حديث الجمعة 434: الدُّعاءُ سلاحُ الأنبياءِ والمؤمنين – الانزلاق نحو المجهول – وظيفة المال الدِّيِنيِّ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهداةِ الميامين.
وبعد، فهذه بعض كلمات:
الكلمة الأولى: الدُّعاءُ سلاحُ الأنبياءِ والمؤمنين
•في الكلمة عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: “…، فإنَّ سلاح المؤمن الدُّعاء” (وسائل الشيعة 4/1095، ح5).
•وعن الإمام الرِّضا (عليه السَّلام) قال: “عليكم بسلاح الأنبياء…”.
فقيل: وما سلاحُ الأنبياء؟
قال: “الدُّعاء” (وسائل الشيعة 4/1095، ح6).
طبعًا لا يعني هذا أنْ يتعطَّلَ العمل، والحركة.
الأدواتُ يجب أنْ تتحرَّك، والطَّاقاتُ يجب أنْ تُفعَّل، والقُدُراتُ يجب أنْ تُنَشَّط.
وتبقى (النَّتيجةُ)، ويبقى (التَّسديدُ) بيد اللهِ وحدَهُ.
•﴿… وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى …﴾ (سورة الأنفال: الآية 17).
•﴿… وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ… ﴾ (سورة آل عمران: الآية 126).
•﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ …﴾ (سورة الملك: الآية 21).
وقد تعجزُ كلُّ الأدواتِ، والطَّاقاتِ، والقُدرات.
•﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ﴾ (سورة القمر: الآية 10).
إنَّه نبيُّ الله نوحٌ (عليه السَّلام) حينما حاصرتهُ كلُّ قُوى الأرض ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾ (سورة القمر:11-13).
قُوى الأرضِ قد تملك أنْ تغلق كلَّ الأبواب إلَّا باب الدُّعاء، واللُّجوء إلى الله سبحانه.
قُوى الأرضِ قد تملك أنْ تُعطِّلَ كلَّ الأسلحة إلَّا سلاح الدُّعاء.
نعم ربَّما تملكُ أنْ تمنعَ الألسنَ؛ لكي لا تضجَّ بالدُّعاء.
وربَّما تملكُ أنْ تمنعَ الأيديَ؛ لكيَ لا ترتفعَ إلى السَّماء.
وربَّما تملكُ أنْ تمنعَ الأعينَ؛ لكي لا تحملَ ضراعةَ الانقطاع إلى الله.
ولكنَّها لا تملكُ القُدرةَ أنْ تمنعَ القُلوبَ الخاشعةَ المنقطعة إلى بارئها وخالقِها.
ولا دعاءَ كدُعاءِ القلوب.
قد لا تصدقُ الكلمةُ الضَّارعةُ!
وقد لا تصدقُ اليدُ الضَّارعةُ!
وقد لا تصدقُ العينُ الضَّارعة!
ولكنَّ القلوبَ الضَّارعةَ لا يمكن إلَّا أنْ تكونَ صادقةً، لأنَّها لا تخضع إلَّا إلى رقابة الله سبحانه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (سورة غافر: الآية 19)، و﴿… إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (سورة آل عمران: الآية 119).
إنَّ ذِكْر القلوب أرقى من ذِكْر الألسن.
•﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 205).
•في الحديث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): “يفضَّل الذِّكْر الخفيَّ الذي لا تسمعُهُ الحفظةُ على الذي تَسْمعُهُ سبعين ضعفًا” (كنز العمال 1/447، ح1929).
•وفي حديث آخر: “لا يعلم ثوابَ ذلك الذِّكر في نفس العبد غيرُ الله تعالى” (مستدرك الوسائل 5/299).
أعود للقول:
إنَّ سلاحَ الدُّعاء ولا سيما إذا كان دعاءً قلبيًّا، لا تملك كلُّ قوى الأرض بكلِّ ما تملك من إمكاناتٍ وقدرات للرَّصد والمراقبة أنْ تراقب، أو تصادر هذا السَّلاح.
فالدُّعاء الدُّعاء أيُّها المؤمنون ﴿… وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ …﴾ (سورة يوسف: الآية 87)، أي: من فَرَجِهِ، فالمؤمنُ يبقى واثقًا بالله مهما ضاقت عليه الأحوال، ومهما ازدحمت الأزمات، ومهما اشتدَّت الابتلاءات ﴿… إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (سورة يوسف: الآية 87).
الدُّعاءُ يحتلُّ موقعًا مركزيًّا في منظومة العبادات.
هذه بعض آياتٍ، وروايات تتحدَّث عن الدُّعاء:
•﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ …﴾ (سورة الفرقان: الآية 77).
•﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ …﴾ (سورة غافر: الآية 60).
•عن أبي جعفر (عليه السَّلام): “أفضل العبادةِ الدُّعاء” (وسائل الشيعة 4/1088، ح1).
•قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): “أحبُّ الأعمالِ إلى الله (عزَّ وجلَّ) في الأرض الدُّعاء” (المصدر نفسه: الصَّفحة 1089، ح4).
•جاء في بعض الرِّوايات: إنَّ الدُّعاء أفضلُ من تلاوة القرآن!
•وسئل الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعًا، كان أحدُهما أكثرَ صلاةً، والآخر [أكثر] دعاءً، فأيُّهما أفضل؟
قال [عليه السَّلام]: “كلٌّ حَسَنٌ”.
لكن السائل عاد وسأل الإمام: قد علمتُ ولكن أيّهما أفضل؟
أجاب الإمام: أكثرهما دعاءً، أما تسمع قول الله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ …﴾ (سورة غافر: الآية 60)، ثمَّ أضاف بعد ذلك: هي العبادة الكبرى” (تفسير مجمع البيان 8/451).
الكلمة الثَّانية: الانزلاق نحو المجهول
إنَّ مجرَّد الخشية من هذا الانزلاقِ هو مُعطًى خطيرٌ، ينتجُ رُعبًا، وقلقًا، وهواجسَ، يقتلُ الإحساسَ بالأمنِ والاستقرارِ، يُربكُ الأوضاعَ الاجتماعيَّةِ، والسِّياسيَّةِ، والاقتصاديَّةِ.
فمَنْ المستفيد مِن هذا؟
إنَّه ليس في صالحِ الحاكم، ولا في صالحِ المحكوم.
ليس في صالح النِّظام.
وليس في صالحِ أيِّ مكوِّنٍ من مكوِّناتِ هذا الشَّعب.
وأمَّا إذا حَدَث الانزلاقُ نحو المجهولِ في أسوءِ محتملاتِهِ، فتلك الكارثةُ كلُّ الكارثةِ على هذا الوطن، وعلى هذا الشَّعب، وعلى كلِّ أوضاع هذا البلد.
أَمَا يتَّسعُ الرُّشدُ، والحكمةُ، والمحبَّةُ، والتَّسامحُ، والإنصافُ؛ لاحتضانِ الأزماتِ، والاحتقاناتِ، والتَّوتُّراتِ، والاختلافات؟
أمَا تتَّسعُ الكلمةُ الخيِّرةُ؛ لكي تخفِّف من عناءاتِ هذا الشَّعب، بدلًا مِن الشَّحنِ في إنتاج الكراهيةِ، والطَّائفيَّةِ، والفتنةِ، والعَداواتِ، والانقساماتِ، والخلافاتِ، والصِّراعات؟
ليس انتصارًا للوطنِ أنْ ينكسرَ أيُّ مكوِّنٍ من مكوِّناتِه، أو مذهبٍ من مذاهبهِ، أو طائفةٍ من طوائفِه، وأنْ يعيش الشُّعورَ بالغُبن، بالحرمانِ، بالإقصاءِ، بالإلغاءِ.
الانتصارُ أنْ يكون الوطنُ بكلِّ مكوِّناتِهِ قويًّا، عزيزًا، راضيًا، مطمئنًا.
الانتصارُ أنْ يعيش كلُّ إنسانٍ على أرضِ هذا الوطن الأمنَ، والأمانَ، والرَّاحةَ، والاستقرار.
الانتصارُ أنْ يعيش الحاكمُ في قلوبِ النَّاس، وأنْ يعيش النَّاسُ في قلبِ الحاكم.
وهذا ليس بعسير إذا احتضن الحاكمُ آهاتِ شعبِهِ، وحاجاتِهم، وفرش عليهم عَدله، ووسعتهم رحمتُه، وطباعُه.
جاء في عهدِ أمير المؤمنينَ (عليه السَّلام) إلى محمَّد بن أبي بكر حينما قلَّده مصر: “…، فاخفضْ لهُمْ جناحَكَ، وأبسِطْ لهم وجهَكَ، وآسِ – يعني ساوِ – بينهم في اللَّحظةِ والنَّظرةِ، حتَّى لا يطمع العظماءُ في حيفِكَ لهُمُ – ظلمك باختصاصهم بالرِّعاية -، ولا ييأسُ الضَّعفاءُ مِن عدلِكَ عليهم، …” (نهج البلاغة، الصَّفحة 383).
وعودة إلى العنوانِ المطروح: الانزلاق نحو المجهول
ما يحدثُ هذه الأيَّام في هذا الوطن تأزيم في غاية الخطورة، وانزلاقٌ نحول المجهول، نقول هذا وقلوبنا على الوطنِ، وأمنِهِ، واستقرارِهِ، ووحدتِهِ، وما فكَّرنا في يوم من الأيَّام أنْ نخونَهُ، أو أنْ نؤزِّمَ أوضاعَه، أو أنْ نسيئ إلى سمعتِهِ.
وحتَّى حينما نصرخ، فمِن مواجعنا، وآلامنا.
الوطنُ في اللَّحظةِ الرَّاهنةِ يمرُّ بأصعب منعطفٍ نتيجة مساراتٍ وقراراتٍ أنتجتَ صدمةً عنيفةً، وقى الله البلادَ والعباد مآلاتِها الخطيرة.
لا أقول هذا بدافع التَّحريض، والكراهية، والإساءة، فهذا ما نمقتُه كلَّ المَقْت، ونرفضُهُ كلَّ الرَّفض، ولا يهمُّنا إنْ أساءَ الظنَّ بنا مَنْ أساء، أو قذفنا مَنْ قذف.
فما تعوَّدنا إلَّا أنْ نقول الكلمة الصَّادقةَ، النَّاصحةَ، النَّابضةَ بالمحبَّة، الباحثةَ عن مساراتِ الخير والصَّلاح لكلِّ النَّاسِ، والتي لا تحمل السُّوءَ لأحدٍ، ولا تحمل الشَّرَّ لأيِّ مواطن.
الصَّدمة العنيفة!
نعم، إنَّها الصَّدمةُ العنيفةُ التي أصابتْ كلَّ الغيارى على سمعةِ هذا الوطن، وشرفِهِ، وكرامتِهِ.
سماحة آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم رمزٌ وطنيٌّ كبيرٌ، احتضن هذا الوطن، ودافَعَ عن قضاياه العادلةِ بكل صدق وإخلاص.
ليس تزلُّفًا، وابتغاءَ جزاءٍ من أحدٍ، وإنَّما هي القناعةُ التي تشكَّلتْ من خلالِ رؤيةٍ فقهيَّةٍ بصيرةٍ، وفهمٍ دينيٍّ متأصِّلٍ، فما كانتْ هذه القناعةُ سلعةً في مزاداتِ السِّياسةِ، ولا هَدَفًا للابتزازِ والمساوماتِ، والمتاجرة بالعناوين والشَّعارات.
أليس صدمةً قاسيةً أنَّ هذا الرَّمزَ الوطنيَّ الذي تجذّرت عروقُهُ في هذه التُّربة، وعشَقَها كلَّ العُشق، وذابَ في حُبِّها كلَّ الذَّوبان، وأعطاها من عَرَقِهِ، وجُهدِهِ، وجهادِهِ، وسَهَرِهِ، وعَناءاتِهِ، وآهاتِهِ، وعَذَاباتِهِ، وصبرِه وبلاءاتِهِ؟!
هذا الرَّمز الوطنيُّ الذَّي تأصَّلَ كلَّ التَّأصُّل في هذه الأرض، وترسَّخ كلَّ التَّرسُّخ وإذا به بين عشيةٍ وضحاها لا يحمل هُويَّة الانتماء إلى هذا الوطن؟!
أليس صدمة قاسية أنْ يسمعَ النَّاسُ، وَيروا أنَّ رمزَهم الدِّينيَّ، وقُدوَتَهُمْ الرُّوحيَّ، ووالدَهُمْ الذي عاشُوا حنانَهُ، وعطفَهُ، وأبوَّتَهُ، ومُرْشدَهم الذي تعلَّمُوا منه التَّقوى، والصَّلاحَ، والاستقامةَ، ونظافةَ السُّلوك، والحبَّ، والتَّسامحَ، والولاءَ للوطن، والدِّفاعَ عن كرامتِهِ، نعم تعلَّمُوا منه الكثيرَ الكثيرَ من القِيمِ والمُثُلِ، والفضائل، ومحاسِن الفعال، وإذا بهَذا الرَّمزِ والقُدوةِ والأبِ والمُرشدِ بين عشيَّةٍ وضحاها مُجرَّمًا مُؤثَّمًا، مُتَّهمًا، مَطلوبًا للقضاءِ؟!
لا أريد بهذا أنْ أستفز المشاعر والعواطف، فطالما طالبنا أنْ تُعالج الأوضاع بلغة العقل، والحكمةِ والرُّشد إلَّا أنَّ الصَّدمة القاسيةَ لها مآلاتها الصَّعبة جدًّا، وهذا ما أشرنا إليه بالانزلاق نحو المجهول.
وبقَدَرِ ما يكونُ الحبُّ لهذا الوطن، والوفاءُ له، ولأمنِهِ، واستقرارِه، ولوحدةِ شعبه ومكوِّناتِه، وطوائفِهِ بقدَرِ ما يكونُ هذا الحبُّ، وهذا الوفاءُ تكونُ الخشيةُ من المجهول!
مَنْ لا يعيش الخشية لا يحملُ حُبًّا صادقًا لهذا الوطن، ولا يحمل وفاءً نقيًّا له، ولأمنه، واستقراره.
وحتَّى حينما نصارحُ النِّظام، ونعبِّرُ عن هواجسنا، ومواجعنا، فهذه المصارحةُ، وهذا التَّعبير لا يعني تحريضًا، واستفزازًا، وكراهية.
وكم تمنَّينا أنْ تكون المناصحةُ، والمصارحةُ بعيدًا عن المجاهرةِ والمشاهرةِ لو توفَّر السَّبيلُ إلى ذلك، فهو أوقع، وأكثر تأثيرًا، وهذا ما دعانا أنْ نلحَّ على لغةِ الحوار والتَّفاهم، ولكن حينما تعطَّلتْ هذه اللُّغة، فلا خيار إلَّا أنْ نتحدَّث بصوتٍ مسموع، مع الحرص كلِّ الحرص على نظافةِ الخطاب، وصدقِهِ، ورشدِهِ، وحكمتِهِ، والابتعاد كلِّ البعد عن لغةِ التَّحريض، والإساءة، وإنتاج الفتنة والكراهية، والعنف والتَّطرُّف.
الصَّدمة الثَّقيلة!
أعود للقول: إنَّه صدمة ثقيلة أنْ تُجرَّم فريضة دينيَّة – كما هي فريضة الخمس -، أو أنْ يُجرَّم عالم دين يتصدَّى لتسلُّم هذه الأموال الدِّينيَّة، وصرفها في مواردها المحدَّدة شرعًا.
لا نرفض أيَّ قانون يلاحق المالَ الملوَّث، والمال القَذِر، والمال المشبوه.
وهل مآسي العصر، وجرائمُهُ، وموبقاتُهُ، وهل ما يتحرَّك من تطرُّفٍ، وعنفٍ، وإرهاب، وهل معتركاتُ الفتنِ، والخلافات، والصِّراعات إلَّا بفعل الأموالِ الملوَّثةِ، والقَذِرةِ، والمشبوهةِ؟!
فلا يعتَرض عاقلٌ، وصاحبُ ضمير ودِين على أيِّ ملاحقةٍ ومراقبةٍ لحركة هذه الأموال التي أصبحت خطرًا مُرعِبًا يُهدِّدُ أمنَ الأوطانِ، وسلامةَ البلدانِ، وحياةَ الإنسانِ.
أمَّا أنْ تجرَّم، وتأثم فريضةٌ دينيَّةٌ – كما هي فريضة الخمس -، فهذا ما لا يقبلُهُ دينٌ، وعقلٌ، وضمير.
الخمس فريضة دينيَّة، ومِن مسلَّماتِ المذهبِ الشِّيعيِّ والإماميِّ، والشِّيعة يمارسون هذه الفريضة منذ عصر الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) بكلِّ أمانةٍ ونظافةٍ، وفي هذا البلدِ الإسلاميِّ الأصيلِ – البحرين – كان للشِّيعة وجودٌ قديمٌ قِدَم الإسلام، أمَّا انتماؤهم العروبيُّ، والقوميُّ، فيمتد إلى ما قبل الإسلام منحدرين من قبائل (ربيعة، وعبد القيس).
شيعة البحرين منذ وُجدوا على هذه الأرض كانوا يمارسون بكلِّ حرِّيَّة شعيرة الخُمس.
فما بدا حتَّى تتحوَّل هذه الفريضة مُجرَّمة، ومؤثمة؟!
فهذا أمرٌّ لا يمكن قَبوله، وله تداعياته الخطيرة!
