حديث الجمعة 351 : مسؤوليات المنبر الحسيني المعاصر – إلى أين تتَّجه الأوضاع في هذا البلد؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّد وعلى آله الهداة المعصومين.. وبعد فمع بعض العناوين:
مسؤوليات المنبر الحسيني المعاصر:
الحديث عن مسؤوليات المنبر الحسيني المعاصر في غاية الخطورة والأهمية، فالمنبر الحسيني له حضوره المتجذِّر والكبير جدًا في الواقع الشيعي، وله دوره الفاعل في توجيه الأجيال الشيعية، ورغم أهمية منابر الجمعة والجماعة، ودور العلماء والحوزات، وقيمة التربية والمربين، فإنَّ المنبر الحسيني يتصدَّر هذه المواقع في تأثيراته على الوجدان الشيعي، والوعي الشيعي، والحراك الشيعي، من هنا تأتي خطورة هذا الموقع في إيجابياته وسلبياته، فمن الضروري جدًا أن يحصِّن المنبر الحسيني تحصينًا صُلبًا، حمايةً لأدواره ومسؤولياته.
وإذا أردنا ان نلقي نظرةً عاجلةً على المسار التاريخي للمنبر الحسيني، وجدناه قد مرَّ بعدَّة أطوار:
في بداياته التاريخية والتي تشكلت في مرحلة مبكِّرة بعد فاجعة كربلاء، كان المنبر وبشكله البسيط جدًا مقتصرًا على ملامسة الفاجعة مباشرة وبلا مقدمات، من أجل إنتاج الحزن والبكاء.
وفي مرحلة لاحقة دخل عنصر (الوعظ والإرشاد) اعتمادًا على الآيات والروايات.
وفي مرحلةٍ ثالثة أخذ المنبر الحسيني يهتم بسرد بعض الأحداث والوقائع التاريخية، وكان السرد مجرَّدًا عن الدراسة والتحليل.
وفي مرحلة رابعة بدأ الطرح التحليلي للأحداث والوقائع التاريخية.
وأخيرًا تشكَّل المنبر الحسيني المعاصر، وكان للخطيب الدكتور أحمد الوائي رحمه الله دوره الفاعل والكبير في الوصول بالمنبر إلى ما وصل إليه، ولذلك فهو بحق يعتبر أمير المنبر في هذا العصر.
وهذا لا يعني أنَّ المنبر يجب أن يتجمَّد عند هذه المرحلة من مراحل تطويره، فالعقل قادر أن يبدع ويطِّور ويجدِّد خاصة وأنَّ الواقع في صيرورةٍ متغيرة، مما يفرض استمرارًا في التطوير والتجديد على مستوى اللغة والأسلوب والأداء والأفكار والرؤى والمفاهيم، وإلَّا فَقَد المنبرُ دورَهُ في توجيه الأجيال، وفي التعاطي مع مسؤولياتها المتطورة، وفي مواجهة التحديات.
بعد هذه المقدمة نحاول أنْ نعرض لأهم مسؤوليات المنبر الحسيني:
المسؤولية الأولى:
الحديث عن فاجعة كربلاء، وتعريف الأجيال بما جرى في يوم عاشوراء، وإبقاء الوهج الوجداني والعاطفي، واستمرار الحزن والبكاء على الحسين عليه السلام وعلى شهداء الطف.
ولا يجوز التفريط بهذه المسؤولية مهما كانت الأسباب والمبررات، فهذا الأمر من الثوابت العاشورائية التي أكَّدتها الروايات الثابتة عن الأئمَّة من أهل البيت عليهم السلام.
وهنا نؤكِّد أنَّالحزن العاشورائي لا يعني تكريس (الانكسار) و (روح الانهزام) و (السلبية) في الواقع الشيعي، كما يحاول البعض أنْ يفهم هذه الظاهرة البكائية، المسألة أعمق بكثير من هذا الفهم السَّاذج والمغلوط.
صحيح إنَّ فاجعة الحسين عليه السلام قادرة أنْ تستثير كلَّ الحزن والألم، وكلَّ الدموع، فهي الفاجعة التي لم يشهد لها التاريخ نظيرًا في خصوصياتها وفي فداحتها، وصحيح مطلوب من الأجيال أن تعيش الحزن العاشورائي وجدانيًا وعاطفيًا…
إلاّ أنَّ هذا له معناه الكبير، فهو تعبير عن (صرخة الغضب المستمرة) ضدَّ صنَّاع الجريمة في يوم عاشوراء (يزيد بن معاوية، عبيد الله بن زياد، عمر بن سعد، شمر بن ذي الجوشن، حرملة بن كاهل …) وكلّ الذين شاركوا في جريمة كربلاء…
بل هي صرخة غضب ضدَّ كلِّ المتخاذلين الجبناء الذين وقفوا متفرجين، فخذلوا الحق، ونصروا الباطل…
وصرخة غضب ضدَّ كلِّ الراضين وإنْ لم يحملوا سلاحًا في يوم عاشوراء…
والمسألة لا تقتصر على العصر الذي أنتج الجريمة، بل تمتد لكلِّ الأعصر، فصرخة الغضب تلاحق كلَّ السفَّاكين لدماء الأبرياء وكلَّ أعداءِِ الحق والعدل والإنسانية، وكلَّ صنَّاع المآسي في حياة الشعوب المضطهدة، وكلِّ السائرين في ركابهم، والمباركين لأعمالهم، والراضين بفعالهم.
