون بمعروف، ينهون عن منكر، يدعون إلى الله، دُعاة إصلاح، هؤلاء المنتظرون.
ليسوا كسالى، ليسوا عبَّاد مساجد فقط، ليسوا رهبان في اللَّيل فقط، رهبان باللَّيل ليوثٌ بالنَّهار.
ما معنى «رُهبانٌ بِاللَّيلِ، لُيوثٌ بِالنَّهار» ؟
يملكون درجة عالية من الرَّهبانيَّة والرَّوحانيَّة، ليوث يملكون رسالة الانتماء إلى خطِّ الانتظار.
يملك وعيًا يوظِّفه في خدمة الإسلام، يملك قدرة كلمة يوظِّفها في خدمة الإسلام، يملك قدرة مال يوظِّفه في خدمة الإسلام، يملك قدرة موقع وجاه يوظِّفه في خدمة الإسلام، بشرط أن يكون هذا التَّوظيف محكومًا لضوابط الدِّين والشَّرع، وليس منفلتًا.
(11) سورة هود: الآية 88.