حديث الجمعة 340 : موسمٌ عباديٌّ غنيٌّ بالأرباح (2) – أمام الوطن خياران
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين وبعد…
فنتابع الحديث مع هذا العنوان:
لكي لا نخسر الأرباح (2):
فيما تقدَّم من حديث ذكرنا أنَّ الحفاظ على أرباح الشهر الفضيل يحتاج إلى:
أوَّلًا: الحذر مِن حارقات الأعمال:
وتحت هذا العنوان عالجنا واحدةً من حارقات الأعمال وهي (تلوُّث القلب)
وفي هذا اللِّقاء الكريم نعالج (ثانية هذه الحارقات) وهي:
(2) ارتكاب المعاصي والذنوب:
لن أتحدَّث هنا عن الآثار الخطيرة جدًا لارتكاب المعاصي والذنوب ولعلي تناولت ذلك في بعض أحاديث الجمعة، ما يهمُّ الحديث في هذه الليلة هو أن نذكر (أثر المعاصي والذنوب في حرق الأعمال وخسران الطاعات).
وذلك من خلال قراءة مجموعةٍ من الرِّوايات الصادرة عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وعن الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام:
• الرواية الأولى: عن النبيِّ صلَّى الله عليه وآله قال:
«إنَّه ليأتي العبدُ يوم القيامة وقد سرَّته حسناتُه فيجيئ الرجل فيقول: يا ربِّ ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناتِه فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك حتَّى ما يبقى له حسنة، فإذا جاء مَنْ نظر إلى سيِّئاتِه فجعل مع سيِّئات الرجل، فلا يزال يستوفي منه حتَّى يدخل النَّار».
• الرواية الثانية: عنه صلَّى الله عليه وآله قال:
«لأعلمنَّ أقوامًا من أمَّتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثورًا، أما أنَّهم إخوانكم من أهل جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنَّهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها».
• الرواية الثالثة: عنه صلَّى الله عليه وآله:
«يُؤتى بأحد يوم القيامة، يوقف بين يدي الله، ويُدفع إليه كتابُه، فلا يرى حسناتِه فيقول: إلهي ليس هذا كتابي! فإنِّي لا أرى فيه طاعتي، فيُقال له: إنَّ ربَّك لا يضلُّ ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب النَّاس…
ثمَّ يؤتى بآخر، ويُدفع إليه كتابُه، فيرى فيه طاعاتٍ كثيرة فيقول: إلهي ما هذا بكتابي! فإنِّي ما عملتُ هذه الطاعات، فيُقال [له]: لأنَّ فلانًا اغتابكَ فدُفعت حسناتُه إليك».
• الرواية الرابعة: وعنه صلَّى الله عليه وآله:
«الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
هنا ثلاثة عناوين:
1- الحسد: أن تتمنَّى زوال نعمةٍ عن أخيك المسلم ممَّا فيها صلاح…
2- الغبطة: أنْ لا تتمنَّى زوالها عنه بل تتمنَّى لنفسك مثلها…
• في الحديث: «إنَّ المؤمنَ يغبط ولا يحسد والمنافق يحسد ولا يغبط».
3- الغَيْرة: أنْ تتمنَّى زوالها عنه إذا لم يكن له فيها صلاح ومنفعة…
• «إنَّ الغَيرة من الإيمان».
وفي الحسد ثلاث حالات:
الأولى: أن تتحرك الخواطر في الداخل فيواجها بالسخط وعدم الرضا، هذا اللون من الحسد لا يترتب عليه إثم.
الثانية: أنْ تبقى الخواطر في الداخل بدون ردع نفسي إلَّا أنَّها لا تتحرك إلى عمل خارجي (قول أو فعل).
في هذه الحالة يرى بعض العلماء أنَّه لا يترتب على هذه الخواطر السيئة أيَّ إثم.
ويرى آخرون أنَّه يترتب عليه إثم، لأنَّ المعاصي نوعان:
أ- معاصي تتعلق بالجوارح الخارجية، فهذه لا يترتب عليها الإثم إلِّا من خلال الفعل.
ب- معاصي تتعلق بالقلب (حب الباطل، كراهة الحق، بغض المؤمن، الحقد، الشحناء) ومنها (الحسد).
فهذا النوع من المعاصي يترتب عليها الإثم بمجرد حصولها في القلب.
الثالثة: أنْ تتحول الخواطر (خواطر الحسد) إلى ممارسات خارجية (أقوال أو أفعال)، ولا شكَّ أنَّ هذا من المحرمات بلا إشكال.
وهنا نطرح هذين السؤالين:
• كيف تحرق المعاصي الطاعات؟
• كيف تأكل الذنوب الحسنات؟
تطرح ثلاث إجابات:
الإجابة الأولى: بطلان الأعمال، وإلغاء الحسنات…
هذه الإجابة تعتمد (نظرية الإحباط) استنادًا إلى ظاهر بعض الآيات:
• ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (الحجرات/2)
• ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان/23)
الإجابة الثانية: حينما توزن الأعمال يوم القيامة فإنَّ بعض المعاصي الكبيرة كالظلم والغيبة والحسد بما لها من عقوبات مغلَّظة ومشدَّدة تجوب اضمحلال ثوابات الأعمال والطاعات…
الإجابة الثالثة: إنَّ حسنات ممارسي الظلم والغيبة والحسد تنقل إلى الأشخاص المظلومين والمستغابين والمحسودين كما ورد في كثير من الأخبار، وقد ذكرنا بعضها…
نتابع الحديث إنْ شاء الله تعالى…
أمام الوطن خياران:
يمرُّ هذا الوطن بمنعطفٍ صعبٍ وخطيرٍ يضعه أمام خيارين:
الخيار الأول: أنْ يشتد التأزيم والانهيار السِّياسي والأمني والاقتصادي، وتتجه الأوضاع إلى الكارثة والدمار.
الخيار الثاني: أنْ يحدث انفراج، ويتجذَّر الأمن والاستقرار، وينجو الوطن من الدمار والانهيار.
فإلى أيَّ الخيارين تتحرَّك المؤشِّرات؟
المطلوب من كلِّ المخلصين لهذا الوطن أنْ يدفعوا الأوضاع في اتجاه الخيار الثاني، وأنْ يحاصروا الخيار الأول.
وذلك ليس من خلال الكلمات والخطابات والتمنِّيات، والإدِّعاءات، ولكن من خلال أعمال وأفعال وممارسات تكرِّس الخيار الصحيح، وإنْ كان للخطاب أثره الكبير.
الخطاب هذه الأيام مسكون بهاجس الإرهاب، وهو هاجسٌ مرعبٌ…
وليس هذا الوطن الصغير استثناء، فالعالم كلّه مسكونٌ بهذا الرعب…
لا يوجد إنسان يحملُ دينًا أو ضميرًا أو عقلًا يمارس الإرهاب أو يحتضن الإرهاب أو يبارك الإرهاب…
ولكن يجب أنْ يتحدَّد بدقَّة مفهوم الإرهاب.
المشكلة أنَّ هذا المصطلح أصبح عنوانًا للمزايدات السِّياسية، وأصبح شعارًا توظِّفه أنظمة حكمٍ من أجل قمع أيَّ حراكٍ معارض، وكذلك توظِّفه بعض الجماعات ضدَّ مخالفيها…
فما تسمِّيه أنظمة الحكم إرهابًا تسمِّيه المعارضة عملًا سياسيًا مشروعًا…
والعكس كذلك، فإنَّ ما تسمِّيه قوى المعارضة إرهابًا من أعمال أنظمة الحكم وبطشها وفتكها تسمِّيه الأنظمة ممارسات رادعة، وداعمة لحفظ الأمن…
وأيضًا تسمع وترى أنَّ جماعاتٍ تسمِّي نفسها إسلامية تمارس القتل والذبح والإرهاب باسم الجهاد…
هكذا أصبح مصطلح (الإرهاب) محكومًا للمصالح والأغراض، والأطماع، والدوافع السِّياسية والمذهبية والحزبية…
وبعيدًا عن هذا الجدل، فإنَّنا لا نشكُّ أبدًا أنَّ من الإرهاب المحرَّم شرعًا وعقلًا وقانونًا:
• الاعتداء على أرواح النَّاس.