وهذا ما يُفسِّر إصرار الأنظمة الحاكمة عبر التاريخ على محاربة عاشوراء، ومراسم عاشوراء، وصرخة عاشوراء… لأنَّهم يفهمون أنَّ الصرخة العاشورائية ليست انكسارًا، ولا ضعفًا، ولا انهزامًا، وإنَّما تمثل الإدانة المستمرة لتلك الجناية العظمى، والإدانة المستمرة لكلِّ الجنايات التي تتحرك في كلِّ العصور وتطال الأرواح والدماء والأعراض والكرامات…
نتابع الحديث – إن شاء الله – في اللقاء القادم.
إلى أين تتَّجه الأوضاع في هذا البلد؟
لا زالت المؤشرات – في الداخل – تبعث على القلق الشَّديد، ولا زالت الأمور تتَّجه نحو التعقيد.
في البحرين أزمة سياسية، أنتجت أزمة حقوقية، وأزمة أمنية…
كلُّ التقارير الصَّادرة من جهات دولية، ومنظمات حقوقية تقول: في البحرين أزمة…
فقط وفقط السُّلطة هنا تقول: لا أزمة في البحرين… الأوضاع مستقرة تمامًا…
إذًا فما هذا الذي يحدث في البحرين؟ إذا كنَّا لا نسمِّيه أزمة، فماذا نسمِّيه؟
يقول التوصيف الذي يعبِّر عن رأي السّلطة:
ما يحدث في هذا البلد أعمال شغب يقوم بها جماعة من العابثين بأوضاع هذا الوطن تنفيذًا لأجندة خارجية، ومن الطبيعي أنْ تتصدَّى قوات الأمن لهذه الأعمال العابثة، وربَّما فرض هذا التصدِّي ملاحقات، ومطاردات، واقتحامات لبيوت، وربَّما أنتج هذا التصدِّي حدوث اعتقالات، وصدور أحكام بالسجن، وربَّما سقط جرحى وقتلى…
في هذا الكلام مجانبة صريحة للحقيقة، دعونا من كلام المعارضة، أليس في تقرير (بسيوني) وهو معتمد من قبل النظام ما يؤكِّد وجود هذه الأزمة، الأزمة السِّياسية، وما يؤكِّد وجود انتهاكات حقوقية؟
ما لم يعترف النظام بوجود أزمة سياسية لا يمكن التفكير في الحل السِّياسي…
لماذا الإصرار على الحل الأمني؟
ما دام الاعتقاد قائمًا بأنَّ المشكل هو مشكلٌ أمني، وليس مشكلًا سياسيًا، فمن الطبيعي أنْ يفرض الحل الأمني نفسه.
صحيح هنا مُشكلٌ أمني، ولكنه ناتج عن مُشكلٍ سياسي.
لن يستطيع البلد الخروج من أزمته، إلَّا من خلال الحل السِّياسي الحقيقي، وليس من خلال الترقيعات السِّياسية.
وأخشى ما نخشاه أن تتحوَّل الأزمة السِّياسية إلى مأزق سياسي.
وحينها تتعقَّد الحلول والعلاجات وتصعب الخيارات.
كم كان سهلًا وسهلًا لو بدأ الإصلاح والعلاج في مرحلة مبكِّرة، وقبل أنْ يصبح الخلل والخطأ السِّياسي أزمةً ومُشكلًا، وتبقى هذه المرحلة – مرحلة الأزمة والمُشكل – أسهل بكثير من مرحلة (المأزق السِّياسي) هذه المرحلة سوف تكون أثمانُها باهظة باهظة، وسوف يكون الخروج منها في غاية الصعوبة، إلَّا أنْ تحدث تغييرات جذرية في الواقع السِّياسي.
لقد جرَّب النظام (الحل الأمني) منذ زمنٍ طويل، فماذا أنتج هذا الحل؟
لم ينتج إلَّا مزيدًا من التعقيد والتأزيم، ولم ينتج إلَّا مزيدًا من المآسي لهذا الشعب، ومزيدًا من الويلات لهذا الوطن.
وكلّما امتد الوقتُ بهذا الحل، سوف تكون النتائج (كوارث سياسية) و(كوارث حقوقية) و(كوارث أمنية).
