حديث الجمعة 360 : أنماط من الكذب شائعة – لا حلَّ لأزمة هذا الوطن
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة الميامين وبعد فمع أكثر من عنوان:
أنماط من الكذب شائعة:
الكذب في معناه العام من الكبائر المغلَّظة المشدَّدة، بل ورد أنَّه من الكبائر، ففي الكلمة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله قال: «ألَا أخبركم بأكبر الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور».
وفي الكلمة عن الإمام الحسن العسكري عليه السَّلام:
«جُعِلَتْ الخبائثُ كلُّها في بيت واحد، وجُعِلَ مفتاحها الكذب».
وفي حديث عن النبي الأكرم صلَّى الله عليه وآله:
«إنَّ المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف ملك ويخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش، وكتب الله عليه بتلك الكذبة زنية أهونها كمن زنى بأمِّه».
وربَّما يكون هذا الحديث ناظرًا إلى أشدِّ مراتب الكذب كالكذب على الله ورسوله صلَّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السَّلام أو إلى الكذب الذي يثير الفتن ويهتك الأعراض، ويسفك الدماء أو الكذب في شهادات الزور…
فالكذب في عنوانه العام خطيرٌ خطير جدًا، ونظرة إلى ما ورد في القرآن الكريم من آياتٍ تتحدَّث عن الكذب نكتشف حجم الخطورة في هذا العمل الشنيع البغيض…
هذه بعض آيات قرآنية:
• ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ…﴾ {النحل/105}
فالكذب مساوق لعدم الإيمان بآيات الله…
• ﴿أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ {النور/7}
• ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ {آل عمران/61}
والأحاديث والرِّوايات متظافرة في موضوع الكذب…
ما يعنينا في حديثنا هنا هو الإشارة السريعة إلى بعض أنماط من الكذب شائعة ومنتشرة في أوساط النَّاس، ولعلَّهم لا يحسبونها من الكذب المحرَّم…
من هذه الأنماط:
(1) الكذب في المجاملات:
تشكِّل المجاملات نمطًا شائعًا من السلوك بين النَّاس، بل تعتبر لونًا من الأخلاق الاجتماعية، ومَنْ لا يمارس هذه المجاملات يتهم بالجفاف الأخلاقي…
ما موقف الشرع من المجاملات؟
أنْ يعبر أحدنا عمَّا في داخله من حب ومودَّة وإخلاص اتجاه الآخرين أمرٌ جميل، ومطلوب، بل مندوب إليه شرعًا، مادام هذا التعبير صادقًا، فقد ورد في بعض الأحاديث أنَّه إذا كنت تحبّ مؤمنًا فقل له إنِّي أحبُّك في الله…
أمَّا في دائرة العلاقات الزوجية فمطلوب جدًّا أنْ يعبِّر بشكلٍ مكشوف كلٌّ من الزوج والزوجة عن حبِّه للآخر، فهذا ينعش أجواء الحياة الزوجية، ويمسح كلَّ المكدِّرات والمنغِّصات، ويمتِّن العلاقات، فيجب أنْ لا يبخل الزوج على زوجته بكلمة حبٍّ، وأنْ لا تبخل الزوجة على زوجها بكلمة حبِّ.
إذًا التعبير عن الحبِّ والمودَّة والإخلاص اتجاه الآخر أمر له آثار كبيرة في زرع التآلف والتقارب بين النَّاس.
والسؤال الذي نطرحه هنا:
ماذا لو كانت كلمات المجاملة غير حقيقية، وغير صادقة، بل هي كلمات كاذبة؟
فما أكثر ما يقول أحدنا للآخر أنِّي أحبُّك، وهو في داخله لا يحبُّه، فهل يُعدُّ هذا من الكذب المحرَّم؟
وما أكثر ما يقول أحدنا للآخر أنِّي لا أنساك شخصيًا من الدعاء في كلِّ صلاة، وهو لم يذكره ولا مرة واحدة، إلَّا إذا كان يقصد أنَّه مشمولًا بالدعاء العام.
وما أكثر ما يقول أحدنا للآخر أنِّي أقيِّم وأثمِّن دورك ونشاطك وهو في داخله يحمل عكس ذلك.
وما أكثر ما يقول أحدنا للآخر أنِّي أحترمك وأقدِّرك وأجلُّك لما لك من مكانة دينية أو اجتماعية أو سياسية، وهو في داخله يحمل نقيض ذلك.
وبماذا نبرِّر لأنفسنا هذا التناقض؟
المبرِّر أنَّ هذه المجاملات وهي من الأخلاق الاجتماعية المطلوبة.
ما موقف الشرع من هذه المجاملات؟
إنَّها نوع من الكذب المحرَّم، ما دامت تحمل إخباراتٍ غير صادقة.
يمكن أنْ تمارس سلوكًا اجتماعيًا، كأن تقوم لشخص مجاملةً، أو تبتسم مجاملةً، أو تسلِّم على شخص مجاملة، أو تقدِّم خدمة لإنسان مجاملة، أو أنْ تحضر حفل زواج، أو مناسبة عزاء مجاملة، أو أنْ تستجيب لرغبة إنسان مجاملة.
كلُّ هذه الألوان من المجاملات ربَّما لا تعبِّر عن واقع، إلَّا أنَّها لا تعتبر من ضمن (الكذب المحرَّم) لأنَّها لا تعبِّر عن إخباراتٍ كلامية.
فالكلمات الإخبارية الكاذبة تندرج ضمن المحرَّمات.
وأمَّا الممارسات العملية التي تعبِّر عن مجاملات تفرضها أوضاع اجتماعية، وعلاقات النَّاس بعضهم مع البعض، فهذه الممارسات قد لا تكون حقيقية، إلَّا أنَّها لا تسمى كذبًا قوليًا، نعم إذا أصبحت شكلًا من أشكال (النفاق الاجتماعي) فهو سلوك مدمِّر وخطير، يؤسِّس لعلاقات كاذبة تهدِّد البنية الاجتماعية، وتزرع هواجس الشكِّ والرِّيبة بين النَّاس.
لا أتحدَّث هنا عن (النفاق العقيدي) وإنَّما النفاق في العلاقات الاجتماعية.
• في الكلمة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم:… ورجل استقبلك بود صدره، فيواري وقلبه ممتلئ غشًا».
• وفي كلمة له عليه السَّلام:
«ما أقبح الإنسان أن يكون ذا وجهين».
• وجاء في الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:
«يجيئ يوم القيامة ذو الوجهين دالعًا لسانه في قفاه وآخر في قدَّامه، يلتهبان نارًا حتَّى يلهبا جسده، ثُمَّ يقال له: هذا الذي كان في الدُّنيا ذا وجهين وذا لسانين يُعرف بذلك يوم القيامة».
نتابع الكلام – إن شاء الله – حول عنوان «أنماط من الكذب شائعة».
لا حلَّ لأزمة هذا الوطن:
إذا وصل النظام إلى القناعة بأنْ لا حلَّ لأزمةِ هذا الوطنِ، وإذا وصل الناشطون السِّياسيون إلى القناعةِ بأنْ لا حلَّ لأزمةِ هذا الوطنِ، وإذا وصل الشارعُ إلى القناعةِ بأنْ لا حلَّ لأزمةِ هذا الوطنِ، فتلك الكارثةُ العظمى، وعندها فالويل الويل لهذا الوطن، والويل الويل لأمن هذا الوطن، والويل الويل لحاضر هذا الوطن ومستقبل هذا الوطن.
نعم إنَّنا نقول:
لا حلَّ لأزمة هذا الوطن ما دام الخيار الأمني هو القرار، ومادام الرصاص هو اللغة، ومادام البطش هو الموقف، ومادام السجن هو المصير.
لا حلَّ لأزمة هذا الوطن مادام الحوار الجادُّ الصَّادق غائبًا، لقد أصبحت مفردة (الحوار) ممقوتة، ممجوجة، سيئة السمعة لدى الجماهير، لكثرة ما زُجَّ بها في المناورات السِّياسية الخادعة، وفي أغراض الدعايات الإعلامية المضلِّلة، وفي أهداف المساومات الرَّخيصة…
كلّ ما تقدّم من مبادرات حملت عنوان (الحوار) خلقت لدى النَّاس عقدة صعبة تجاه هذا العنوان لا لأنَّ الناس لا يؤمنون بالحوار، وإنَّما لكثرة الابتزاز الذي وُظِّف من أجله عنوان الحوار، ولكثرة الإخفاقات التي صاحبت تجارب الحوار، مَنْ المسؤول عن تلويث سمعة الحوار، العنوان الذي يحمل قيمةً راقيةً في منظور الدِّين، والقيم، والقانون، ومبادئ الإنسانية؟
أنظمة الحكم تتهم القوى المعارضة بأنَّها وراء هذا الإساءة لعنوان الحوار، ووراء هذا التلويث، ووراء هذه الإخفاقات.
