نفحات رمضانيَّة (26) أحاديث للأمل في رحمة الله (1)
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة السَّادسة والعشرون ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الأحد بتاريخ: (26 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 9 مايو 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
أحاديث للأمل في رحمة الله (1)
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين المنتجبين الأخيار الأبرار.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ونحن على مشارف الأيام الأخيرة من الشَّهر الفضيل، نُذكِّر بما قلناه في الحديث الماضي بأنَّه يجب أن نتابع العمل؛ من أجل أن نحظى بالمزيد من فيوضات الله وعطاءاته في هذا الشَّهر، وبأنَّه لا بدَّ من الحذر كلَّ الحذر من حالة العُجب والغرور؛ فإنَّها تمحق العمل محقًا.
في هذا اللَّقاء أتناول بعض أحاديث تملؤنا رجاءً بلطف الله، ورحمته، وكرمه.
(الرَّجاء) عنوان مهمٌّ يملأ الإنسان ثقة، ويملأ الإنسان اطمئنانًا بعطاءات الله وفيوضاته الكريمة في هذا الشَّهر، وفي كلِّ وقت.
وهنا أضع بين أيديكم بعض أحاديث تضعنا أمام الأمل الكبير في رحمة الله تعالى.
الحديث الأوَّل: قِيمةُ الرَّجاء
•سأل بشر بن شريح البصري الإمام الباقر (عليه السَّلام):
أيَّةُ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ أرْجَى؟
[ما هي أعظم وأكثر آية تملأ الإنسان رجاءً برحمة الله وكرمه وعطاءه وفيوضاته؟]
-قَالَ الإمام الباقر (عليه السَّلام): «مَا يَقُولُ فِيهَا قَوْمُكَ؟»
-قَالَ بشر بن شريح: قُلْتُ: يَقُولُونَ: [هذه الآية] {… يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ …}. (الزُّمر/53)
[هذه أكثر آية تملؤنا رجاءً كما يقول شريح وقومه، مهما امتلأ الإنسان بالذُّنوب، ومهما امتلأ بالمعاصي يجب ألَّا يدخل في قلبه ذرة من يأسٍ من رحمة الله وكرمه.
{لَا تَقْنَطُوا}: الخطاب للمسرفين الذين أكثروا من الذُّنوب وغرقوا في الذُّنوب، الآية تقول لهم: {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}].
-قَالَ (عليه السَّلام): «لَكِنَّا – أهْلَ البَيْتِ – لَا نَقُولُ ذَلِكَ»
-قَالَ: قُلْتُ: فَأيّ شَيئٍ تَقُولُونَ فِيهَا؟ [أيُّ آية أرجى؟]
-قَالَ – عليه السَّلام -: نَقُولُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضُّحى/5) الشَّفَاعَةُ، وَاللهِ الشَّفَاعَةُ، وَاللهِ الشَّفَاعَةُ». (المجلسي: بحار الأنوار، 3/556، ح72)
[الآية التي تتحدَّث عن الشَّفاعة، شفاعة محمَّد وآل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هي أرجى آية في كتاب الله].
الحديث الثَّاني: المُنجيات مِن الهلاك
•قال الإمام زين العابدين (عليه السَّلام):
«لا يَهلِكُ مُؤمَنٌ بَينَ ثَلاثِ خِصال: شَهادَةِ أَن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ،
وشَفاعَةِ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَسَعَةِ رَحمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ».
(المجلسي: بحار الأنوار، 17/248)
حديثٌ عن الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، وهو حديث يملؤنا رجاءً وأملًا وثقةً برحمة الله الكبيرة الكبيرة، التي وسعت كلَّ شيئ، يا من رحمته وسعت كلَّ شيئ: الدُّنيا والآخرة، وإذا كان كلُّ ما في الدُّنيا من رحمة هو جزء من رحمةٍ أُجِّلت إلى يوم القيامة، كلُّ ما في هذه الدُّنيا من رحمة هو واحد من مئة جزء من رحمة الله، وتسعة وتسعين جزء من الرَّحمة مؤجَّلة إلى يوم القيامة، الرَّحمة التي ورد في الحديث أنَّه يتطاول إليها حتى عنق إبليس لما يرى من سعة رحمة الله وكرمه في ذلك اليوم، يتطاول إلى رحمة الله حتى إبليس مصدر الغواية والضَّلال في تأريخ الدُّنيا.
-«لا يَهلِكُ مُؤمَنٌ بَينَ ثَلاثِ خِصال»: لا يمكن أن يهلك الإنسان وأمامه هذه الخصال الثَّلاث، فهي منجيات من الهلاك.