أما آن الأوان لبدء حوارٍ جادٍّ حقيقي لإنقاذ الوضع، وهذا يفرض:
أوَّلًا: أنْ يتوقف الخيار الأمني بكلِّ منتجاته.
وثانيًا: أنْ تُهيأ الأجواء القادرة على إنتاج مرحلة جديدة تعيد كلَّ الحسابات.
ولن يتحقَّق هذا إلَّا إذا وجدت الإرادة الصَّادقة لدى السُّلطة، وكذلك قوى المعارضة هي الأخرى مسؤولة أن تتوفَّر على هذه الإرادة.
المسألة ليست مجرد تمنيات ورغبات، وليست مجرد كلمات وخطابات، إنَّما هي الإرادة الفاعلة المتحرِّكة والعزيمة الجادَّة الصَّادقة.
وبهذه المناسبة فإنَّنا نُثمِّن المبادرة التي أطلقتها القوى الوطنية المعارضة من أجل الخروج بهذا البلد من أزمته، وفي اتجاه الوصول إلى أهداف وتطلعات الشعب العادلة.
هذه فرصة جيدة لمراجعة كلِّ الحسابات، وهذه المراجعة المطلوبة من النظام، ومن كلِّ القوى السِّياسية المعارضة والموالية، ومن كلِّ القوى الفاعلة في هذا الوطن.
إنَّ المتغيرات الكبرى في العالم لا شك سوف تترك أثارها على كلِّ أوضاع المنطقة، فمن العقل والحكمة أنْ نعيد إنتاج القناعات، وتصحيح الأوضاع.
وإذا كانت البحرين قد احتضنت هذه الأيام (منتدى حوار المنامة) بمشاركة أكثر من خمسين دولة، فيجب أنْ يكون لهذا المنتدى انعكاساته الحقيقية على الأوضاع السِّياسية والحقوقية والأمنية في منطقة الخليج وبالأخص في هذا البلد الذي تقام على أرضه جلسات هذا المنتدى، وإلِّا كان عنوان فاقدًا للمصداقية…
وإذا كان المشاركون في هذا المنتدى جادِّين في إنتاج حوارٍ حقيقي يدفع بقضايا الأمة العربية والإسلامية نحو التطور والتقدُّم فمطلوبٌ منهم أن يقفوا مع مطالب الشعوب العادلة، ومن هذه الشعوب شعبنا في البحرين، وقد رفع هذا الشعب صوته عاليًا لكي يصل إلى سمع المشاركين في منتدى حوار المنامة، وذلك من خلال اعتصام الجمعة الحاشد، ومن خلال بعض الفعَّاليات.
فهل كان لقضية هذا الشعب أيّ حضورٍ في حوارات ومداولات هذا المنتدى؟
لم نقرا شيئًا واضحًا في هذا السِّياق، سوى بعض تصريحاتٍ خافتة جدًا، وإذا كانت البحرين هي الراعية لهذا الملتقى الكبير، فجديرٌ بها أن تفتح حوارًا جادًّا وحقيقيًّا لإنقاذ أوضاع هذا البلد، لتكون جديرةً باحتضان منتدى حواري بهذا الحجم، ولتبرهن للدول المشاركة أنَّها مؤهلة لاستضافة هذا العدد من الشخصيات السِّياسية والأمنية ذات الثقل الكبير…
ونكرِّر أنَّ مبادرة القوى الوطنية المعارضة جديرة أنْ تلقى اهتمامًا من قبل النظام، وأمَّا أن ترفض المبادرة فأمر لا يدفع في اتجاه الحل والعلاج لأوضاع البلد المأزومة، لا مشكلة أنْ توضع بنود المبادرة على طاولة النقد والمراجعة والمحاسبة، من أجل إنتاج أجواء حقيقية قادرة أنْ تحتضن حوارًا جادًّا وصادقًا وفاعلًا ومؤهلًا لصوغ المشروع السِّياسي المطلوب في هذه المرحلة.
إنَّ النداءات التي أطلقتها ولا زالت تطلقها منظمات حقوقية دولية، مطالبةً حكومة البحرين في الالتزام بالمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، كما ندَّدت هذه النداءات بما يحدث في هذا البلد من انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان…
مطلوبٌ الاستجابة لهذه النداءات خاصة ودول العالم تحتفل هذه الأيام باليوم العالمي لحقوق الإنسان، فما مصداقية هذا اليوم في بلدنا البحرين؟
الجواب واضح من خلال كلِّ التقارير التي تتحدث عن هذه الحقوق، لن تعالج كلّ الأوضاع إلَّا إذا تمَّت معالجة الواقع السِّياسي، هذا هو العلاج وإلَّا فالأمور في الاتجاه إلى الأسوأ والأخطر، وإلى مزيد من الخسائر وهذا ما لا نتمنَّاه لهذا الوطن.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين