حديث الجمعة 441: من عهد أمير المؤمنين إلى محمَّدٍ بن أبي بكر حينما ولَّاه مِصْرَ – الإصلاحُ هو خَيارُ الأوطانِ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين.
وبعد، فمع هذه العناوين:
من عهد أمير المؤمنين إلى محمَّدٍ بن أبي بكر حينما ولَّاه مِصْرَ:
هذه بعضُ كلماتٍ من هذا العهدِ تُمَثِّل منهجًا لكلِّ مَنْ يتصدَّى للسُّلطةِ، والزَّعامةِ، والقيادة، والمسؤوليَّة:
الكلمة الأولى: “فاخفضْ لهم جناحَك” (بحار الأنوار 33/581، العلامة المجلسي).
أي للرَّعيَّة، أو للشَّعبِ، أو للمواطنين.
في هذا التَّعبيرِ استعارةٌ جميلةٌ، أَلَا تَرونَ إلى الطَّائر حينما يمدُّ جناحيهِ، ويخفضهما؛ ليجمع فراخَهُ تحتهما بكلِّ شفقةٍ، ورحمةٍ، وحنانٍ؟
هكذا يجبُ على (الوالي/ الحاكم/ المسؤول) أنْ يحتضن (الرَّعيَّةَ/ الشَّعب) احتضانَ رحمةٍ، وشفقةٍ، وحنانٍ.
فخفض الجناح كنايةٌ عن التَّواضع المقترن بالرَّحمة، والشَّفقة.
•كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾. (سورة الشعراء: الآية 215).
•وقولِهِ تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ (سورة الإسراء: الآية 24)
تصوَّرُوا (واليًا/ حاكمًا/ مسؤولًا) يفتح قلبه بكلِّ تواضعٍ، ورحمةٍ، وشفقةٍ؛ ليحتضن (رعيةً/ شعبًا/ مواطنين)، فكم سوف يقتحم هذا الوالي، أو الحاكم، أو المسؤول قلوبَ رعيَّتِهِ، وشعبِهِ، ومواطنيه؟!
وكم سوفَ يذوبون فيه حُبًّا، وانصهارًا، وانجذابًا، وانقيادًا، وطاعةً؟!
الكلمة الثَّانية: “وألِنْ لهُمْ جانبَكَ” (بحار الأنوار 33/581، العلامة المجلسي).
هذا التَّعبير كناية عن (الرِّفقِ في الأقوالِ والأَفعالِ)، ويُقابلُ الرِّفقَ: العُنفُ، والغِلظةُ، والجَفاوةُ.
فمطلوبٌ من (الوالي/ الحاكم/ المسؤول) أنْ يكون في أعلى درجة من (الرِّفقِ) في تعاملِهِ مع (رعيته)، أو (شعبه)، أو (مواطنيه)، وأبعد ما يكون عن (العُنفِ، والغُلظةِ، والجَفوة).
•قال الله تعالى واصفًا نبيَّهُ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ …﴾ (سورة آل عمران: الآية 159).
•وفي الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): “إنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) رفيقٌ يُحبُّ الرِّفقِ، ويُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنْفِ” (الكافي2/119، الشَّيخ الكليني).
فكلَّما تكرَّسَتْ لدى (الوالي/ الحاكم) سياسة (الرَّفق)، واختفت سياسةُ (العُنفِ) كان أقدرَ على التَّجذُّرِ لدى رعيَّته، وشعبه، ومواطنيه، وكان أقوى هيبةً ومكانةً، وسمًّوا وعُلُوًّا، وارتفاعًا، وكان أقرب إلى عواطِفهم، ومشاعِرهم، وضمائِرهم، وولائِهم، ومحبَّتِهم، وكان أجدر بطاعتهم، وانقيادهم، وتمثُّلهم.
الكلمةُ الثَّالثةُ: “وابْسُطْ لهُمْ وجَهَكَ” (بحار الأنوار 33/581، العلامة المجلسي).
من أهم الصِّفاتِ التي يجب أنْ يتوفَّر عليها كلُّ مَنْ يتصدَّى لمسؤوليةِ السُّلطةِ، والحُكمِ، والإرادة صفة (البشاشةِ، والأريحيَّة، والانفتاح)، ويقابلها صفة (العبوس، والتَّجهُّم، والانغلاق).
فالصِّفة الأولى تمثِّل نموذجًا راقيًا من (حسن الخُلُق).
والصِّفة الثَّانية تمثِّل مثالًا سيِّئًا (لسوء الخُلُق).
•في الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): “أوَّل ما يُوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن خُلُقِهِ” (وسائل الشيعة8/510، الحر العاملي).
•وفي حديث آخر: “إنَّ الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثَّواب على حسن الخُلُق كما يعطي المجاهد في سبيل الله” (الكافي2/110، الشَّيخ الكليني).
وفي المقابل نقرأ الحديث عنه (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): “إنَّ العبد ليبلغ من سوء خُلقِهِ أسفلَ دَرَكِ جهنم” (ميزان الحكمة1/807، محمَّد الريشهري).
وعنه (صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلَّم): “خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق” (الغدير2/174، الشَّيخ الأميني).
فما أحوج مواقع الحكم، والتَّصدِّي، والقيادة إلى درجةٍ عاليةً جدًّا من (الأريحيَّة، والانفتاح)، والابتعاد كلِّ البعد عن (التَّجهُّم، والانغلاق)، فمن خلال ذلك يتحدَّد مستوى (الانفتاح، والانغلاق) لدى الرَّعيَّة، والشَّعب، ومستوى (الحبِّ، والكراهية).
الكلمة الرَّابعة: “وآسِ بينهم في اللَّحظةِ، والنَّظرةِ حتَّى لا يطمعُ العظماء في حيفِكَ لهم، ولا ييأسُ الضعفاءُ من عدلِكَ عليهم” (بحار الأنوار 33/581، العلامة المجلسي).
هنا تتحدَّث الكلمة عن مسألة في غاية الخطورة، وهي مسؤوليَّة الحاكم أنْ (لا يمايز بين شعبه)، فإنَّ التَّمييز القائم على أساسِ (الانتماء الدِّينيِّ، أو الطَّائفيِّ، أو المذهبيِّ)، أو على أساس (الطَّبقة الاجتماعيَّة)، أو على أساس (الموقع الماليِّ) يمثِّل خطرًا كبيرًا على وحدة الشُّعوب، ويدفع لإعطاء (امتيازات) لا تخدم الأوطان.
نعم (الامتيازات) التي تعتمد (الكفاءات، والمؤهَّلات، والقدرات)، فهذه امتيازات مطلوبة، كونها تنشط (أدوات البناء، وإعمار المجتمعات) بخلاف (التَّمايزات) القائمة على أساس (الدِّين، والطَّائفة، والمذهب، والطَّبقة والجاه) فهي مدمِّرةٌ وممزِّقةٌ، ومؤزِّمةٌ، ومصنِّعة للخلافات والصِّراعات في داخل الأوطان.
هذه بعضُ كلماتٍ من عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) إلى محمَّد بن أبي بكر (رضي الله عنه) حينما ولَّاه على مصر، وهي توجيهات في غاية الأهمية، وتشكِّل (أُسسًا مهمَّةً) في بناء الأوطان، وفي إصلاحها، وحمايتها من كلِّ التَّأزُّماتِ، والتَّوتُّرات، والاحتقانات، وفي تجسير العلاقات بين الأنظمة والشُّعوب، وبين الحكام والمحكومين.
الإصلاحُ هو خَيارُ الأوطانِ
لا يُوجدُ وطنٌ لا يبحثُ عن الإصلاحِ.
ولا يُوجدُ وطنٌ يرضى بالاستبداد.
فالإصلاحُ ضرورةٌ لا بدَّ منها، وهو خيارُ الأوطانِ، وإرادةُ الشُّعوبِ، وشِعار الأنظمة الصَّالحة.
وماذا يعني الإصلاح؟
الإصلاح نظافةُ حُكْمٍ، واستقامةُ سياسةٍ.
الإصلاحُ عَدْلٌ، بناءٌ، عزَّةٌ، كرامةٌ، حُرِّيةٌ، أًمْنٌ، سلامٌ، مُسَاواة، وِحْدةٌ، تَسَامح، مَحبَّةٌ.
لا أظنُّ أنَّ هناك جَدَلًا حولَ هذه المُسَلَّمَات.