فما تحرك حوار وفشل، إلَّا وبادرت ماكنة الأنظمة الحاكمة الإعلامية لتوجيه الاتهام لقوى المعارضة، بأنَّها السبب، ولم يصادف ولو لمرَّة واحدة أنَّ الأنظمة هي مَنْ أفشلت الحوار، وهذا يعني أنَّ النية لدى الأنظمة دائمًا صادقة، وأنَّ الإرادة لديها دائمًا جادَّة، وأنَّ الإخلاص لديها دائمًا متوفِّر.
والعكس لدى القوى المعارضة، فهي وفق منظور الأنظمة لا تحمل نيةً صادقة، ولا تملك إرادةً جادَّة، ولا تتوفَّر على الإخلاص أبدًا…!
من الطبيعي جدًّا أن تكون هذه لغة الأنظمة الحاكمة التي لا تستطيع أن تتحمَّل مواقف سياسية رافضة، ومعارضة، وناقدة، فكيف إذا تحوَّلت هذه المواقف إلى مخاضات شعبية، وحراكات شعبية، بل إلى انتفاضات شعبية، ولن استخدم لفظ (ثورات شعبية) فهي تعكِّر كثيرًا مزاجات أنظمة الحكم، وربَّما تدفعها إلى (هسترات أمنية وسياسية) فدعونا مع مصطلح (الحراكات والمخاضات)، فكلُّ أنظمة الحكم التي تزعجها هذه الحراكات والمخاضات الجماهيرية لا تسمح لنفسها أنْ تعترف بأخطائها وإخفاقاتها السِّياسية، ولا تسمح لنفسها أنْ تتحمّل فشل الحوارات والتفاهمات واللقاءات مادامت هي بريئة كلّ البراءة من الخطأ والإخفاق.
أمَّا رؤية القوى الناشطة المعارضة، وأمَّا رؤية الشارع المعارض لسياسات الأنظمة، فهي تحمِّل هذه الأنظمة كلَّ المسؤولية في غياب الحوارات الجادَّة الصَّادقة، وفي فشل كلِّ المبادرات واللقاءات والتفاهمات…
فهاهو المشهد السِّياسي في هذا البلد، بكلِّ تعقيداته وتأزماته، يبحث عن حلٍّ لمأزقه ومحنته، وكثر الحديث عن الحوار، إلَّا أنَّه بلا جدوى حقيقية، ممَّا أنتج لدى المساحة الأكبر من أبناء هذا الشعب قناعة تامة بعدم جدِّية وصدقية السُّلطة في البحث عن الحلِّ الذي ينقذ هذا الوطن، وما يطرح من مبادرات تحمل اسم الحوار هي مجرَّد استهلاك سياسي وإعلامي، ومحاولات لكسب الوقت.
نتمنى أنْ تتبدَّل هذه القناعة، وأنْ تتغيَّر هذه الرؤية لدى الشارع وقوى المعارضة، إلَّا أنَّ هذا التبدُّل، وهذا التغيُّر في حاجة إلى يتجذّر الاطمئنان، وهذا التجذُّر له مكوِّناته:
أول هذه المكوِّنات أنْ يتجمَّد المشهد الأمني الذي يلاحق أوضاع النَّاس، ويحاصر كلَّ حياتهم.
وثاني هذه المكوِّنات أنْ تُنظَّف السجون من معتقلي الرأي.
وثالث هذه المكوِّنات أنْ يبدأ حوارٌ جادٌّ وصادقٌ وصريحٌ ينفتح على الأسباب الحقيقية للأزمة في هذا البلد، وتكون له منتجات قادرة أنْ تعالج تلك الأسباب معالجة جذرية، وليس معالجة شكلية.
ورابع هذه المكوِّنات أنْ يستمع إلى رأي الشعب في أيِّ حلٍّ يراد فرضه لإنقاذ هذا الوطن من أزمته.
وخامس هذه المكوِّنات أن يتحرَّك هذا الحلُّ على الأرض وفق برمجة عملية متوافق عليها، مدَّعمة بضماناتٍ حقيقية لا تسمح مجالا للمغالطة والتمويه والضحك على الجماهير.
عندها فقد يمكن أنْ تتبدَّل القناعة لدى النَّاس، وأنْ تتغيَّر الرؤية لدى الشارع.
وماعدا ذلك فسوف يبقى الشكُّ كلّ الشكّ، وسوف تبقى الهواجس كلّ الهواجس، وبالتالي تبقى الأزمة، وتبقى مآسي الشعب، وتبقى الآلام والعذابات، وهذا ما لا يتمناه كلّ المخلصين لهذه الأرض، وكلّ الغيارى على أمن هذا الوطن.
وآخرُ دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.