• الاعتداء على أعراض النَّاس.
• الاعتداء على أموال النَّاس.
• الاعتداء على حرِّيات النَّاس.
• الاعتداء على مقدَّسات النَّاس.
هذا الاعتداء صدر من أنظمة حكمٍ وسياسة، أم صدر من جماعاتٍ دينية، أم صدر من تنظيمات وأحزاب وقوى مدنية وسياسية، أم صدر من أفراد…
(الاعتداء) مرفوضٌ وفق كلِّ المعايير…
وانطلاقًا من هذا الفهم، نؤكِّد أنَّ العمل من أجل إنتاج (الخيار الثاني) خيار الانفراج، والأمن، والاستقرار، وإنقاذ الوطن من الدمار والانهيار يفرض أنْ نصحِّح كلَّ (اللعب بالمصطلحات)…
من أهم منتجات التأزيم تلك (الخطابات) التي يحتضنها الإعلام الرَّسمي، بما تحمله من استفزازات صارخة واتهامات ظالمة، من حقِّ السلطة أنْ تعبِّر عن رأيها، ومن حقِّ المدافعين عن السُّلطة أنْ يعبِّروا عن قناعاتهم، غير أنَّ لغة الاستفزاز، ولغة الاتهام مرفوضة… إنَّ هذه اللغة تمثِّل أحد المعوِّقات لخيار الانفراج والاستقرار والإنقاذ حينما يتحدَّث موقع رسمي رفيع المستوى بكلماتٍ تحمل درجةً كبيرةً من الإساءة والتطاول وبألفاظ غير لائقة موجهة ضدَّ رمز ديني ووطني كبير كسماحة آية الله الشيخ عيسى، ألا يشكِّل هذا استفزازًا لمشاعر مساحةٍ كبيرةٍ جدًا من جماهير هذا الشعب، ألا يشكِّل هذا إجهاضًا لخيار الانفراج والإصلاح والمصالحة، إنَّ استمرار خطابات التخوين والتحريض والانتقام معوِّق خطير لأيّ مساعٍ خيِّرة في اتجاه الصلح والإصلاح، صحيح إنَّنا نعمل وندعو بكلِّ صدقٍ إلى تطويق ردَّات الفعل غير المحسوبة، اتَّجاه تلك الخطابات المسيئة، إلَّا أنَّ أخشى ما نخشاه أنْ تنفلت بعض ردود الفعل، وتكون العواقب ليس في صالح هذا الوطن، ويتحمَّل المسؤولية أصحاب تلك الخطابات المشحونة باللغة الظالمة، وغير النظيفة، المكونة بروح الكراهية والثأر والانتقام والتحريض، وإذا كنَّا نرفض هذه اللغة حينما تصدر من موقع محسوبٍ على السلطة، فإنَّنا في الوقت ذاته نرفض اللغة حينما تصدر من المواقع المعارضة للسلطة، من حقِّ هذه المواقع أنْ تعارض، أنْ تحاسب، أنْ ترفض ولكن يجب أنْ تكون اللغة نظيفة وصادقة ومؤدَّبة…
أؤكِّد القول أنَّ (خيار الانفراج والإنقاذ) يحتاج إلى مجموعة (مهيِّئات)، من أهمِّها أنْ يُعاد صياغة الخطاب لدى السلطة أوَّلًا، ولدى القوى المعارضة ثانيًا، فمادام هذا الخطاب متشنِّجًا، ومعبَّئًا ضدَّ الآخر فسوف تتسع المسافة، وسوف يطول الزمن وسوف يتأخر (خيار الانفراج)…
لا يعني هذا أنَّي أدعو إلى (لغة المداهنة والمجاملة) والسكوت عن مواجهة الفساد والأخطاء، والتنازل عن المواقف المطالبة بالحقوق العادلة، فهذا أمر لا يجوز إطلاقًا، ما أعنيه أن يكون الخطاب نظيفًا، هكذا علَّمنا الإسلام وعلَّمنا القرآن..
﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾ (النحل/125)
﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (الأحزاب/70)
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين