حديث الجمعة 547: ضرورة معالجة المسائل الرُّوحيَّة – 2
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
ضرورة معالجة المسائل الرُّوحيَّة – 2
وبعد: فيستمرُّ الحديث حول هذا النَّصِّ القرآنيِّ، وهو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ …﴾ (سورة الحديد: الآية 16).
الجفاف الرُّوحيُّ من أخطر المسائل
فالنَّصُّ – كما تقدَّمَ الكلام – يتناول مسألةً من أخطر المسائلِ، وهي (مسألة الجفاف الرُّوحيِّ) حينما تتكلَّسُ القلوبُ، ويموتُ فيها (الخشوع).
وهذه المسألة لها خطورتها، وأثارُها المدَّمِرة على كلِّ الواقع الفكريِّ، والأخلاقيِّ، والاجتماعيِّ، والاقتصاديِّ، والسِّياسيِّ.
من أسباب فشل علاج أزمات الواقع
هذا الواقع بكلِّ امتدادتِه يتأزَّم حينما (تتأزَّم الرُّوح)، و(تتأزَّم الأخلاق).
لماذا تفشل كلُّ العلاجات لأزمات الواقع المعاصر: أزماتِ الثَّقافة، وأزمات الاجتماع، وأزماتِ الاقتصاد، وأزمات السِّياسة؟
لأنَّ هذه العلاجات لا تتَّجه إلى صنع (الإنسان).
فأساس الأزمات هو (فساد الإنسان).
ولذلك يتَّجه القرآن الكريم في مشروعه لإصلاح الحياةِ هو البدء بإصلاح الإنسان!
والخطوة الأولى لإصلاح الإنسان هو (إصلاح فكر الإنسان)، و(إصلاح روح الإنسان).
وهذا لا يعني أنَّ القرآن الكريم لا يهتمُّ بالواقع الموضوعيِّ الخارجيِّ، بل يهتمُّ به كلَّ الاهتمام، ووضع لذلك تعاليم كثيرة تعالج الشَّأن الاجتماعيَّ، وتعالج الشَّأن الاقتصاديَّ، وتعالج الشَّأن السِّياسيَّ.
إلَّا أنَّ هذه العلاجات للواقع الخارجيِّ لا تتحقَّق أهدافُها إذا لم يتمَّ إصلاح فكر الإنسان، وإصلاح روح الإنسان!
تصوروا أنَّنا وضعنا (برنامجًا اقتصاديًّا) من أغنى البرامج، ووظَّفنا له عقولًا هي الأرقى اقتصاديًّا،
ووضعنا (برنامجًا سياسيًّا) من أغنى البرامج، ووظَّفنا له عقولًا هي الأرقى سياسيًّا.
ووضعنا (برنامجًا حقوقيًّا) من أغنى البرامج، ووظَّفنا له عقولًا هي الأرقى حقوقيًّا.
ثمَّ وضعنا هذا البرنامج في يد إنسانٍ فاسد!
هل يستطيع هذا البرنامج أنْ يُحقِّق أهدافه؟
طبعًا: لا، وبكلِّ تأكيد.
الفساد بكلِّ تمظهراتهِ، وبكلِّ مواقعِهِ هو من صنع الإنسان إذا فَسَد.
كلُّ الفساد الاجتماعيِّ، والثَّقافيِّ، والأخلاقيِّ، والاقتصاديِّ، والسِّياسيِّ، والأمني هو من صنع الإنسانِ إذا فَسَد!
كلُّ الأَزَمَات، كلُّ الخلافات، كلُّ الصِّراعات، كلُّ التوترات هي من صنع الإنسان إذا فَسَد!
كلُّ التَّطرُّف، كلُّ العنف، كلُّ الإرهاب، كلُّ العَبَث بقِيمِ الحياة هي من صنع الإنسانِ إذا فَسَد!
هذا ما يؤكِّده القرآن الكريم.
نقرأ في (سورة الرُّوم: الآية 41): ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
وكلَّما كان الإنسان في موقعٍ متقدِّمٍ دينيًّا، أو اجتماعيًّا، أو سياسيًّا، أو علميًّا كان الفساد أكبر وأخطر وأشدّ فتكًا بواقع الحياة!
متى يفسد الإنسان؟
حينما يقسو قلبُهُ.
﴿… فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (سورة الحديد: الآية 16).
من أسباب قسوة القلب!
ومتى يَقْسُو قلبُ الإنسان؟
لذلك أسباب، أذكر هنا سببًا هو من أهمِّ الأسباب، حسبما جاء في كتاب الله الكريم.
هذا السَّبب هو (الغفلة عن ذِكر الله تعالى).
وحينما تتمركز (الغَفْلة) يصل الإنسان إلى (مرحلة الإعراض)، فتتحوَّل حياتُه: ﴿… مَعِيشَةً ضَنْكًا …﴾ (سورة طه: الآية 124).
•﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا …﴾ (سورة طه: الآية 124).
إنَّها حياة الأزمات!
أزمات الفكر!
أزمات المشاعر!
أزمات الأخلاق!
أزمات السُّلوك!
أزمات الحياة بكلِّ مساحاتها الثَّقافيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة.
وهل ما يعيشه إنسان هذا العصر من (إرهاقات مدمِّرة) إلَّا نتيجة (الإعراض عن ذِكْر الله تعالى)؟
وحينما يتكرَّس (الإعراض عن ذِكر الله تعالى) تكون النَّتيجة المُرعبة (أنْ ينسى النَّاسُ أنفسَهم)!
•يقول تعالى في (سورة الحشر: الآية 19): ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ …﴾.
كانوا في غفلةٍ مُطْبِقهٍ!
وهكذا استسلموا لأهوائهم، ولشهواتهم، ولأنانيَّاتهم!
وحينما يَصِلون إلى هذا المستوى من الاستسلام ينسيهُمْ اللهُ أنفسَهم: ﴿… فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ …﴾.
هذه سُنَّة الله تعالى.
فإنَّ الإنسانَ إذا نَسِيَ ربَّهُ، فإنَّه يتخلَّى عن كلِّ القوانين التي وضعها الله سبحانه لهذا الإنسان؛ فترتبك حياتُه، وتَتِيه مساراتُه، وتتأزَّم كلُّ أوضاعِهُ.
وهكذا تموتُ في داخلِهِ الرُّؤية، فينسى موقعه في الكون، ودوره في هذا الحياة، ومسؤوليَّاتِه على الأرض، ويسقط في أَسْر الغرائز والشَّهوات، وتعبث به الأوهام، والمتاهات!
فحذارِ حذارِ من (الغفلة)!
•مسارات الغَفْلَة عن ذِكْر الله تعالى
والغَفْلة عن ذِكْر الله تعالى لها ثلاثة مسارات:
المسار الأوَّل: الغفلة اللِّسانيَّة
(أنْ لا يكون الله تعالى حاضرًا على لسان الإنسان)!
فالغَفْلَة اللِّسانيَّة تعني:
أوَّلًا: أنْ لا يمارس الإنسان شيئًا من الأَذْكَار.
مصاديق هذه الأَذْكَار:
1-التَّسبيح.
2- التَّحميد
3- التَّهليل
4- التَّكبير
5- الاستغفار
ثانيًا: أنْ يكون اللِّسان ناطقًا بمعصية الله تعالى!
من معاصي اللِّسان:
1-الكذب
2- الغِيبة
3- البُهتان
4- النَّميمة
5- الفُحش
ثالثًا: أنْ لا يمارس اللِّسان أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر
والأخطر أنْ يمارس أمرًا بالمنكر، ونهيًا عن المعروف!
المسار الثَّاني: الغفلة القلبيَّة
•﴿… وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا …﴾ (سورة الكهف: الآية 28).
متى يكون القلب غافلًا عن ذِكْر الله تعالى؟
أوَّلًا: حينما لا يستشعر عظمة الله سبحانه!
أي: لا يتدبَّر في الكون، وفي عجائب صنع الله تعالى.
•﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ …﴾ (سورة فصلِّت: الآية 53).
ثانيًا: حينما لا يستشعر نِعَمَ الله تعالى، وآلاءَهُ، وفيوضاتِه!
•﴿… وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ …﴾ (سورة البقرة: الآية 231).
•﴿… وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا …﴾ [إبراهيم: 34]
فالقلوب التي لا تستشعر نِعم الله تعالى هي قلوب غافلة.
ثالثًا: يكون القلب غافلًا حينما لا يحمل في داخلِه:
1-حبَّ الله تعالى.
2-خوفَ الله تعالى، ورجاءَ ثوابه.
3-الحياءَ من الله تعالى.
قد يكون اللِّسانُ ذَاكِرًا للهِ تعالى غير أنَّ القلب في غفلة عن ذِكْره سبحانه؛ لا يستشعر عظمة الله (عزَّ وجلَّ)!
ولا يستشعر نِعم الله (جلَّ جلاله)!
ولا يحمل حبَّ الله، وخوف الله، ورجاء ثواب الله، والحياء من الله (تبارك وتعالى)!
لا قِيمة لذِكْرِ الألسنِ ما دامتْ القلوبُ غافلةً.
إذا كان لذِكْرِ الألسنِ الكثير الكثير من الأجر والثَّواب، فإنَّ لذِكْر العقلِ والقلبِ ما يفوق ذلك مرَّات ومرَّات!
الذِّكْر في الرِّوايات الشَّريفة
نقرأ في الرِّوايات:
1-قولَهُ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «فكرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة، …». (مستدرك الوسائل 2/105، ميرزا حسين النوري الطبرسي).
2-وقولَهُ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «…، تَفَكُّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة، …». (ميزان الحكمة 3/2465، محمَّد الريشهري).
3-وقولَهُ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «يُفضَّل الذِّكرُ الخفيُّ الذي لا تسمعه الحَفَظَة على الَّذي تسمُعُه سبعين ضعفًا». (ميزان الحكمة 2/978، محمَّد الريشهري).
4-وقولَهُ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «خيرُ الذِّكْر الخَفِي». (ميزان الحكمة 2/978، محمَّد الريشهري).
5-وقولَ الإمام الباقر (عليه السَّلام)، أو الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «لا يكتب المَلكُ إلَّا ما يسمع، …، قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 205).
قال: لا يَعْلَمُ ثوابَ ذلِكَ الذِّكر في نفسِ العبد غيرُ اللهِ تعالى». (ميزان الحكمة 2/978، محمَّد الريشهري).
6-وقول الإمام الرِّضا (عليه السَّلام): «ليست العبادةُ كثرةُ الصَّلاةِ والصَّومِ إنَّما العبادةُ التَّفكُّر في أمر الله». (ميزان الحكمة 3/2464، محمَّد الريشهري).
7-وقول الإمام أميرِ المؤمنين (عليه السَّلام): «التَّفكُّرُ في ملكوتِ السَّماواتِ والأرضِ عبادةُ المخلِصين». (ميزان الحكمة 3/1799، محمَّد الريشهري).
8-وقولَهُ (عليه السَّلام): «لا عبادةَ كالتَّفكُّر في صنعة اللهِ (عزَّ وجلَّ)» . (ميزان الحكمة 3/2465، محمَّد الريشهري).
المسار الثَّالث – من مسارات الغفلةِ عن ذِكر اللهِ تعالى -: الغَفْلة العمليَّة
كم هي خطيرة (غَفلةُ اللِّسان عن ذِكْر الله تعالى)!
وكم هي خطيرة (غَفلة القلب عن ذِكْر الله تعالى)!
ولكنَّ الأخطر هو (غَفلة السُّلوك عن ذِكْر الله تعالى)!
القِيمة كلُّ القِيمة حينما يكون السُّلوك ذِاكرًا للهِ تعالى، هذا يُسمَّى (الذِّكْر العمليُّ).
وهو أنْ يكونَ الإنسانُ في خطِّ الطَّاعةِ للهِ تعالى.
فما دامَ الإنسانُ طائعًا للهِ سبحانَه، فهو ذَاكِرٌ للهِ تعالى.
وما دام عاصيًا للهِ سبحانه، فهو من الغافلين عن ذِكر الله تعالى.
•عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مَنْ أطاع الله، فقد ذكَرَ اللهَ وإنْ قلَّتْ صلاتُهُ، وصيامُهُ، وتلاوتُهُ للقرآن.
ومَنْ عَصَى اللهَ، فَقَدْ نَسيَ الله وإنْ كَثُرتْ صلاتُهُ، وصيامُهُ، وتلاوتُهُ للقرآن» (وسائل الشيعة 15/257، الحر العاملي).
هذا الذِّكْر العمليُّ هو التَّعبير الصَّادقُ لأنواع ِالذِّكرِ الأُخرى.
فذِكْر اللِّسانِ إذا لم يتجسَّدْ عَمَلًا كان ذِكْرًا لا يحمل صِدْقًا.
وذِكْر القلبِ إذا لم يتحوَّلْ حركةً في السُّلوكِ كان ذِكْرًا لا يحمل صِدْقًا.
حالات علاقة الإنسان مع ذِكْر الله تعالى
فالإنسان في علاقته مع ذِكْر الله تعالى له عدَّة حالات:
الحالة الأولى: أنْ يعيش ذِكْر اللِّسان فقط!
أمَّا القَلبُ، فغافل عن ذِكْر الله تعالى!
وأمَّا السُّلوك، فبعيد عن ذِكْر الله سبحانهَ
هذه الحالة لا تمثل ذِكْرًا حقيقيًّا، وإنَّما هي كلماتٌ غافلةٌ تحمل صورة الذِّكْر، ولا تجسِّد معناه.
الحالة الثَّانية: أنْ يعيش ذِكْر القلب، ولكنَّه لا يتحوَّل إلى ممارساتٍ يجسِّدها السُّلوك، فهذا مجرَّد خواطر تجول في القلب!
الحالة الثَّالثة: أنْ يعيش الإنسان الذِّكر لسانًا، وقلبًا، وسلوكًا، وهنا يحمل الذِّكر مضمونه الحقيقيَّ، ودلالاتِه الصَّادقة، وحركته الفاعلة.
أهميَّة علاج المسائل الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة
أيُّها الأحبَّة، أؤكِّد في ختام هذه الكلمة: إنَّ معالجة (المسائل الرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة) ليست (ترفًا)، وليست (استهلاكًا للوقت) – كما يقول بعض (المُعقَّدين) -، وليس (تفريطًا) في الأولويَّات.
الارتباط الحقيقيُّ بالله تعالى هو
الذي يصوغ (الإنسان الرَّبانيَّ)
الإنسان الرَّبانيُّ إنسان نظيف.
ونظافة الإنسانِ تصوغ النَّظافةَ في كلِّ مواقع الحياةِ:
1-مواقع الثَّقافة
2-ومواقع الأخلاق
3-ومواقع الاجتماع
4-مواقع الاقتصاد
5-ومواقع السِّياسة
وعبثًا نحاولُ أنْ نُنَظِّفَ مواقع الحياة ما دام الإنسان ملوَّثًا!
وما دامت القِيم التي تحكم الحياة قِيَمًا ملوَّثةً!
وما دامت مشاريع التَّغيير والبناء في حاجةٍ إلى تنقيةٍ، وتصحيح!
فخطابُ الدِّين يجب أنْ يتَّجه إلى صنع الإنسان الصَّالح أوَّلًا.
وخطابُ الثَّقافة يجب أنْ يتَّجه إلى صنع الإنسان الصَّالح أوَّلًا.
وهكذا خطابُ الاقتصاد.
وهكذا خطابُ السِّياسة.
وبعد ذلك يأتي دور (المشاريع الصَّالحة).
فيفشل التَّغيير إذا لم يوجد (الإنسان الصَّالح).
ويفشل التَّغيير إذا لم توجد (المشاريع الصَّالحة).
فمن أجل بناء الأوطان:
نحتاج إلى مواطنة صالحة.
ونحتاج إلى أنظمة صالحة.
وآخر دعوانا أنْ الحمد اللهِ ربِّ العالمين.