حديث الجمعة 319: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ – كلمة حول ما صدر عن محكمة التمييز في حقِّ القادة والرموز
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وعلى آله الهداة المعصومين…
قال الله تعالى في سورة الفتح:
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ…﴾. (الفتح/ 29)
1- ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ﴾:
هنا لا يقدِّم القرآن محمَّدًا في خصوصياته الذاتية والنسبية والعائلية، إنَّما يقدِّمه بصفته الرسالية ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ﴾ لأنَّ الله تعالى يريد أنْ تتشكل العلاقةُ – علاقة النَّاس- مع خط الرسالة، وليس مع الذات والنسب والعائلة وهذا الارتباط مع الرسول والرسالة ليس محكومًا لزمانٍ محدود، وإنَّما هو مستمر ما دام خط الرسالة مستمرًا، العلاقة حينما تكون مرتبطة بالشخص، بالذات، بالنسب، تنتهي هذه العلاقة بالموت، ولكن حينما تكون العلاقة مرتبطة بالخط، فإنَّها لا تنتهي، لأنَّ الخط باقٍ.
فالقرآن حينما يقدِّم محمَّدًا بصفته الرسالية، يريد أنْ يؤسِّس لنمط العلاقة، وأنْ تكون مع خط الرسالة، هذه العلاقة يجب أنْ لا تهتَّز بوفاة الرسول صلَّى الله عليه وآله لأنَّ الرسالة باقية، ولهذا ندَّد القرآن بحالة الانقلاب التي حدثت في معركة أحد حينما أشيع بأنَّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله قد قُتل، فارتد بعضهم، وانهزم بعضهم، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾. (آل عمران/ 144)
وإذا كان هذا النص القرآني قد نزل في يوم أحد، فهو لا يتحجَّم في تلك المناسبة، وإنَّما يُؤسِّس لموقفٍ مستمرٍ يواجه أيَّ انقلابٍ متوقع قد يحدث في أيِّ لحظة، لأنَّ رحيل النبيِّ ومغادرته هذه الحياة أمر محتم، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ (الزمر/ 30)، فأراد الله أنْ يحصِّن الأمَّة في مواجهة أيِّ انقلابٍ على خطِّ الرسالة.
وهنا نستوحي درسًا كبيرًا يقدِّمه لنا القرآن أنَّ العلاقة مع القيادة يجب أنْ لا تكون علاقة ذاتية، ولا من أجل مصالح وأغراض نفعية مؤقَّتة، حينما تكون العلاقة ذاتية ونفعية فإنِّها تستمر ما دامت القيادة موجودة، وما دامت المصالح الشخصية قائمة، وأمَّا إذا غابت القيادة بالوفاة أو بأيِّ سببٍ من الأسباب أو إذا انتهت المصالح والمنافع الذاتية فإنَّ العلاقة تموت أو تنتهي.
أمَّا الناس الذين تكون علاقتهم بالقيادات قائمة على أسسٍ مبدئية، فإنَّهم يثبتون ولا يسقطون، حتى وإنْ فقدوا تلك القيادات من خلال الموت أو القتل أو الاعتقال، لأنَّ غياب القائد لا يعني انتهاء الخط، ولا يعني انتهاء الأهداف المبدئية… صحيح أنَّ هناك ضرورة أنْ تملأ مواقع القيادة، لأنَّ بقاء هذه المواقع فارغة له تأثيراته الخطيرة على أصالة وقوة واستمرارية الحراك والانتماء.
لا بدَّ من وجود قيادة بديلة أو نائبة أو امتدادية لتتحمَّل مسؤولية حماية المسيرة، ورعاية الخط، وتوجيه الحراك، حين غياب القيادة الأولى.
وإذا كان القرآن قد حذَّر من حدوث أيَّ ردَّةٍ أو انقلاب بعد رحيل الرسول صلَّى الله عليه وآله، لأنَّ هذا الرحيل أمر طبيعي كما رحل كلُّ الرسل قبله، ولأنَّ الرسالة باقية ومستمرة، فإنَّ الضرورة في الوقت ذاته فرضت أنْ يعيِّن النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وبأمرٍ من الله عزَّ وجل مَنْ يتولَّى حماية مسيرة الدَّعوة، ويكون قيِّمًا على حركة الرسالة بعد رحيل النَّبي صلَّى الله عليه وآله، وهذا ما تمَّ حينما نصب النَّبي صلَّى الله عليه وآله عليَّ بن أبي طالب عليه السَّلام ليكون الوصي والخليفة والقائد بعده، واستمرت القيادة الامتدادية في الأئمَّة من أهل البيت عليهم السَّلام حتَّى وصلت إلى الإمام الثاني عشر المهدي بن الحسن عليه السَّلام والذي فرضت الظروف أنْ يغيب ليظهر في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا، ولم يترك الأمَّة في غيبته، بل عيَّن لها (قيادة نائبة) ممثلة في (الفقهاء الصلحاء الأمناء على الدِّين)، وسوف تستمر هذه القيادة النائبة حتَّى يوم الظهر ليتسلَّم الإمام المهدي المنتظر قيادة العالم في آخر أشواط البشرية…
نتابع تأمّلاتنا في النص القرآني الذي بدأنا به الحديث، وبعد أن أكَّد النَّص هذه الحقيقة المهمَّة والخطيرة وهي أنَّ العنوان الذي يعرف محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله كونه رسولًا من الله ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ﴾ فقيمة الارتباط به من خلال الارتباط بالرسالة وقيمها وأحكامها وأهدافها يشكِّل خللًا في الارتباط بالرسول صلَّى الله عليه وآله…
ثمَّ انتقل النَّص ليتحدَّث عن بعض صفات الجماعة المؤمنة التي انتمت إلى الرسالة، وكانت مع الرسول صلَّى الله عليه وآله في حركة الرسالة، وفي حركة الدعوة، وفي حركة الجهاد.
2- ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾. (الفتح/ 29)
من أبرز صفات الأتباع الحقيقيين كما جاء في هذا النص القرآني:
(1) ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار﴾:
حينما تكون المواجهة والصراع، وحينما يكون التحدِّي، وحينما يكون الإصرار من قبل أعداء الرسالة على محاربة الدعوة، والتآمر على الرسالة، والتخطيط ضدَّ الإسلام، هنا يكون الموقف الحاسم والصلب من قبل الرسول صلَّى الله عليه وآله ومِن قبل أتباعه الصادقين…
هنا يتشكَّل الموقف المبدئي الحدِّي الصارم الشديد بلا تنازل ولا مساومة ولا ضعف ولا لين
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ…﴾. (التوبة/ 73)
وفي وصف الأتباع يقول القرآن:
﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّار﴾
هذا في ظرف التحدِّي والمواجهة والصراع…
وأمَّا في ظرف الدعوة والحوار والتبليغ فالصورة تختلف، في هذه الحال يكون الانفتاح وتكون المرونة، والأسلوب الهادئ، واللغة المنفتحة:
• ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾. (النحل/ 125)
• ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…﴾. (العنكبوت/ 46)
• ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا…﴾. (طه/ 43-44)
• ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. (الممتحنة/ 8-9)
إذا كان الآخر الذي يخالفك دينًا أو مذهبًا أو ثقافةً أو سياسةً يعترف بوجودِكَ، وعلى استعداد أنْ يسمع لك، وأنْ يصغي إلى مطالبك، وأنْ ينفتح على قضاياك، فالموقف المرونة، واللغة بـ ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ والقول اللين، والأريحية والرِّقة…
وأمَّا إذا كان الآخر الذي يخالفك لا يعترف بوجودك ويريد أنْ يلغيك نهائيًا، أنْ يلغيك دينيًا، وأن يلغيك سياسيًا، فاللغة معه تختلف، والموقف معه يختلف، فهلْ مَنْ يعمل لإنهاءِ كلِّ وجودك، لمصادرة كلِّ حقوقك، لقتلك، لذبحك، لهتك عرضك، أنْ تواجهه بالورود، بالابتسامات، بالكلمات الناعمة، أن تبرَّه، أنْ تتولَّاه؟
أم يجب أن تكونَ معه كما قال الله: ﴿أَشِدَّاء﴾ أو كما قال الله: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ أو كما قال الله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ…﴾. (الأنفال/ 60)
لا بدَّ من الموقف الشديد، الصلب، الجريئ، القوي، القادر، الرادع…
لا بدَّ من الموقف الرافض، المتحدِّي، الصارخ، الغاضب…
لا يعني هذا الدعوة إلى العنف والتطرُّف والعبث بالأرواح والأموال والأعراض، لأنَّ الظلم لا يُواجه بظلم، إلَّا أنَّ اعتماد أدوات القوة المشروعة دينيًا وإنسانيًا وحقوقيًا لا يعدُّ عنفًا وتطرُّفًا وإرهابًا.