كما لا يُقبلُ إطلاقًا – وفق منطق العقلِ، والدِّين، والضَّمير – أنْ يُجرَّم شخصٌ في قامةِ آية الله الشَّيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) القامةُ الإيمانيَّةُ الشَّامخة، قامةُ التَّقوى، والورع، والخوفِ من الله تعالى، قامة الفقِهِ، والِفكرِ، والرُّشدِ، والوعي، والبصيرة، قامةُ الطُّهر، والنَّظافةِ، والاستقامة.
سماحتُه كان الأمينَ كلَّ الأمانةِ على الأموال الدِّينيَّة – الأخماسُ، والزَّكواتُ، والصَّدقاتُ -، فما فَرَّطَ، ولا زَاغَ عن ضوابط الفقهِ، والشَّرع في قبضهِ لهذه الأموال، وفي توظيفه لمصارفها المشروعة.
فمِن أساسيَّات هذه الأموال الدِّينيَّة أنْ تكون مصادرُها، ومنابعُها مشروعةً ونظيفةً وطاهرةً، إنَّها ليست أموالًا تُجمع لأغراض دينيَّة، بل هي نفسها أموال دينيَّة، وتُمارس كفريضة دينيَّة.
ومن أساسيَّات أحكامِها أنْ تُصرف في مجالاتٍ مشروعةٍ نقيَّة نظيفة، وإلَّا تَحمَّل الوكيل الشَّرعيُّ كلَّ المسؤوليَّة حيث خانَ وفرَّط.
سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم منذ عرفناه، ومنذ عرفته السَّاحة العلمائيَّة، ومنذ عرفه النَّاسُ كلُّ النَّاس كان شديدَ الاحتياط في أموال الخمس، صُلبًا في تطبيق أحكامها، دقيقًا كلَّ الدِّقَّة في مجالاتِ صرفِها، هذه المجالاتُ المُحصَّنةُ بضوابطَ شرعيَّةٍ شديدةٍ جدًّا.
وظيفة المال الدِّيِنيِّ
إنَّ وظيفة المال الدِّينيِّ– الأخماس، والزَّكوات -:
(1)مساعدة الضُّعفاءِ والفُقراء والمُحتاجين فيما هي حاجاتُهم المشروعةُ كأمور المعيشةِ، والعلاجِ، والسَّكنِ، والزَّواج، والدِّراسة، وكلِّ ضروراتهم الحياتيَّة.
(2)إعداد العلماء، والمبلِّغين المتفرِّغين؛ لنشر أحكام الإسلام، وتعاليمه الحقَّة، والدِّفاع عن قِيم الدِّين، وأخلاقِهِ، ومُثُلِهِ النَّظيفة، وعلى رأسها المحبَّةُ، والتَّسامحُ، والاعتدالُ، والوحدةُ، والأخوَّةُ، والتَّآلف، ونبذ الكراهية، والتَّعصُّب، والعداوة، والفرقة، والطَّائفيَّةُ، والعنفُ، والتَّطرُّف، والإرهاب.
(3)إقامة المشاريع الخيريَّة التي تخدم مجتمعات المسلمين علميًّا، وثقافيًّا، وتربويًّا، واقتصاديًّا.
هذه هي أهداف المال الدِّينيِّ في نظر الدِّين، وفي نظر علماء الدِّين الأخيارِ الأتقياء الصَّالحين، وأيُّ زيغٍ وانحرافٍ عنها هو زيغ وانحرافٌ عن أهدافِ الدِّينِ، وقِيَمِه، وأحكامِهِ.
ومَنْ يملك تقوى الدِّينِ لا يمكن أنْ يسمَح لأموال الدِّينِ أنْ تتحرَّك في مساراتٍ فاسدة، أو منحرفةٍ، أو ضارةٍ بالأوطانِ، والإنسانِ، والحياة.
وإذا لم يتصدَّ علماءُ أمناءُ صلحاءُ؛ لتسلُّم أموالِ الخمس، فأين سوف تذهب؟
طبعًا لن تسلَّم للمؤسَّسات الرَّسميَّة.
ولا خيار للمكلَّفين الذّين لن يتخلَّوا عن أداءِ هذه الفريضة الواجبةِ إلَّا أنْ يتصرَّفُوا فيها وفق قناعاتهم، وبلا رقابةِ علمائيَّة رشيدةٍ أمينةٍ واضحةٍ، وفي هذا ما فيه من مخاطر، ومحتملات مقلقةٍ، وضارَّة جدًّا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.