قضيَّة البعثات
قضيَّة البعثات
لن أستخدم عبارة (مجزرة البعثات) لأنَّها قد تُكدِّرُ بعضَ الخواطر، وخشية أنْ أمارس في هذا تحريضًا على مؤسَّسةٍ
رسميَّة لها تاريخُها العريق.
وإنَّما أستخدمُ عبارة (قضية البعثات)، هُنا (قضية) تحرَّكت عبر وسائل الإعلان، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، فور توزيع وتصنيف البعثات بالنسبة للطلاب المتفوِّقين والطالبات المتفوِّقات.
ماذا تعني هذه القضية؟
هل هي قضية حقيقية؟
ما أسبابُها، وما خلفياتها؟
الذين سمّوها (مجزرة البعثات)، والغالبية من الطلاب والطالبات الذين يعتبرون أنفسهم مغبونين، ومساحة كبيرة من أبناء هذا الوطن غير راضين عن (نتائج التوزيع) واتَّهموا (الوزارة) بتحكيم (معايير طائفية وسياسية).
وأمَّا المعنيون في وزارة التربية، فينفون كلَّ التهم والادعاءات، ويرون أنَّ الضجَّة مفتعلة، وبدوافع مشبوهة، فالوزارة قد
اعتمدت (المعايير العلمية البحتة) بعيدًا عن كلِّ الحِسابات السِّياسيَّةِ والطائفيَّة.
أينَ هي الحقيقية؟
ما شاع على لسانِ العددِ الكبير من أصحاب الـمُعدَّلات العالية من تظلُّمٍ واضح، حيث قالوا بأنَّهم حُرِمُوا من رغباتهم
العلمية الأولى، بل البعض حُرِمُوا من البعثات، وكان نصيبهم ما يُسمَّى بـــ (المنح الدراسية)؟!
أم ما يُؤكدهُ المسؤولون في وزارة التربية من نزاهةِ وعدالةِ التوزيع؟
ما يحسمُ الموقف، ويكشفُ الحقيقةَ، ويُنهي هذا الجدلَ هو أن تُنشَر عبر وسائلِ الإعلامٍ كُلُّ الكشوفات بمعدلاتِ
المُتفوِّقين والمُتفوِّقات، وتحديد الرغبات الأولى في التخصُّصات، وكيف تمَّت التوزيعات، عندها فقط نستطيع أنْ نَحكمَ للوَزارةِ أو عليها.
فما المانعُ من نشر هذه الكشوفات، وهذه الرغبات والتخصُّصات، والتوزيعات؟
الشفافية، والمُكاشفة، والمُصارحة هي الطريقُ لمعالجة الكثيرِ من الأزمات في كلِّ المجالات، وهو الطريقُ لإنهاءِ
التعقيداتِ بين مؤسَّساتِ السُّلطةِ والمُواطنين، وهو الطريقُ لتأسيس حقوق المواطنةِ الصالحةِ .
هكذا تُحمى الأوطان، كلَّما تَحَصَّن الداخلُ كانت الأوطان في أمنٍ وأمان.
وكيف يَتَحصَّنُ الداخل؟
يتمُّ مِنْ خِلالِ تأسيس المواطنةِ الصالحةِ. ومتى تتأسَّسُ المواطنة الصالحة؟
حينما يتوفَّرُ مُكوِّنانِ:
المكوِّن الأول: حقوق المُواطنةِ.
المكوِّن الثاني: مسؤوليَّات المُواطنةِ.
فأنظمةُ الحُكم مطالبةٌ بتوفيرِ الحقوقِ للشعوب، والشعوب مطابقةٌ بأن تُمارس المسؤوليات.
وهنا سؤالٌ يُطرح:
هل المكوِّنانِ مُتلازمانِ وجودًا بمعنى لا حقوقَ بلا مسؤوليات، ولا مسؤوليات بل حقوق، أم هما مترتبان؟
وإذا قلنا أنَّهما مترتِّبان، فأيُّهما يجب أنْ يكون الأسبق، الحقوق أم المسؤوليات؟
فإن قلنا بأسبقية الحقوق، فهذا يعني أنْ لا تطالبُ الشعوبُ بالمسؤوليات قبل أن تتوفَّر لها الحقوق.
وإنْ قلنا العكس، فهذا يعني أنَّ الشعوب إذا لم تمارسْ مسؤوليات المواطنة فلا يحق لها أن تطالب بالحقوق.
ويبدو أنَّ القول بأسبقية الحقوق هو الأقرب إلى المنطقِ.
وهكذا يتمُّ إنتاج المواطنة الحقيقية الصَّادقة من خلال قيامِ الأنظمةِ بتوفير كلِّ الحقوقِ العادلةِ المدوَّنة في المواثيق
والدساتير والقوانين الصَّالحة.
ويترتبُ على ذلك قيامُ الشعوب بكلِّ المسؤولياتِ تجاه الأوطانِ، من خلالِ الممارسةِ والتطبيقِ، وليس من خلال الكلماتِ
والشعاراتِ. فتغييب الحقوقِ له أثارهُ الخطيرةُ المُدمِّرةُ للأوطان، وكذلك تغييبُ المسؤوليات فكيف تُبنى أوطانٌ بلا مسؤوليات.
هنا يأتي دورُ التفاهم والحوارات في تحصينِ الحقوق، وفي تفعيل المسؤوليات، وأيُّ خيارٍ آخر يقودُ إلى منزلقاتٍ
خطيرة، فما أحوج الأوطان في هذه المرحلةِ الصعبةِ بكلِّ تحدِّياتها القاسية إلى درجاتٍ عاليةٍ من الحكمةِ، لا أعني بهذا التهاون في مواجهة الأخطار، وإنَّما التعاطي المدروس، والذي يُعزِّز الثقة بين الأنظمةِ والشعوب، وبين مكوِّنات
الشعوب، وبمقدار ما تتعزَّز هذه الثِّقة تكون الأوطان والشعوب أقدر على مواجهة الأخطار التي باتت مُرعبة.