فالموقف القوي له لغته، وله أدواته وأساليبه المباحة، وليس من حقِّ أيّ جهةٍ أنْ تمنع هذه اللغة، وأنْ تصادر هذه الأساليب والأدوات، بعد أن أباحتها الأديان وشرعة الإنسان.
فلا خِيار من أجل أنْ تبقى، من أجل أنْ تحتفظ بكرامتك، من أجل أنْ تسترد إنسانيتك، من أجل أنْ تسترجع حقوقك إلَّا أنْ تكون قويًّا، فإذا كانت أجواء الحوار مفتوحة فيجب أن تكون قويًّا في التعاطي مع الحوار، قويًّا في لغة الحوار، قويًّا في طروحات الحوار، قويًّا في منتجات الحوار، قويًّا في توظيف الحوار من أجل إنقاذ الحقوق المشروعة.
وأمَّا إذا كانت أبواب هذا الخيار مُغَلَّقة ومؤصدة فيجب أن تكون قويًّا في اعتماد الخيار الآخر في الدفاع عن وجودك، عن حقوقك، عن كرامتك، أن تكون قويًّا في معارضتك، في خطابك، في إعلامِك، في احتجاجاتك، في مسيراتك، في كلِّ حراكاتك السِّياسية والثقافية والاجتماعية…
وهنا سؤال يُطرح:
هل أنَّ خيار المطالبة بتغيير أنظمة الحكم يُصنَّف ضمن وسائل القوة المشروعة التي يمكن أنْ تعتمدها الشعوب المطالبة بحقوقها؟
من الطبيعي ذلك، حينما يفشل الحوار وحينما تفشل كلّ الحراكات السِّياسية المتاحة…
إنَّ أمام الشعوب من أجل استرداد حقوقها ثلاثةَ خيارات متدرِّجة:
• اعتماد الكلمة في المعارضة والمطالبة بالحقوق، وينتظم ضمن هذا الخيار (أسلوب الحوار) فإذا استطاعت الكلمة أنْ تنجز الأهداف فلا مبرِّر لاعتماد خيارات أشدّ… وإلَّا فاللجوء إلى الخيار الثاني.
• اعتماد الحراك السِّياسي فيما يعتمده هذا الحراك من أدوات عملية مشروعة كالمسيرات، والاحتجاجات، والاعتصامات، والإضرابات وغيرها…
وإذا كان هذا الخيار قادرًا أنْ يحقِّق للشعوب أهدافها في الحصول على حقوقها ومطالبها المشروعة فلا مبرِّر أنْ تلجأ إلى خياراتٍ أشدّ تكلِّفها أثمانًا أبهض، وتضحيات أكبر…
ولكن حينما يعجز هذا الخيار، فليس أمام الشعوب إلَّا الخيار الثالث متى توفَّرت إمكاناته وشروطه وهو:
• اعتماد خيار المطالبة بالتغيير فيما يعنيه من مفاصلة كاملة بين الشعوب والأنظمة الحاكمة، فإمَّا أنْ تبقى الشعوب وإمَّا أنْ تبقى الأنظمة الحاكمة.
إنَّ الأنظمة الحاكمة العاقلة والحكيمة لا تترك للمآزق السِّياسية أن تجنح بأوضاع الأوطان إلى الخيارات الأصعب، وإلى الأثمان الأبهض.
ماذا تريد الشعوب؟ أنْ تتوفر على حياة حرَّة كريمة، أنْ تعيش في ظلِّ نظام سياسي صالح وعادل، فماذا تستفيد الأنظمة الحاكمة حينما تصادر كرامة الشعوب، حينما تمارس الظلم السِّياسي، والفساد السِّياسي، والبطش السِّياسي…
سوف تزجُّ بنفسها في أوضاع متأزمة ومتشنجة ومحتقنة مع شعوبها أو مع بعض مكوِّنات شعوبها، هي في غنى عنها لو امتلكت شيئًا من العقل وشيئًا من الحكمة وبادرت إلى الإصلاح السِّياسي الحقيقي، وإلى إشراك الشعوب في العملية السِّياسية، وإلى توفير كلِّ الحقوق العادلة والمشروعة، وإلى معالجة الأزمات الطارئة بطريقة بصيرة ومنصفة من خلال الحوار الجادِّ والصَّادق، ومن خلال الاعتراف بالأخطاء، والبحث عن الحلول لكلِّ المشكلات بلا عناد، ولا استكبار، ولا إصرار على الخطأ.
