حديث الجمعة 375: الحج هجرةٌ إلى الله تعالى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلينَ محمَّدٍ وعلى آله الهداةِ المعصومين..
قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج/27)
مَنْ المُخاطَب في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ﴾؟
للمفسرين رأيان:
الرأي الأول: إنَّه نبيّ الله إبراهيم عليه السَّلام..
الرأي الثَّاني: إنَّه نبيُّنا محمَّد صلَّى الله عليه وآله..
والرأي الأول هو الأشهر والأقرب، حيث جاءت الآية في سياق قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (الحج/26)، فبعد أنْ أمر الله تعالى نبيَّه إبراهيم عليه السَّلام بإتمام بناء الكعبة المشرَّفة وإعدادها للطواف والعبادة جاءه النداء ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ…﴾ أي أعلن للناس وجوب الحجّ… تقول بعض الرِّوايات: إنَّ إبراهيم عليه السَّلام قام في المقام فنادى: أيُّها النَّاسُ! إنَّ الله دعاكم إلى الحجِّ، فأجابوا بلبيكَ اللَّهم لبيك، فأسمع الله تعالى صوته كلَّ مَنْ علمه بأنَّه يحج إلى يوم القيامة، وفي رواية أخرى: لمَّا أمر الله سبحانه إبراهيم أنْ ينادي في النَّاس بالحج صعد جبل أبي قبيس ووضع إصبعه في أذنيه وقال: يا أيُّها النَّاسُّ أجيبوا ربَّكُمُ، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال…
وإذا كان نبيُّ الله إبراهيم هو الذي أعلن وجوب شعيرة الحج، فقد جاء الإسلام فأكَّدها وأوضح الكثير من مناسكِها وأحكامِها وتفصيلاتِها، قال تعالى : ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران/97)
وقال صلَّى الله عليه وآله: «مَنْ سوَّف الحج حتَّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديًا أو نصرانيًا».
والحج رحلة ربَّانية تنقِّي الإنسان من كلِّ الآثام..
قال صلَّى الله عليه وآله: «أيّ رجل خرج من منزله حاجًا أو معتمرًا فكلّما رفع قدمًا ووضع قدمًا تناثرت الذنوب من بدنه كما يتناثر الورق من الشجر».
إنها الرحلة الربانية التي تطهِّر الإنسان من تلوثات الذنوب والمعاصي، فمع أول خطوات هذا الرحلة تبدأ عملة التطهير والتنقية فتتساقط الذنوب، والتعبير بتناثر الذنوب من البدن لأنٍَّ جوارح البدن هي أدوات المعاصي، العين تعصي، والأذن تعصي، واللسان يعصي، وكذلك بقية الجوارح، هكذا تبدأ رحلة العودة إلى الله تعالى…
يتابعُ النبي صلَّى الله عليه وآله حديثه فيقول: «فإذا وَرَد – أي الحاج أو المعتمر – المدينة وصافحني بالسَّلام صافحته الملائكة بالسَّلام».
إنَّها محطة من محطات السير إلى بيت الله لمن يبدأ بزيارة الحبيب المصطفى صلَّى الله عليه وآله، ليقف على الأرض التي شهدت أقدس تاريخ، ولتتملَّى روحُهُ عُشقًا وهيامًا وذوبانًا وهو يصافح بالسَّلام أعظم إنسانٍ في تاريخ الدنيا، فيكون الرَّد سلامًا مباركًا تحمله الملائكة، ممزوجًا بنفحاتٍ ربَّانيةٍ تزوِّد الحاجَّ أو المعتمر زادًا روحيًا في قطع أشواط هذا الطريق إلى الله، ليزداد طُهرًا ونقاءً وصفاء..
ويتحرَّك الحاجُّ أو المعتمر نحو (الميقات) ليبدأ أول منسك من مناسك هذه الرِّحلة، «فإذا ورد ذا الحليفة أو اغتسل طهرَّه الله من الذنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين جدَّد الله له الحسنات».
إذا نزل الحاج أو المعتمر (ميقات الإحرام) يبدأ بالاغتسال، ناويًا الاغتسال من الخطايا والذنوب…
ويتجرَّد من مخيط الثياب، متجرِّدًا بذلك من الرِّياء والنفاق والدخول في الشبهات…
وهكذا يخلع ثياب المعاصي، ويلبس إحرام الطاعة، ليبدأ المشوار إلى بيت الله طاهرًا مطهرًا نقيًّا تائبًا معلنًا اللجوء إلى ربِّه قائلًا (لبيك اللَّهم لبيك)، فيجيبه الربُّ الجليل (لبيك وسعديك أسمع كلامك وأنظر إليك…) فيا له من مقام عظيم، ولو علم الحاج أو المعتمر حينما يلبي في أيّ مقام هو عند ربِّ العزَّة، ما انفتل لحظةً واحدةً من التلبية…
وإذا لبَّى الحاج أو المعتمر أصبح محرمًا، متحرِّرًا من النزعات الذاتية ملغيًا كلَّ الفوارقِ المصطبغة، مُسقطًا كلَّ المعايير الزائفة…
ويستمر الحجيج والمعتمرون جادِّين السير إلى بيت الله وهناك عند البيت العتيق، مركز التوحيد، يطوفون ضارعين، باكين، متشبِّهين بالملائكة الطائفيين حول البيت المعمور، ومقتدين بالأنبياء والأولياء وعباد الله الصَّالحين، وهكذا في تطواف ملائكي روحي ذائب في عشق الله تعالى، مصافحين الحجر مؤكِّدين البيعة للرَّب الجليل…
يسأل الإمام زين العابدين عليه السَّلام الشبلي – أحد الحجيج الطائفين -: صافحتَ الحجر؟
فصاح الإمامُ زينُ العابدين صيحةً كاد يفارق معها الحياة وقال: «آهٍ آهٍ مَنْ صافح الحجر فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين، ولا تضيِّع آجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة، وقبض الحرام نظير أهل الآثام».
وعند مقام إبراهيم يؤدِّى الطائفون صلاة الطواف مستلهمين جهاد إبراهيم الخليل، مقتدين به…
ثمَّ يتجهونَ إلى الصفا ساعين إلى المروة في حركة رواح ومجيئ معبِّرين عن اللجوء والانقياد إلى الله، ومؤكِّدين الإصرار والإرادة، خائفين راجين، في سيرٍ هادف واعي…
وفي ختام هذا الحراكِ يقصِّرون متخفِّفين من المعاصي والذنوبِ والآثام…
وبذلك يكون التحللِ والاستراحةِ والتهيؤ للمرحلة الثانية من مراحل هذه الرحلة الربَّانية…
والتي تبدأ بإحرام جديد، وتأكيد جديد على مواصلة السير إلى الله تعالى بروحٍ نقية طاهرة..
وفي محطةٍ هي الأبرز يقف الحجيج على صعيد عرفات بدءًا من زوال يوم التاسع من ذي الحجة وحتَّى غروب الشمس… وهنا يصل الحجيج قمة العشق الإلهي، وهنا تعجُّ الأصواتُ الضارعة إلى الله، المعترفة بالذنوب، التائبة المنيبة إلى ربِّها…
«فإذا وقفوا في عرفات، وضجَّت الأصوات بالحاجاتِ، باهى الله بهم الملائكةَ سبع سمواتٍ، ويقول: يا ملائكتي وسكانَ سمواتي أما ترون إلى عبادي أتوني من كلّ فجٍّ عميق، شُعثًا، غبْرًا، قد أنفقوا الأموالَ، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي لأهبنَّ مسيئَهم بمحسنهم، ولأخرجنهم من الذنوبِ كيوم ولدتهم أمهاتهم».
عن السَّجاد عليه السَّلام قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله لبلال حين همت الشمس أنْ تغرب – يعني في يوم عرفة -: «يا بلال قل للنَّاس فلينصتوا – فلمَّا أنصتوا قال صلَّى الله عليه وآله – إنَّ ربَّكم تطوَّل عليكم في هذا اليوم فغفر لمحسنكم وشفع لمحسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفورًا لكم».
وعن رسول الله صلَّى الله عليه وآله قال: «أعظم أهل عرفات جرمًا مَنْ انصرف وهو يظن أنَّه لم يُغفر له».
وعنه صلَّى الله عليه وآله: «من الذنوب لا تغفر إلَّا بعرفات».
وإذا غربت الشمسُ من يوم عرفة أفاض الحجيج إلى المزدلفة ذاكرين الله ﴿فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ…﴾ (البقرة/198)
في هذه القطعة من الأرض – وهي قطعة من حرم الله – يعيش الحجاج ليلة تأمُّلٍ وتبتل، وتهجُّد، وتضرُّع، ودعاء…
وفي هذه القطعة يبدأ الاستعداد والتهيؤ لمواجهة الشيطان بالتقاط عددٍ من الحصيات وفي هذه البقعة تصبُّ الرَّحمة على العباد…
الإمام الصَّادق عليه السَّلام سأله رجل في المسجد الحرام: مَنْ أعظم النَّاس وزرًا؟
فقال عليه السَّلام: «مَنْ يقف بهذين الموقفين عرفة ومزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثمَّ طاف بهذا البيت، وصلَّى خلف مقام إبراهيم، ثمَّ قال وظنَّ في نفسه أنَّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم النَّاس وزرًا».
وإذا أشرقت شمس العاشر من ذي الحجة – يوم الأضحى – تحرك الحجيج إلى (منى) مكبِّرين ومهلِّلين وضارعين إلى الله، متمنِّين الخيرات والبركات والفيوضات الرَّبانية…
ولماذا سميت هذه الأرض بـ (منى)
روي أنَّ جبرائيل لما أراد أنْ يفارق آدم عليه السَّلام – وكان في هذه البقعة – قال له: تمنَّ، قال آدم: أتمنَّ الجنَّة.. فسميت بذلك لأمنية آدم..
وفي خبر آخر: أنَّ الإمام الرضا عليه السَّلام سئل عن سبب التسمية فقال: «لأنَّ جبرائيل عليه السَّلام قال هناك لإبراهيم عليه السَّلام: تمنَّ على ربِّك ما شئت، فتمنَّى أنْ يجعل الله مكان ولده إسماعيل كبشًا يأمره بذبحه فداءً له، فأعطاه الله مناه».
في منى يمارس الحجاج – يوم عيد الأضحى – ثلاثة أعمال:
يرمون جمرة العقبة بسبع حصياتٍ، معبِّرين عن مواجهة الشيطان، ومستذكرين موقف نبي اللهِ إبراهيم عليه السَّلام حينما أخذ ابنه إسماعيل ليذبحه امتثالًا لأمر الله تعالى، فاعترضه الشيطان في موقع العقبة، فقذفه إبراهيم بحصاة وأخرى حتى أكمل سبعًا، ومضى عليه السَّلام مصمِّمًا على تنفيذ الأمر الإلهي.. فأصبح الرمي سنةً تعبِّر عن التحدِّي والإصرار في مواجهة الشيطان وكلّ رموز الشيطان في الأرض…
والعمل الثاني في منى (ذبح الهدي) في تعبير رمزي عن استعداد للتضحية والفداء من أجل الله ومن أجل المبادئ الحقة، مهما كان الثمن كبيرًا وغاليًا ومكلفًا…
ثمَّ يحلق الحجاج أو يقصرون متخلِّصين من كلِّ الأوساخ والتلوثات الروحية…
وبذلك يتحلَّل الحاج من كلِّ محرَّمات الإحرام ما عدا الطيب والنساء والصيد.
ثمَّ يقفلون راجعين إلى بيت الله ليؤدُّوا طواف الزيارة، مؤكِّدين هوية الانتماء إلى خط التوحيد…
فإذا طافوا وسعوا، وطافوا طواف النساء حلَّ لهم الطيب والنِّساء..
وأمَّا صيد الحرم فهو محرم لكلِّ من يكون في الحرم محرمًا كان أو محلًّا، لقدسية هذه الأرض المشرَّفة…
وفي ليالي التشريق يبيت الحجاج في منى عابدين الله، متضرعين، شاكرين، حامدين، فليالي التشريق – ليلة الحادي عشر، والثاني عشر والثالث عشر – ليالي عبادة، وليالي تقويم ومراجعة ومحاسبة…
وفي نهار هذه الأيام يمارس الحجاج رمي الجمار بدءًا من الجمرة الصغرى وانتهاء بجمرة العقبة، في جولة جديدة في مواجهة الشيطان للتأكيد على استمرار التصدِّي لكل غوايات الشطان، وظلالاته، وإغراءاته، ولعلَّ جعل الرمي آخر عمل يمارسه الحجاج قبل الإفاضة يحمل دلالة كبيرة في أنَّ المعركة مع الشيطان مستمرة ودائمة، فيجب أنْ يكون الإنسان المؤمن معبَّأ إيمانيًا وثقافيًا وروحيًا وجهاديًا في كلِّ الأوقات، وفي كلِّ الظروف، لمواجهة أعباء هذه المعركة الصعبة، فالانتصار على الشيطان في حاجة إلى استعداد دائم…
وفي الختام نؤكِّد أنَّ مدرسة الحج تصوغ أجيال الأمَّة في خط التصدِّي والمواجهة لكلِّ قوى الضلال في الأرض، ولكلِّ قوى الباطل، والانحراف، والفساد…
وإذا كانت أجيالنا في حاجة إلى تعبئة إيمانية ورسالية وجهادية وسياسية، فالحج الواعي يصنع هذه التعبئة وبطريقة مُحصَّنة من كلِّ الانحرافات والانزلاقات والمتاهات والضلالات…
فليست كلّ التعبئات الجهادية والسِّياسية المزعومة هي صادقة، وأصيلة، ونظيفة، فما أكثر العناوين الزائفة والكاذبة والمضللة وإنْ حملة شعارات الجهاد ولافتات السِّياسة فها هي جماعات الإرهاب والتفكير تتبرقع بشعار الجهاد وإقامة دولة الإسلام، وهي مارقة، ضالة، عابثة بقيم الدِّين ومفاهيم الإسلام، فما أحوج أمَّتنا وجماهيرنا وشعوبنا إلى مُحصِّنات إيمانية حقيقية بعيدة كلّ البعدِ عن أشكال التزوير والكذب، والخداع، والتضليل…
وحتَّى شعار الحرب ضدَّ الإرهاب يجب أن يكون مُحصَّنًا، وبعيدًا عن الأغراض المشبوهة، والأهداف الماكرة، إذا كان العالم قد تداعى اليوم لإعلان الحرب ضدَّ الإرهاب والإرهابيين فليس بالضرورة أن تكون المنطلقات نظيفة، والدوافع صادقة، وخاصة وأنَّ هذا الإرهاب هو صنيعة قوى عالمية لأهداف تخدم مصالح تلك القوى، ويبقى الإرهاب مرفوضًا كلّ الرفض، ويشكِّل خطرًا كبيرًا على الأديان والأوطان والإنسان، حمى الله البلاد والعباد من هذا الخطر المدِّمر…
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.