ما هي الصِّفات الثَّلاث، أو الخصال الثَّلاث التي لا يهلك معها إنسانٌ يؤمن بها؟
1-«شَهادَةِ أَن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ».
2-«وشَفاعَةِ رسولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
3-«وَسَعَةِ رَحمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ».
إنَّها ثلاث صفات إذا عاشها الإنسان بثقةٍ وباطمئنانٍ وبصدقيَّةٍ؛ فإنَّه سيكون من النَّاجين بإذن الله تعالى، وهذا لا يعني أنَّه لا يعيش درجة الخوف، لكنَّ هذه الخِصال تملأ الإنسان رجاءً برحمة الله وبعطائه، وبكرمه.
شهادة أن لا إله إلَّا الله عنوان كبير جدًّا يجب أن نداوم عليه، وأن نعتقد به، وأن نملأ عقولنا بهذه الشَّهادة، وأن نملأ أرواحنا بهذه الشَّهادة، وأن نملأ كلَّ حياتنا بشهادة أن لا إله إلَّا الله.
ثمَّ إلى جانب هذه الشَّهادة شفاعة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، الشَّفاعة العظمى في يوم القيامة.
•عن رسول (صلَّى الله عليه وآله): «ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي». (المجلسي: بحار الأنوار، 3/542)
إذن شفاعة رسول الله عنوانٌ كبيرٌ، كبيرٌ جدًّا، يملؤنا ثقةً، ورجاءً، واطمئنانًا بعطاء الله الكبير الكبير الكبير، وسعة رحمته.
الحديث الثَّالث: ذنبٌ يُدخِل صاحبه الجنَّة
•روي عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) أنَّه قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُدْخِلُه الله بِه الْجَنَّةَ، قُلْتُ: يُدْخِلُه الله بِالذَّنْبِ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّه لَيُذْنِبُ فَلَا يَزَالُ مِنْه خَائِفًا مَاقِتًا لِنَفْسِه فَيَرْحَمُه الله فَيُدْخِلُه الْجَنَّةَ». (الكليني: الكافي، 2/426)
-«إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ فَيُدْخِلُه الله بِه الْجَنَّةَ». إنسان يرتكب الذَّنب فيدخل الجنَّة بارتكابه الذَّنب.
-«قُلْتُ [أي الرَّاوي]: يُدْخِلُه الله بِالذَّنْبِ الْجَنَّةَ؟!» إنَّه أمرٌ غريب، فالإنسان يدخل الجنَّة بالأعمال الطَّيِّبة الحَسنة، أمَّا أن يدخل الجنَّة بالذَّنب وبالمعصية فذلك أمرٌ غريب، ولذلك الرَّاوي استغرب: يُدْخِلُه الله بِالذَّنْبِ الْجَنَّةَ؟!
-قَالَ (عليه السَّلام): «نَعَمْ»: هنا بدأ الإمام (عليه السَّلام) يفسِّر كيف يُدخِل الذَّنبُ الإنسانَ الجنَّة، فالمعروف أنَّ الصَّلاة والصِّيام والطَّاعة واللُّجوء إلى الله والانقطاع إليه هي التي تُدخِل الجنَّة، وليس معصية الله، ومخالفته، واتِّباع الشَّيطان، واتِّباع الهوى!
-قَالَ (عليه السَّلام): «نَعَمْ، إنَّه لَيُذْنِبُ»: يُفسِّر الإمام كيف أنَّ الذَّنب يُدخِل الإنسان الجنَّة.
قَالَ: «إنَّه لَيُذْنِبُ»: يرتكب معصية، ويرتكب ذنبًا صغيرًا، أو كبيرًا.
«نَعَمْ، إِنَّه لَيُذْنِبُ فَلَا يَزَالُ خَائِفًا مَاقِتًا لِنَفْسِه»: حينما ارتكب معصية وذنبًا، هذا الذَّنب خلق هزَّة داخليَّة عِنده، وخلق طوفانًا نفسيًّا، وظلَّ هذا الإنسان قلِقًا خائِفًا: لماذا أذنب؟
ويظلُّ يوجِّه المقت واللَّوم الشَّديدين لنفسه، ويتألَّم لماذا أذنب، ويعيش الحَسرة والحُرقة لماذا أذنب، ويلوم نفسه ويعاتبها وينقدها أشدَّ النَّقد، حتى يصل إلى درجة المقت لنفسه، فيخاطبها مؤنِّبًا: أيُّتها النَّفس لماذا اِرتكبتِ هذه المعصية؟ لماذا اِرتكبتِ هذا الجُرم؟ فيظلُّ يؤنِّب نفسه ويمقتها.
-«فَيَرْحَمُه الله»: عندما يراه الله بهذه الصُّورة، وهو يعيش درجة القلق الشَّديد من المعصية، ويعيش درجة المقت الشَّديد لِنفسه.