كم نتمنَّى أن تكون أوضاعنا السِّياسية والأمنية في هذا البلد تسير في غير الاتجاه الذي تسير عليه الآن، هذا الاتجاه الآخذ في التأزّم أكثر، والتعقيد أكثر، والاحتقان أكثر بسبب إصرار السلطة على النهج الذي تعتمده، معتقدةً أنَّه النهج الصائب، وهذا وهمٌ كبير، فما كان الخيار الأمني المفرط في استخدام القوة قادرًا أنْ يعالج أزمات الشعوب، ومشاكل الأوطان، وما كانت القسوة في التعامل مع الحراكات المطلبية بالحقوق وسيلة ناجحة لإقناع الجماهير، وما كانت الأحكام المتشدِّدة ضدَّ الرموز والناشطين السِّياسيين والحقوقيين هي السبيل لإنقاذ الأوطان من مآزقها المدمِّرة.
السِّياسة التي تتحرَّك في هذا البلد في حاجةٍ إلى مراجعة جريئة، وإلى محاسبة صادقة، وإذا كانت مطالبة أنْ تمارس هذه المراجعة الجريئة، وهذه المحاسبة الصَّادقة، فإنَّ الذين يباركون هذا الواقع الخطأ هم أيضًا يتحمَّلون مسؤولية كلّ ما يحدث من انزلاقات تهدِّد أوضاع هذا الوطن، النظام السِّياسي في حاجة إلى مناصحة وليس إلى مباركة لكلِّ الأخطاء، لا مشكلة أنْ نوالي هذا النظام أو ذاك ما دمنا مقتنعين، ولكن نسكت على أخطاء النظام، وأنْ نبارك أخطاء النظام فتعدُّ خيانة للنظام نفسه، وتعدُّ خيانة للوطن، وخيانة للشعب.
لا ندَّعي أنَّ القوى المعارضة، وأنَّ الحراكات الشعبية المعارضة ليست في حاجةٍ إلى مراجعة وإلى محاسبة، أن يدَّعي أحد ذلك هو أيضًا خيانة للوطن وللشعب، فأيّ حراكٍ شعبي أو سياسي معرَّض للأخطاء والتجاوزات وفي حاجةٍ دائمة إلى الترشيد والتسديد وإلى المراجعة والمحاسبة، إلَّا أنَّ الفرق فاحش جدًا بين أخطاء شارع أو حَراك وأخطاء نظام سياسي حاكم، أخطاء النظام تُدمِّر أوضاع الأوطان، وتُؤسِّس لأخطر المآزق والأزمات وتدفع إلى أفدح الأثمان والخسائر، فليس من البصيرة السِّياسية وليس من الإنصاف أنْ تساوي بين أخطاء شارع وأخطاء نظام، وكم هو الفارق بين ما يملكه أيّ نظام من أدوات وإمكانات وما يملكه الشارع أو جماعات معارضة…
لنا متابعة مع النص القرآني الذي بدأنا به في اللقاء القادم إنْ شاء الله…
وأخيرًا:
لنا كلمة حول ما صدر عن محكمة التمييز في حقِّ القادة والرموز من تأييد الأحكام السَّابقة، فقد جاء هذا الموقف ليجهض أيَّ بارقة أملٍ في اتجاه الانفراج، وليعبِّر عن إصرار السُّلطة على اعتماد الحل الأمني ومصادرة أيَّ تفكير في الحلِّ السِّياسي، وأيَّ تفكير في الحوار، هذه أبرز رسالة يحملها هذا الموقف، وقد عبَّرت دول كبرى كأمريكا وبريطانيا وفرنسا عن أسفها واستيائها إزاء تأييد الأحكام في حقِّ (مجموعة 21) وإنْ كان هذا الأسف والاستياء لا يتجاوز مرحلة الكلام إلى مرحلة الفعل الحقيقي للضغط على سياسة النظام، فقد أدمنا سماع هذه التصريحات والاستياءات والتأسفات دون أنْ نجد أيَّ تأثير عملي لإيقاف ما يمارس في هذا البلد من انتهاكات صارخة للحقوق بشهادة الكثير من المنظمات الحقوقية والإنسانية في العالم.
سوف تبقى الأمور في اتجاه التأزم والتدهور، ما دام العقل الأمني هو الذي يهيمن على المشهد السِّياسي في هذا البلد، وما دام العقل والحكمة غائبين، وما دامت الأحكام القاسية والمتشدِّدة الجائرة هي سيدة الموقف، وما دام الرصاص هو اللغة الحاسمة.
أصلح الله أوضاع هذا الوطن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين