نفحات رمضانيَّة (18): هكذا تحدَّث أمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن القرآن الكريم – (2)
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة الثَّامنة عشر ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الجمعة بتاريخ: (18 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 1 مايو 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
هكذا تحدَّث أمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن القرآن الكريم – (2)
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين المعصومين المنتجبين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا زال الحديث متواصلًا حول الكلمات الصَّادرة عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) حول القرآن الكريم.
الكلمة الثَّانية
•يقول أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «
•«مَن أنِسَ بِتِلاوَةِ القرآنِ لم تُوحِشهُ مُفارَقَةُ الإخوانِ». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/734، [3305] الحثُّ على تلاوة القرآن)
مكوِّنات تشكيل العلاقة مع القرآن – (2)
المكوِّن الثَّاني: الانصهار والذَّوبان مع القرآن
لا يكفي أنْ تكون العلاقة مع القرآن (علاقة لسان)
تحدَّثنا في الكلمة الأولى لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن التِّلاوة، والتِّلاوة هي حركة اللِّسان، أي أن نحرِّك اللِّسان بذكر القرآن، لكن لا تكفي العلاقة مع القرآن أن تكون علاقة لسان فقط، فإنَّ العلاقة مع القرآن عن طريق اللِّسان مطلوبة، والتِّلاوة لها ثواب عظيم وكبير، لكنَّ العلاقة مع القرآن الكريم أكبر من ذلك.
فلا بدَّ أن تكون العلاقة مع القرآن الكريم (علاقة وجدان) و(علاقة قلب) و(علاقة روح)
هنا في هذه الكلمة الثَّانية لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) يتحدَّث عن هذه العلاقة الثَّانية مع القرآن: «مَن أنِسَ بِتِلاوَةِ القرآنِ لم تُوحِشهُ مُفارَقَةُ الإخوانِ».
(الأُنس) علاقة وجدان وليس علاقة لسان.
فقد يقرأ الإنسان القرآن ويحرِّك لسانه به، لكن لا يعيش الأُنس، ولا يعيش الانصهار.
إنَّ العلاقة مع القرآن حتى تتجذَّر وتتأصَّل وتعظُم وتكبُر ينبغي أن نحوِّلها من علاقة لسان إلى علاقة وجدان، وإلى علاقة داخليَّة، فالوجدان يتحدَّث ويتحرَّك بنطق القرآن وليس اللِّسان فقط، إنَّها علاقة قلب، فالقلب حاضر حين تلاوة القرآن، والقلب يتلو القرآن، والرُّوح تقرأ القرآن، فهذه علاقة وجدان، وهذا أُنس كما يسمِّيه أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، وهذا فرح، وهذا بهجة روحيَّة.
إذا أحسست بأُنس وأنت تقرأ القرآن، وأحسست ببهجة الرُّوح وببهجة القلب، فتلك التِّلاوة المطلوبة.
فهناك مَنْ يقرأ القرآن بضجر وملل وثقل، وهناك مَنْ يقرأ القرآن بانسياب، وبروحانيَّة، وبقلبٍ منفتح، وبروح منشرحة، وبوجدان يذوب مع القرآن، فهذا أُنس، وهذا انشراح، وهذا فرح قرآني، وفرح روحي.
وهذا ما يُعبَّر عنه بالانصهار والذَّوبان مع القرآن.
أنواع القراءات للقرآن الكريم
1-القراءة الخالية من الانصهار والذَّوبان
هذه قراءة جافَّة وقراءة ميِّتة، جامدة متكلِّسة متصحِّرة، هذه قراءة لها قيمتها لكن يبقى الفرق كبير بين قراءة مملوءة ومشحونة بالانصهار والذَّوبان وقراءة خالية من الانصهار والذَّوبان.
هذه مرتبة من القراءة، وهي أدنى مرتبة، هذه المرتبة التي هي حركة لسان بلا حركة وجدان ولا حركة قلب ولا حركة روح.
2- القراءة التي فيها درجة منخفضة من الانصهار والذَّوبان
يوجد انصهار لكن بدرجة منخفضة جدًّا، وهذه القراءة أرقى من الدرجة الأولى الخالية تمامًا من الانصهار والذَّوبان، ففيها شيئ من الانصهار، وفيها شيئ من الذَّوبان لكن بشكلٍ منخفض.
3-القراءة التي فيها درجة متوسِّطة من الانصهار والذَّوبان
هنا ارتفع منسوب الانصهار، وارتفع منسوب الذَّوبان والأنس بالقرآن.
4-القراءة التي فيها درجة عالية من الانصهار والذَّوبان
وهي المرتبة الأرقى والمطلوبة، ففيها يحاول القارئ للقرآن أن يرقى بأقصى ما يمكن من الذَّوبان والانصهار والأنس وحضور القلب والرُّوح، حتى ينسى كلَّ ذاته، وينسى كلَّ وجوده المادِّي ويعيش الذَّوبان مع القرآن.
•وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (عليه السَّلام) بـ: (الأنس بالقرآن)
اللَّذة، العشق، قراءة العاشقين.
•وهذا ما عبَّر عنه القرآن بالخشوع {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ …} (الحديد/16)
خشوع، وانكسار، وانصهار، وذوبان، الذي يخشع هو القلب، والذي يخشع هو الوجدان، والذي تخشع هي الرُّوح، والداخل هو الذي يخشع وليس البدن الخارجي.
الخشوع له تأثيرات على البدن، له تأثيراته بأن يجعل دمعة في العين، ويجعل اقشعرار في الجسد، لكن منبعه الدَّاخل ومنبعه القلب.
متى تدمع العين؟ حينما يكون القلب خاشعًا.
متى يخشع البدن؟ حينما تكون الرُّوح خاشعة.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ …} القلب يخشع، وكذلك الوجدان، والرُّوح.
•وفي آية أخرى عبَّرت عنه بالوجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ …} (الأنفال/2)
الوجل الرُّوحي وليس القلق.
يوجد وجل يسمَّى قلق، واضطراب.
بينما الوجل هنا هو وجل الخشوع، وجل الانصهار، وجل الذَّوبان مع الله، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ …} عاشت الخوف والانصهار والذَّوبان والأنس مع الله.
•وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ما مِن عَينٍ فاضَت مِن قِراءَةِ القُرآنِ، إلَّا قَرَّت يَومَ القِيامَةِ». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/739)
وأنت تتلو كتاب الله إن استطعت أن تستدر دمعة واحدة فَقد قرَّت عين لك يوم القيامة، هذه العين الدامعة قرَّت يوم القيامة.
لماذا يغيب الخشوع؟
لماذا يغيب الخشوع في الصَّلاة، وفي الدُّعاء، وفي الذِّكر؟
لماذا أحيانًا يموت الخشوع، ويضمر الخشوع، وينخفض الخشوع، وربما يغيب الخشوع؟
السَّبب الأوَّل: غفلة القلب
لا تحدث حالة الخشوع إذا قرأ الإنسان القرآن وقلبه غافل، ولا يخشع إذا كان يصلِّي وقلبه غافل.
إذن، لكي يخشع لا بدَّ أن يكون القلب هو الذي يتلو، والقلب هو الحاضر أثناء التِّلاوة، والرُّوح هي الحاضرة، والوجدان هو الحاضر.
أمَّا الغفلة فهي تقتل الخشوع، وتميت وتنهي وتصادر الخشوع.
السَّبب الثَّاني – لغياب الخشوع -: تلوُّث القلب
القلب إذا تلوَّث يموت الخشوع في العبادة بشكلٍ عام: في الصَّلاة، وفي الدُّعاء، وفي تلاوة القرآن.
تلوُّث القلب يقتل ويُصادر ويُميت الخشوع.
السَّبب الثَّالث: الذُّنوب والمعاصي
الذُّنوب والمعاصي تقتل الخشوع.
كيف يتشكَّل الخشوع؟
كيف يتشكَّل الخشوع في التِّلاوة القرآنيَّة، وفي العبادة بشكلٍ عام؟
أوَّلًا: التَّخلُّص من الأسباب التي تصادر الخشوع
كالغفلة، وتلوُّث القلب، والذُّنوب والمعاصي، فإذا أردت أن أخشع في صلاتي، وفي دعائي، وفي ذكري، وفي تلاوتي للقرآن، فالمطلوب أن أتخلَّص من كلِّ أسباب ضمور الخشوع.
ثانيًا: استشعار عظمة المتكلِّم وهو الله عزَّ وجلَّ
أنت بين يدي كلام الله، مَنْ الذي يتحدَّث هنا؟
الله بعظمته، بجلاله، بقدسه، بكبريائه يتحدَّث معك.
فمثلًا أنت عندما تأتيك رسالة من أعزِّ إنسان عندك، ومن حبيب لقلبك، كم تعيش ذوبان وانصهار في قراءة هذه الرِّسالة؟! وذلك لأنَّها جاءت من شخص يملأ قلبك، ويملأ روحك، ويملأ نفسك، ويملأ عقلك.
فكيف إذا كانت الرِّسالة من الله الخالق العظيم، وهنا في هذا القرآن، الله يتحدَّث معك، وليس المتحدِّث إنسانًا مهما ارتقى مستوى هذا الإنسان، فهذه رسالة من الله إليك أنت أيُّها الإنسان، الله بجلاله، الله بكبريائه، الله بعظمته يتحدَّث معك، كم هو عظيم أن يستشعر الإنسان وهو يتلو القرآن أنَّه بين يدي ربٍّ عظيمٍ رحيم كريم ودود شفوق يتحدَّث معه.
هنا يرتقي الشُّعور باللَّذة بقدر قداسة الله في نفسي وعظمة الله في نفسي، كلَّما ارتقى مستوى القداسة، وكلَّما ارتقى مستوى الشُّعور بعظمة المتكلِّم بعظمة الله، ارتقت درجة الانصهار ودرجة الخشوع في التِّلاوة.
إذن، لكي نصنع الخشوع مطلوب:
أوَّلًا: أن نتخلَّص من الأسباب التي تصادر الخشوع: الغفلة، تلوث القلب، الذنوب والمعاصي.
ثانيًا: استشعار عظمة المتكلم وهو الله عزَّ وجلَّ.
ثالثًا: امتلاك البصيرة بقيمة كلام الله تعالى
أيُّ كلامٍ هذا هو كلام الله؟
كيف أفهم كلام الله؟
بقدر ما يرتفع فهمي لكلام الله، وبقدر ما تنفتح بصيرتي على كلام الله يحصل الخشوع.
فرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حينما يقرأ القرآن وهو صاحب البصيرة الأعظم والأكبر في البشر، فكيف يقرأه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟
بدرجة البصيرة يرتقي مستوى التِّلاوة.
وأمير المؤمنين (عليه السَّلام) حينما يقرأ القرآن كم هي بصيرته؟
الإمام الحسين (عليه السَّلام) حينما يقرأ القرآن كم هي بصيرته؟
الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) حينما يقرأ القرآن كم هي بصيرته؟
النَّماذج الرَّاقية من فقهاء وعلماء حينما يقرأون القرآن كم هي بصيرتهم؟
فبدرجة ما ترتفع البصيرة يرتفع منسوب الخشوع، ويرتفع منسوب الانصهار والذَّوبان مع التِّلاوة.
رابعًا: استشعار اللُّطف الإلهي والفيض الرَّباني
لو علمت وأنت تقرأ القرآن كم هي فيوضات الله عليك في تلك اللحظات؟
وكم هو لطف الله عليك في تلك اللحظات؟
وكم هي اشراقات الفيض الرَّباني في تلك اللَّحظات؟
هنا ستخشع، وهنا سينكسر القلب، وهنا ستعرج الرُّوح، وستنفصل عن الجسد، وعن المادة، وستعيش في آفاق ربَّانيَّة كبيرة.
بقدر ما تعيش استشعار اللُّطف الإلهي وأنت تقرأ القرآن فإنَّه يرتقي ويرتقي ويرتقي مستوى البصيرة.
إذن، العلاقة الثَّانية مع القرآن هي علاقة الانصهار والذَّوبان.
ويأتي الحديث عن العلاقة الثَّالثة مع القرآن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.