فكيف يمكنُ أنْ تتحرَّكَ مشروعاتُ الإصلاح؟
هنا مجموعةُ شروطٍ؛ للدَّفعِ بمشروعات الإصلاح:
الشَّرط الأوَّل: الإيمانُ بمبدأ الإصلاح
فلا يمكن أنْ يتأسَّسَ لمشروعاتِ الإصلاح، ما لم يتجذَّرْ الإيمانُ بمبدأ الإصلاح، تجذُّرًا حقيقيًّا، وصادقًا، فإذا تشكَّل هذا التَّجذُّرُ أعطى دَفْعًا قويًّا في البحثِ عن (مكوِّنات الإصلاح)، و(أدوات التَّفعيل)، أمَّا إذا غاب هذا المبدأ، فلن يكون البديل إلَّا (خَيارات الاستبداد) بكلِّ ما تنتجه هذه الخَيارات من ظُلم، وقهر، وعناء، وفساد، وهدم، ودمار، وعبث، وتأزُّم، واحتقان، وكراهيةٍ، وفتن، وصراعات، وخلافاتٍ، وتوترات.
الشَّرطُ الثَّاني: الإرادةُ الجادَّةُ في إنتاجِ مشروعاتِ الإصلاحِ
إذا غابت (الإراداتُ الجادَّةُ)، فسوف تبقى (مشروعاتُ الإصلاحِ) عناوينَ قابعةً في الأذهان، وشعاراتٍ مُتَمَوْضِعة في الكلماتِ والخطابات.
لكي تتحولَّ (مشروعاتُ الإصلاحِ) خَيَاراتٍ متحرِّكةً على كلِّ المستوياتِ: السِّياسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والاقتصاديَّة، والأمنيَّة يجب أنْ تتوفَّر على (إراداتٍ جادَّة) قادرةٍ على أنْ تتحمَّل مسؤوليَّات الانطلاق بهذه المشروعاتِ الإصلاحيَّةِ، وأنْ تعطيها دفعًا، وقوَّةً، وفاعليَّةً، وحركيَّةً.
نقرأ في الكتاب العزيز أنَّ نبيَّ الله شعيبَ (عليه السَّلام) طرح هذا الشِّعار: ﴿… إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ …﴾ (سورة هود: الآية 88)، فهو (عليه السَّلام) لا يسعى من أجلِ الهيمنة، والسَّيطرة، والتَّحكم، ولا من أجلِ الإفسادِ، والعبث بالمقدراتِ، وإنَّما يريد أنْ ينشر العدل، والأمن، والخير، وإصلاحَ الإنسانِ، والحياة.
هكذا كانت إرادةُ الإصلاح هي منطلق هذا النَّبيِّ (عليه السَّلام).
وهكذا كانت إرادةُ الإصلاح هي منطلقُ كلِّ الأنبياء (عليهم السَّلام)، وكلِّ الذَّينَ يعملونَ؛ من أجلِ نشرِ الخير في الأرض، ونشر الأمن في الأرض، ونشر العدل في الأرض.
في خطاب الإمام الحسين (عليه السَّلام) حينما أعلن عن نهضتِهِ المباركةِ جاء هذا الشِّعار: “…، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح، …” (بحار الأنوار44/329، العلامة المجلسي).
فمن أهم شروط النَّجاح لمشروعاتِ الإصلاح أنْ تتوفَّر (الإرادةُ الجادَّةُ والصَّادقةُ) لدى القائمين على أنظمةِ السِّياسةِ والحكم، ولدى كلِّ المسؤولين عن إنجاح مشروعات الإصلاح من قُوى فاعلةٍ في السَّاحةِ، ومن جماهير شعبيَّة كبيرة.
لا بدَّ من تضافر كلِّ هذه الإراداتِ، وإلَّا أخفقتْ (المشروعات) وتعثَّرت، وارتبكتْ.
صحيح أنَّ مستويات المسؤوليَّة متفاوتةٌ جدًّا، فالأنظمة الحاكمةُ تتحمَّل المسؤوليَّاتِ الأكبر حينما تقارن بمسؤوليات الشُّعوبِ، ومسؤوليَّاتِ بقيَّةِ القوى الفاعلةِ في الأوطانِ، ورغم كلِّ هذا التَّفاوت، فمطلوبٌ جدًّا أنْ تتعاونَ كلُّ القُدُراتِ، والإمكاناتِ، والمسؤوليَّاتِ في طريق إنجاحِ مشروعاتِ الإصلاح، وأيُّ غيابٍ له تأثيراتُهُ السَّلبية على حركةِ الإصلاح.
الشَّرط الثَّالث: تهيئةُ الأجواءِ وإزاحةُ كلِّ المعوِّقات
لكي تنطلق مشروعاتُ الإصلاحِ في الأوطانِ يجب تهيئةُ الأجواءِ وإزاحةُ كلِّ المعوِّقات، وإلَّا تجمَّدتْ أو تعثَّرتْ، أو ارتبكتْ تلك المشروعات، وربَّما تكون النَّوايا صادقةً كلَّ الصِّدقِ، وربَّما تكون الإراداتُ جادَّةً وقادرةً على إنتاجِ (مشروعاتِ إصلاحٍ) حقيقيَّةٍ، إلَّا أنَّها تفشل، وتتعثر حينما لا تتوفَّر لها أجواء ملائمة، وحينما تقف في طريقها معوِّقاتٌ صعبةٌ.
فمن ضرورات النَّجاح:
أنْ تُهيَّأ الأجواء.
وأنْ تزاح المعوِّقات.
وأنْ تُعبَّد المسارات.
حين ذاك تتمكَّن مشروعاتُ الإصلاحِ من الحركةِ، والانطلاقِ، وأداءِ مهامِّها، وإنتاجِ أهدافها.
وحينما نتحدَّثُ عن معوِّقاتٍ تواجِهُ مشروعاتِ الإصلاحِ، وتُعرقل مساراتِها، وتربك أهدافها.
فإنَّنا نتحدَّث:
أوَّلًا: عن معوِّقاتٍ من صنع الأنظمة الحاكمة
فهيمنةُ (الخياراتِ الأمنيَّة) على أجواءِ الأوطان تُعقِّدُ انطلاقاتِ مشروعاتِ الإصلاح، وتُربك مساراتِها، ولا تسمح للشُّعوب أنْ تتعاطى مع تلك المشروعات بكلِّ ثقةٍ وانفتاح، وبقدر ما تكون الأجواءُ الأمنيَّة صالحةً ومُهيَّأةً، يكون التَّعاطي مع مشروعاتِ الإصلاحِ أقوى وأنجح.
وفي هذا السِّياقِ تأتي كلُّ المعوِّقاتِ التي تتحمَّل أنظمة الحكم مسؤوليَّاتِها، وهي من إنتاج سياساتِها، وبفعل إراداتِها.
وثانيًا: معوِّقات من صنع الشَّارع والمعارضة
نتحدَّث عن معوِّقاتٍ من صنع شارعٍ، أو قُوى معارضةٍ، فأحيانا يمارسُ الشَّارع، أو تمارسُ قوى الشَّارع أدوارًا تشكِّل (أسباب إعاقةٍ) في مواجهة حركةِ مشروعاتِ الإصلاح، ربَّما لعدمِ الاقتناعِ بتلك المشروعات، أو لخلافٍ في بعضِ مفرداتها، أو بسبب عنادٍ وتعصُّب، أو بسبب أخطاءٍ في التَّشخيص، كلُّ ذلك ينتج رفضًا أو معارضة، ممَّا يُسببُّ إعاقةً في حركة الإصلاح.
وثالثًا: معوِّقاتٍ من صُنع قوى معادية للإصلاح
نتحدَّثُ عن معوِّقاتٍ من صنع (قوى) معادية لمشروعاتِ الإصلاح، ففي داخل الأوطانِ مَنْ يعمل؛ لإيقافِ وإسقاط مشروعاتِ الإصلاح، لكي يبقى الاستبداد والفسادُ.
هذا النَّفر من البشر لا تتنفس مصالحُهم وأهدافُهم وأطماعُهُم إلَّا حينما يغيب الإصلاح، ويسودُ الفسادُ، وإذا كان العكس؛ فإنَّهم يخسرون مواقعَهم، وتَضيع مصالحهم، وتسقط أهدافُهم.