«فَيَرْحَمُه الله فَيُدْخِلُه الْجَنَّةَ».
إذن، إنَّ الرَّجل ليذنب فيدخله الله به الجنَّة؛ لأنَّه تألَّم، وتأوَّه، ومقت نفسه، لِما صدر مِنه من ذنب، فيدخله الله الجنَّة.
الحديث الرَّابع: القيمة الكبرى للسُّجود
•قال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «جاءَ رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله)
فقالَ: يا رسولَ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) كَثُرَت ذُنُوبي وضَعُفَ عَمَلِي.
فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): أكثِرِ السُّجودَ فإنَّه يَحُطُّ الذُّنوبَ كما تَحُطُّ الرِّيحُ وَرَقَ الشَّجَرِ». (الصَّدوق: الأمالي، ص 589)
هذا الحديث مِنَ الأحاديث التي ترفع بمنسوب الرَّجاء والأمل في رحمة الله.
-«يا رسولَ اللهِ: كَثُرَت ذُنُوبي وضَعُفَ عَمَلِي».
الذُّنوب كثيرة، ازدحمت حياتي بها وليس عندي أعمال، وهذا أمرٌ طبيعي فالإنسان المؤمن دائمًا ما يُحبّ أن يستقِّل عمله، لا يشعر بأنَّه أعطى كلَّ شيئ لله، فكلَّما عمل الإنسان مِن عمل يرى عمله صغيرًا أمام عطاءات الله وكرمه وفيضه، فهذا يقول: يا رسول الله، أنا ذنوبي كثيرة، وازدحمت حياتي بالذُّنوب وضعف عملي إمَّا لمرض، أو لكِبر، أو ليس عندي عمل أصلًا.
-فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أكثِرِ السُّجودَ فإنَّه يَحُطُّ الذُّنوبَ كما تَحُطُّ الرِّيحُ وَرَقَ الشَّجَرِ».
كثرة السُّجود لله نافعٌ جدًّا، فالسُّجود هو قمَّة التَّذلَّل والخضوع لله.
الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يأمره هنا بالإكثار من السُّجود متضرِّعًا خاشعًا متذلِّلًا لله سبحانه وتعالى.
فإنَّ كثرة السُّجود، وطوله يحطُّ الذُّنوب كما تحطُّ الرِّيح ورق الشَّجر، كيف أنَّ الرِّيح إذا هبَّت تتساقط أوراق الأشجار، كذلك السُّجود يحطُّ الذُّنوب، ويفرِّغ الإنسان من المعاصي، فإنَّه يحطُّ الذُّنوب كما تحطُّ الرِّيح ورق الشَّجر، إذا كان فيه خشوعٌ وخضوعٌ وتذلَّلٌ لله، وإذا كان فيه لجوء إليه سبحانه وتعالى.
السَّاجد يقول: أنا لاجئٌ إليك يا الله، أنا متضرعٌ بين يديك، أنا خاضعٌ لك، أنا ذليلٌ بين يديك.
•وحديث ثان يؤكِد هذا المعنى أيضًا:
قال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «إِنَّ قَومًا أَتَوا رَسُولَ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، اضمَن لَنا عَلى رَبِّكَ الجَنَّةَ.
قال: فقال – صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: عَلى أَن تُعِينُونِي بِطُولِ السُّجُودِ.
قالُوا: نَعَم يا رَسُولَ اللهِ، فَضَمِنَ لَهُمُ الجَنَّةَ». (الطوسي: الأمالي، ص 675)
-«إِنَّ قَومًا أَتَوا رَسُولَ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، اضمَن لَنا عَلى رَبِّكَ الجَنَّةَ»
من يضمن له رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الجنَّة فإنَّه لا محالة من أهل الجنَّة، فهم يطلبون من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يضمن لهم الجنَّة، فماذا أجابهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟
-فقال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «عَلى أَن تُعِينُونِي بِطُولِ السُّجُودِ».
أنا أضمن لكم الجنَّة بشرط أن تُكثروا من السُّجود، وأن تُعينوني بطول السُّجود.
•حديث آخر عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في هذا المعنى أيضًا:
يقول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «…، وإذا أرَدتَ أن يَحشُرَكَ اللهُ مَعي – مع رسول الله – فَأطِلِ السُّجودَ بينَ يَدَي اللهِ الواحِدِ القَهَّارِ». (المجلسي: بحار الأنوار 18 ق 2/540، ح12)
إذن، أحد المنجيات والتي ترفع منسوب الأمل والرَّجاء في رحمة الله، وفي كرم الله هو طول السُّجود.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّد وعلى آله الطَّاهرين.