حديث الجمعة 356: الحبُّ في الله – البطش لا ينتج أمنًا – المجلس العلمائي لا ينطلق من مبنى صغير – الشهيد الشاب فاضل عباس مسلم
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين وبعد فمع بعض العناوين…
الحبُّ في الله:
في أحد الأيام طرح الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على أصحابه هذا السؤال:
((أيُّ عُرى الإيمان أوثق؟…))
– العروة ما يتمسك به أمانًا من السقوط..
– عُرى الإيمان يجب التمسك بها وإلّا سقط الإنسان في مهاوي الضلال والانحراف، وكان مآله السقوط في نار جهنم…
– عُرى الإيمان كثيرة، وهنا يسأل النبي صلّى الله عليه وآله أصحابه عن أوثق عرى الإيمان، أيّ أقوى عُرى الإيمان…
وكان صلّى الله عليه وآله دائمًا يحرّك لدى أصحابه التفكير والتدبّر ومحاسبة القضايا والأوضاع وهذا هو منهج القرآن ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ…﴾ {النساء/82}، ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ… ﴾ {المؤمنون/68}، ﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا… ﴾ {سبأ/46}، ﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ {الأنعام/50}، ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ… ﴾ {آل عمران/191}، ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ {النمل/64}
هكذا يجب أنْ تتحرّك العقول لتتعاطى مع قضايا الكون والإنسان والحياة في كلّ مناحيها الفكرية والروحية والاجتماعية والسّياسية، فالمؤمن ليس إنسانًا امعّةً ينقاد بلا وعي ولا بصيرة، فهو يحاسب المواقف والآراء والخيارات بكلّ روّية وتدبّر ولا تخدعه الألاعيب السّياسية والثقافية…
نعود لسؤال الذي طرحه النّبي صلّى الله عليه وآله على أصحابه:
((أيّ عُرى الإيمان أوثق))
فماذا كان جواب الصحابة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم وبدأ منهم يرحون إجاباتهم وتعدّدت آراؤهم:
– قال بعضهم: الصَّلاة
– وقال بعضهم: الزكاة
– وقال بعضهم: الجهاد
– وقال بعضهم… وقال بعضهم…
وماذا قال النبي صلّى الله عليه وآله تعقيبًا على إجابات الصّحابة؟
قال صلّى الله عليه وآله: ((لكلّ ما قلتم فضل وليس به))
وشدّ الصحابة أسماعهم لما يقول لهم نبيّهم صلّى الله عليه وآله..
قال صلّى الله عليه وآله:
• ((ولكن أوثق عُرى الإيمان الحبُّ في اللهِ والبغضُ في الله، وتوالي أولياء الله وتبرئ من أعداء الله))
وقد أكّدت قيمة الحبّ في اللهِ كلماتٌ كثيرة نذكر منها:
• إنّ الله قال لموسى عليه السَّلام: ((هل عملت لي عملًا قط؟ قال: صلّيتُ لك، وصمتُ، وتصدّقت، وذكرتُ لك، قال الله تبارك وتعالى: أمّا الصّلاة فلك برهان، والصوم جُنّة، والصدقة ظلٌّ، والذكرُ نورٌ، فأيّ عمل عملتَ لي؟ قال موسى عليه السَّلام: دلّني على العمل الذي هو لك، قال: يا موسى هل واليت لي وليًّا، وهل عاديت لي عدوًّا قط؟ فعلم موسى أنّ أفضل الأعمال الحبُّ في الله والبغض في الله)).
• وعن الإمام زين العابدين عليه السَّلام قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد بحيث النّاسِ فيقال لهم: أذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، فتستقبلهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب..
فيقولون: أيّ حزب أنتم من النّاس؟
فيقولون: نحن المتحابون في الله…
فيقولون: فأيّ شيء كانت أعمالكم؟
قالوا: كنّا نحبُّ في الله ونبغض في الله..
فيقولون: فنعم أجر العاملين)).
• وعن الإمام الصّادق عليه السَّلام قال: ((إنّ المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور، وقد أضاء نورُ وجوههم، ونورُ أجسادهم، ونور منابرهم كلَّ شيء حتى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابون في الله))
ما معنى الحبُّ في الله؟
حينما أحبّ إنسانًا، فأتا محكوم في هذا الحبّ إلى سبب ما..
ربّما أحبُّ إنسانًا لمنفعة من منافع الدنيا البحتة، وهذه المنفعة:
– قد تكون منفعة دنيوية غير مشروعة (يقدّم لي مالًا حرامًا، عملًا حرامًا، يساعدني على ظلم) هذا حبّ محرّم بلا إشكال…
– قد أحبّه لمنفعة دنيوية مشروعة (يقدّم لي خدمة دنيوية مشروعة، يدافع عن حقوقي الدنيوية المشروعة) هذا الحبُّ مشروع، إلّا أنّه ليس الحبّ في الله…
– ربّما أحبُّ إنسانًا لأنّه ليس الحبَّ ليس منفعة أخروية:
علمينّي أمور ديني…
أمرني بمعروف ونهاني عن منكر…
أرشدني إلى الطريق المستقيم…
قرّبني إلى الله…
هذا الحبّ لا شك من مصاديق الحبّ في الله…
ويبقى المصداق الأجلى والأوضح للحبّ في الله…
((أنْ أحبَّ إنسانًا لله في الله بدون النظر إلى أيّ منفعة، أحبّه كونه عبدًا صالحًا مطيعًا لله))
أيّها الأحبّة:
أبحثوا عن حبٍّ في الله لتحضوا بأشرف المراتب عند الله تعالى ولتحضوا بالدرجات العالية، والمقامات الرّفيعة في الجنان… حاسبوا حبَّكم وبغضكم، خشية أن يقودكم هذا الحبّ وهذا البغض، خشية أن يقودكم هذا الحبُّ وهذا البغض إلى غضب الله، وإلى عقابه…
ولن تنفعنا كلُّ مكاسبِ الدنيا، إذا خسرنا الآخرة…
• ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ {*} وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ {*} وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ {*} وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ {*} كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ﴾ {المعارج/11-12-13-14-15}
• ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ {يونس/54}
دعونا نفتش عن علاقاتٍ يحكمها الحبّ في الله ويحكمها التقوى… فهذه العلاقات هي الباقية…
﴿ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ {الزخرف/67}
العلاقات التي تحكمها أغراض الدّنيا، شهواتُ النفس بعيدًا عن رضى الله تعالى فهذه علاقات خاسرة، مآلها إلى البوار والندامة الأبدية… ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا {*} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا {*} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي… ﴾ {الفرقان/27-28-29}
البطش لا ينتج أمنًا:
الوطن في حاجة إلى أمنٍ، هذا ما يؤمن به كلُّ الأطراف، هذا ما تؤمن به السلطة، وهذا ما تؤمن به قوى المعارضة، وهذا ما تؤمن به قوى الموالاة، وهذا ما يؤمن به كلُّ أبناء هذا الشعب…
ولكن السؤال: ما الطريق إلى هذا الأمن؟
مهما تعدّدت الرؤى والقناعات، فالأمر الذّي لا شكّ فيه، أنَّ البطش لا ينتج أمنًا، وأنَّ الرصاصَ لا ينتج أمنًا، وأنَّ القتل لا ينتج أمنًا…
وحينما نتحدّث عن أمن الوطن فهو أمن لا يتجزأ، ليس هذا الأمن فقط هو أمن السّلطة والحكم، بل يجب أنْ يكونَ أمنًا لكلّ الشعب.. إذا فقد الشعب أو بعض الشعب أمنه، فلا أمن في هذا الوطن، بل ولا أمنَ للسَّلطة والحكم…
الأمن واحد لا يتجزأ، أمن الشعب، أمن النظام، أمن الوطن كلّهِ…
كيف يُصنعُ أمنُ الوطن؟
– لا يصنعُ أمن الوطنِ بطشٌ وفتكٌ وقتلٌ ودماء…
– لا يصنعُ أمن الوطنِ ملاحقاتٌ، ومداهماتٌ، واعتقالاتٌ، ومحاكمات، وزنزانات تزدحم بأعداد كبيرة من أبناء هذا الشعب، من رجاله، ونسائه، وشبابه، وأطفاله… من علمائه وأطبائه وممرضيه ومعلميه ومحاميه ومهندسيه وصحفييه وإعلامييه وموظفيه وعمّاله ورياضييه وطلابه وكلّ فئاته…
– لا يصنعُ أمن الوطنِ المساسُ بمقدّساتٍ ومساجد وشعائر دينيةٍ، ومراقد أولياءَ وصالحين…