ولهذا فهم يصرُّون دائمًا على وضع المعوِّقات في طريق الإصلاح؛ ومن أجلِ أنْ تبقى الأوضاعُ الفاسدة، وتبقى الأجواء القلقة، وتبقى المسارات المرتبكة، وربَّما لا يُعلن هؤلاء حربَهم ضدَّ الإصلاح بشكل صريح وواضح، بل يثيرون الغبار في طريق الإصلاحِ، ويعملون على تكريس المعوِّقات، وفي إبقاء المؤزِّمات.
فإذا كانت مشروعاتُ الإصلاح تُؤسّسُ؛ لإنتاج (المحبَّة، والتَّسامح، والتَّآلف)، فإنَّ هؤلاء – أعداء الإصلاح – يسعون دائمًا لتكريس (خطاب الكراهية، والتَّعصُّب، والطَّائفيَّة)، و(خطاب الفتن، والصِّراعاتِ، والخلافات).
إنَّ قُوى التَّعطيلِ لمشرعاتِ الإصلاح في الأوطان تتموقع في مساحاتٍ متعدِّدةٍ، فربَّما تموقعتْ في مساحاتٍ محسوبةٍ على أنظمة الحكم، ورُبَّما تموقعْت في مساحاتٍ محسوبةٍ على الشُّعوب، أو محسوبةٍ على قُوى المعارضة.
الشَّرط الرَّابع: التَّوافق بين الأنظمة والشُّعوب
لكي تكون مشروعات الإصلاح ناجحةً وقادرةً على الحركة والبقاء والاستمرار يجب أنْ تمتلك توافقًا بين الأنظمة والشُّعوب.
(1) التَّوافق على مكوِّنات المشروعات الإصلاحيَّة
فإذا وجد الاختلافُ في هذا المكوِّناتِ أدَّى ذلك إلى تعطُّل مشروعات الإصلاح، فلا بدَّ من إيجاد صيغ اتِّفاقيَّة بين الأنظمة والشُّعوب، من أجل إنجاز مهمَّات الإصلاح والتَّغيير، فإنَّ أيَّ صيغة للإصلاح لا تملك توافقًا لن تكون قادرةً على النَّجاح.
(2) التَّوافق على خوارط طريق لإنجاز الإصلاح
ربَّما اتَّفقت الأنظمةُ والشُّعوبُ على ضرورة الإصلاح، وعلى ضرورة العمل؛ من أجل إنجاز هذا الإصلاح، ولكن قد يقع الاختلاف في خوارط الطَّريق، ممَّا ينتج تعطُّلًا، أو ارتباكًا في مساراتِ الإصلاحِ.
حينما تغيب خوارط الطَّريق، أو حينما تتنافى هذه الخوارط، فإنَّه لا شكَّ تتعدَّد القناعات، وربَّما تناقضت، فيبقى الإصلاح عنوانًا غائبًا، أو تائهًا، أو مرتبكًا.
فمطلوب من أجل إنجاز مشروعاتِ الإصلاح أنْ يتمَّ الاتفاق على خوارط الطَّريق، بما ترسمه هذه الخوارط من خطواتٍ واضحةٍ، ومراحلَ محدَّدةٍ، ورؤى صريحة، ومسارات ثابتة.
إذًا حينما يغيب التَّوافق بين الأنظمة والشُّعوب على مستوى مكوِّناتِ الإصلاحِ، وعلى مستوى مساراتِهِ وخطواتِهِ، فلا إشكال أنَّ التَّعطُّلَ والتَّعثُّرَ والفشلَ هو مصير هذا الإصلاح، وربَّما لا تكون له ولادة ٌ أساسًا، فلا يولد مشروع الإصلاح من رحم التَّناقضات، والصِّراعاتِ، والخلافات.
من هنا تكون الحاجةُ ملحَّةً جدًّا إلى حواراتٍ جادَّةٍ وصادقةٍ؛ لمعالجة كلِّ الخلاقات، فيما هي مكوِّنات الإصلاح، وفيما هي مراحلُ حركته، وفيما خوارطُ تنفيذِهِ، وكلَّما غابتْ لغة التَّفاهم كان البديل عنها لغة التَّخاصُم، ممَّا يُعطِّل خيارات الإصلاح، والبناء، والتَّغيير، ويُكرِّسُ خيارات الاستبداد، والعبث، والفساد.