– لا يصنعُ أمن الوطنِ ملاحقة مشروعٍ علمائي يمارس وظيفةً دينية تتمثل في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والتصدّي لكلّ المنكرات، بدعوى أنّه مشروع لا يملك شرعية رسمية، ومتى كانت المسؤوليات الشرعية محكومة للقرارات الرسمية، ومتى كانت الوظائف الدينية مرهونة بإرادات المؤسسات الوضعية، ومتى كانت التكاليف الإلهية تؤخذ من أنظمة السياسة، من السهل جدًا أنْ يصدر حكمٌ ضدّ المجلس العلمائي ولكن من الصعب جدًا أنْ يُلغى دور هذا المجلس ما دام على هذه الأرض علماءٌ أخلصوا لدينهم ولمسؤولياتهم الشرعية، ولم يخشوا إلّا الله سبحانه…
من السهل جدًا أنْ يُغلق موقع من حجارة وطابوق ولكن لا يمكن أبدًا أن تُغلقَ المئات الآلاف من المواقع التي تجذّرت في قلوب أبناء هذا الشعب الوفي الذي أحتضن المجلس العلمائي وذاب في أهدافه، هل يستطيع قرار رسميٌّ أنْ يَغلق كلَّ هذه المواقع؟
ثمّ إنّ المجلس لا ينطلق من مبنى صغير…
له في كلّ مسجد منطلق، وفي كلّ حسينية منطلق، وفي كلّ قرية ومدينة منطلق، وفي كلّ شارع وزقاق منطلق…
إذا استطاع حكم القضاء أنْ يغلق كلَّ المساجد، وكلَّ الحسينيات، وكلَّ البيوت وكلَّ القلوب والعقول عندها فقط يستطيع أنْ يغلق المجلس العلمائي…
شمع أحمر يوضع على باب من خشب أو حديد أمر ما أسهله وما أيسره… ولكن هل يُمكن أنْ تُشمّع كلُّ القلوب، وأنْ تشمّع كلُّ العقول، وأنْ تشمّع كلُّ الإرادات ذلك ضربٌ من المحال، وضربٌ من الخبال…
ليس في هذا مكابرة وغرورٌ، سوف نبقى أمناء على أمن هذا الوطن، لن نسمح لأنفسنا إطلاقًا من واجبنا الشرعي أنْ نمارس ما يضرّ بأمنِ هذا الوطن، وبوحدةِ هذا الشعب، إلّا إذا تمرّدنا على تكليفنا الديني، وإلّا إذا خنا الأمانة وهذا مستحيل…
والخلاصة لسنا مرعوبين من حكم حلّ العلمائي، فالمجلس لم يوجده قرار رسمي حتّى يلغيه قرار رسمي…
أعود للقول:
– لا يصنعُ أمن هذا الوطنِ بطشٌ وفتكٌ، وأوضاعٌ مأزومةٌ، وممارساتٌ ظالمةٌ، وتوتراتٌ واستفزازاتٌ واستهدافاتٌ…
– لا يصنعُ أمنَ هذا الوطن إلّا العدل، وإلّا الإصلاح السّياسي الحقيقي، وإلّا الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، هذه هي المنتجات الحقيقية للأمن، وواهم كلّ الوهم مَنْ تصوّر طريقًا آخر غير هذا الطريق، وواهم كلّ مَنْ اختار خيارًا غير هذا الخيار…
كلّ الطرق ما عداه تقود إلى الدمار، وإلى الفساد، وإلى التأزم، وإلى العنف، وإلى التطرّف، وبالتالي إلى قتل الأمن والأمان وكلّ الخيارات ما عداه فهي فاشلة…
يُسفنا أنْ نقول أنّ المشهد السّياسي في هذا البلد وحتى اللحظة لا يحمل مؤشرات التحرك في اتجاه الانفراج…
وكلمة أخيرة:
التحق الشاب فاضل عباس مسلم بقافلة الشهداء الذين صبغوا أرض هذا الوطن بدمائهم، من أجل أنْ يُزرع الأمنُ على أرضِ هذا الوطن، ومن أجل أنْ يعيش الإنسان على هذه الأرض معنى العزة والكرامة، ومن أجل أنْ تسود العدالة والحرّية وأنْ ينتشر الحبُّ والتسامح والأخوّة الدينية والوطنية…
إنّ الرصاصات الظالمة التي حصدت هذه الأرواح البريئة أرادت أنْ تؤكّد أنْ لا أمن لإنسان هذا الوطن، وأنْ لا حرية في أنْ تنطلق الكلمة المطالبة بالحقوق، وأنْ لا خيار إلّا خيار القتل والبطش، وعندما تتوقف لغة الرصاص يمكن أنْ يتطلّع الشعب إلى خيار آخر.
تغمّد الشاب فاضل عباس وجميع شهداء هذا الوطن بوافر الرّحمة والمغفرة والرضوان…
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين