حديث الجمعة 247: رحيل العالم الرّباني السَّيد علوي الغريفي – لكي نحمل همَّ الوطن – خطاباتٌ لا تحمل همًّا وطنيًّا
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الهداة الميامين وصحبه المنتجبين.
رحيل العالم الرّباني السَّيد علوي الغريفي
ودّعنا بقلوبٍ مفجوعة عَلَمًا بارزًا، وعَالمًا ربّانيًا، سماحة العلّامة السَّيد علوي الغريفي تغمّده الله بوافر الرحمة والمغفرة والرضوان، وحشره الله مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون…
فقدناه أبًا سكَبَ فينا كلَّ الحبِّ والعطفِ والحنان…
فقدناه مربِّيًا غرس فينا القيم والنبلَ والفضيلة…
فقدناه أستاذًا أفاض علينا من علمه، وغذّى فينا روح الجدِّ والاجتهادِ والصبرِ والمثابرةِ على الدرسِ والتحصيل…
فقدناه قدوةً ومَثلًا جسّدَ تقوى الدينِ بكلِّ صدقٍ وإخلاص…
فقدناه عالمًا عامِلًا ملأ حياةَ النّاسِ عطاءً وفيضًا ونورًا وهداية…
فقدناه إنسانًا أحبّه وانجذبَ إليه كلُّ الذين عرفوه وكلُّ الذين جالسوه، وكلُّ الذين استمعوا إليه…
فقدناه مثالًا ذاب شفافيةً وأريحيّةً، وتواضعًا، وبساطةً، ولينًا، وخُلُقًا رفيعًا…
فقدناه قلبًا امتلأ نقاءً وصفاءً وطهرًا…
فقدناه إرادةً صلبةً لا تعرفُ الركودَ والكسلَ والاسترخاء…
فقدناه عنوانًا كبيرًا سوف يبقى حاضرًا في عقول الناسِ، وفي وجدانهم، وفي حياتهم…
هكذا رحل السّيد الغريفي…
بعد معاناةٍ دامت طويلًا مع الأمراض والأسقام والأوجاع والآلام.
وكان صابرًا محتسبًا، لا يزداد إلّا شكرًا لله، ورضًا بقضائه…
أراد الله تعالى أن يرفع مقاماتِ هذا العبدِ الصالح عنده من خلال مجموعةِ ابتلاءاتٍ وامتحاناتٍ صعبةٍ وقاسيةٍ، بدءًا من اليُتم، وفقد البصر في مرحلةٍ مبكّرةٍ من العمر، وانتهاءً بما ألمّ به مِن أمراضٍ وأسقام…
وإذا كان كلُّ ذلك مثّلَ ابتلاءاتٍ صعبةٍ، وامتحاناتٍ قاسية، فإنّها تهون كثيرًا كثيرًا أمام ابتلاءٍ كان الأصعَب، وامتحانٍ كان الأقسى وذلك حينما فاجأه القدر، واختطف الموت ولده، الذي كان عينَهُ التي يُبصر بها، بل كان كلّ حياته، وكان أمله الذي تمثّل فيه امتداده وبقاءه ووجوده…
ورغم قسوةِ هذا الامتحان، وصعوبة هذا الابتلاء، إلّا أنّ الله تعالى بلطفه وكرمه منحه شيئًا من صبر الأنبياء، وشيئًا من احتساب الأولياء، وشيئًا من شكر الصدّيقين، فما زاده الابتلاء والامتحان إلّا صبرًا واحتسابًا وشكرًا وحمدًا وثناءً…
نعم امتلأ قلبه آهاتٍ وحسرات…
وامتلأت عيناه دموعًا وعبرات…
غير أنّه لم يقل ما يغضب الربّ…
في كلمةٍ لنبيّنا الأعظم صلّى الله عليه وآله عندما فقد ولده إبراهيم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ» .
كيف لا يبكي السّيد الغريفي الأب، وكيف لا يحزن، والابن الفقيد نموذجٌ لعالمٍ توفّرت فيه خصائص ومؤهّلات لو قدّر لها أن تتكامل لانفتحت به على مستقبلٍ كبيرٍ جدًا في العلم والفكر والفضيلة…
والابن الفقيد نموذجٌ لرمزٍ لو سمح له القدر أن يواصل المسير لكان وجودًا عملاقًا في هذا الدرب..
والابن الفقيد نموذجٌ لمجاهدٍ لو امتدّ به العمر لأعطى الكثير الكثير في خدمة الدين والرسالة..
فلا عجب أن يقول السّيد الغريفي الأب كلمته وهو يودّع ابنه: «الآن انكسر ظهري»..
أيّها الأحبّة الأكارم:
لا تتّسع عجلةً من الوقت أن تستوعب حديثًا يتناول مساحةً من حياة أستاذنا الكبير العلّامة السّيد علوي الغريفي، فهو شخصية متعدّدة الأبعاد، ومتميّزة في الكثير من خصائصها، وتاريخٌ حافل بالعطاء، فقراءة هذا الإنسان تحتاج إلى وقفات متأنّيةٍ، تحاول أن تكتشف بعد الخصائص والمميّزات العلميّة، والفقهيّة، والروحيّة، والنفسيّة، والأخلاقيّة، والاجتماعيّة، التي يحملها هذا العالم الرّباني الكبير…
رغم ما امتلكه السَّيد الغريفي من شهرةٍ في أوساط الحوزويّة، ولدى مراجع الدين، وعند العلماء والفضلاء، وبين الناس ليس في البحرين فقط، بل في بلدانٍ متعدّدة، أقول رغم هذه الشهرة فإنّ الكثيرين من أبناء هذا الوطن، وخاصّة الأجيال الجديدة يجهلون هذا العالم العظيم في الكثير من أبعاد شخصيّته، وهذا ما يفرض على تلامذته، والعارفين به أن يتحدّثوا عنه، وأن يكتبوا عن سيرته، وحياته، وأبعاد شخصيّته، وهذا بعض الوفاء له، في زمنٍ تحاول قوى الطمس والتغييب أن تدفن الكثير من معالم الرموز والشخصيّات التي شكّلت عناوين بارزة في تاريخ هذا الوطن، فيجب أن يبقى هؤلاء الرموز في ذاكرة الأجيال، وفي وعي الأجيال، وفي وجدان الأجيال، وفي حركة الأجيال، من أجل أن تسقط مشروعات التغييب والطمس والإلغاء، فكثيرًا ما تُصادر هُوياتِ شعوبٍ من خلال تغييب وطمس وإلغاء الرموز الشاخصة في تاريخ هذه الشعوب، وكذلك من خلال تغييب وطمس وإلغاء معالم شاخصة على الأرض امتدّ تاريخها مئات وربّما آلاف السنين.
يقودني هذا الكلام إلى ما يحدث هذه الأيام في بلدنا الحبيب البحرين من استهدافاتٍ لمساجد تمّ هدمها وتدميرها بما فيها من مصاحف شريفة، وبعض هذه المساجد تملك تجذّرًا طويلًا في تاريخ هذا الوطن، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن المبرّرات لهذا النمط من الاستهدافات والممارسات التي تعبّر عن انتهاكاتٍ خطيرة لمعالم دين، وشخوص تاريخ، ولحرمة مقدّسات، هل هذا يأتي في سياق الحفاظ على أمن هذا الوطن واستقراره؟ هل أنّ خلق فورات الغضب والغليان عند النّاس حينما تُستهدف مقدّساتهم، وشعائرهم، ومساجدهم، وحسينيّاتهم، يصّب في مشروع الأمن والاستقرار؟
الأمر ليس كذلك، إنّ هذه الممارسات تدفع اتّجاه المزيد من التأجّج والتوتّر والاحتقان، وتدفع في اتّجاه موجاتٍ غاضبةٍ من الرفض والاحتجاج، فلماذا هذا الإصرار على إنتاج المزيد من أسباب التأزّم في مرحلةٍ تحتاج إلى الكثير من عوامل التهدئة والتخفيف من منتجات التوتّر؟
إنّ هدم المساجد ودور العبادة، والاعتداء على حرمة الحسينيّات سابقةٌ خطيرة في تاريخ البحرين، فما قرأنا طيلة هذا التاريخ، وحتّى في أعقد الأزمات أن تمَّ الاعتداء على المساجد والحسينيّات والشعائر فما نتمناه أن تُزال هذه النقطة السوداء في تاريخ هذا البلد، من خلال إعادة بناء هذه المساجد، والاعتذار عمّا حدث من انتهاكات للحسينيّات والشعائر الدينيّة، ربّما أنّ فورات الأمن، وأصوات التحشيد لا تسمح بهذا النمط من الاتّجاه، إلّا أنّنا نؤكّد أنّ بقاء الأمور التي تؤجّج النفوس، وتأزّم المشاعر لن تسمح بأيّ انفراجٍ مهما تصاعدت وتيرة القبضات الأمنيّة، ما يساهم في الانفراج هو زرع الثّقة في النفوس، وطمئنة القلوب، وإنهاء كلّ الممارسات الخارجة عن سياقات الأمن، فيما تعبّر عنه من استهدافاتٍ طائفيّة كيديّة واضحة، إنّنا لا نفهم هدم المساجد والاعتداء على الحسينيّات في سياقات الأمن والاستقرار…
إنّنا لا نفهم السؤال عن الهويّة المذهبيّة في نقاط التفتيش في سياقات الأمن والاستقرار…
إنّنا لا نفهم هذا الاعتقال المكثّف للنساء في سياقات الأمن والاستقرار…
إنّنا مع الأمن والاستقرار ما دام ذلك يحقّق أمنًا واستقرارًا لكلّ أبناء هذا الوطن، لا أن ينتج رعبًا، وخوفًا، وقلقًا، وتأزّمًا، وتوتّرًا…
لكي نحمل همَّ الوطن:
ليس مخلصًا مَنْ لا يحمل همَّ الوطن، فهذا الهمّ أحد مكوّنات الانتماء، بل مكوّن أساس، وحينما يغيب فقد غاب الانتماء، كيف ينتمي لوطنٍ مَنْ لا يحمل همومَ هذا الوطن.
والسؤال الذي يُطرح هنا:
ماذا يعني أن نحمل همَّ الوطن؟
لكي نحمل همَّ الوطن نحتاج إلى ثلاثة مرتكزات:
المرتكز الأول:
أن نملك درجةً عاليةً من الوعي الوطني:
من الضروري لكي نحمل همَّ الوطن أن نملك درجةً عالية – أو بقدرٍ مقبول – من الوعي الوطني، فيما يعبّر عنه هذا الوعي من فهمٍ بصير:
– لمعنى الوطن..
– ولمعنى الانتماء للوطن..
– ولمعنى حبّ الوطن..
– ولمعنى مصلحة الوطن..
– ولمعنى أمن الوطن..
– لمعنى حماية الوطن..
هذه مجموعة مضامين يجب أن يتوفّر المواطن على درجةٍ مقبولة من «الثقافة» بدلالاتها ومعانيها، وحينما يلتبس الفهم حول هذه العناوين فإنّ ذلك يشكّل التباسًا في ممارسة الانتماء للوطن..
هناك محاولات تؤسّس لدلالاتٍ خاطئة لهذه المفردات، الأمر الذي يخلق مساراتٍ خاطئة في التعاطي مع هموم الوطن..
المرتكز الثاني:
أن نملك درجةً عاليةً من الحسّ الوطني:
ما لم يتحوّل الوعي الوطني إلى حسٍّ ينبض به القلب والوجدان، فسوف يبقى فكرًا متكلّسًا في الذهن، وثقافةً متبلّدة في العقل لا تملك حرارةً ووهجًا وحركيّة.
الحسّ الوطني شعور متوقّد، وعاطفة حيّة، إلّا أنّ هذا الشعور يجب أن يكون بصيرًا، وأنّ هذه العاطفة يجب أن تكون واعية، وإذا غاب الوعي والبصيرة تحوّلت المشاعر والعواطف إلى إحساساتٍ منفلتةٍ، وانفعالاتٍ غبيّة، وربّما تاهت وانحرفت عن هموم الوطن وأهدافه ومصالحه، ويجب الحذر من أن يوظّف الحسّ الوطني توظيفًا خاطئًا تلبية لأغراضٍ يريدها نظام حاكم، أو قوى سياسيّة أو طرف هنا أو طرفٌ هناك، إنّ هذا التوظيف الخاطئ أو المنحرف يشكّل خطرًا على الأوطان والشعوب.
المرتكز الثالث:
أن نملك درجةً عالية من السلوك الوطني:
القيمة كلّ القيمة حينما يتحوّل الوعي الوطني، والحسّ الوطني إلى سلوكٍ وممارسات وحركةٍ على الأرض، وإلّا كان الوعي مجرّد فكر نظري، والحسّ مجرّد عواطف وانفعالاتٍ، وحينما نتحدّث عن السلوك الوطني نتحدّث عن عطاءٍ صادقٍ من أجل الوطن، وعن تضحية، مخلصة من أجل قضايا الوطن، وقضايا المواطنين…
وهنا نقطة مهمّة جدًا يجب التأكيد عليها وهي أنّ مصلحة المواطن مكوّن أساس من مكوّنات مصلحة الوطن، وأنّ أمن المواطن جزءٌ أساس من أمنِ الوطن، كيف تتحقّق مصلحة الوطن، إذا تمّ التفريط بمصلحة المواطن؟
وكيف يتحقّق أمن الوطن إذا تمّ التفريطِ بأمنِ المواطن؟
وكيف نعيش همّ الوطن إذا تمّ التفريط بهموم المواطن؟
وكيف ندافع عن قضايا الوطن إذا تمّ التفريط بقضايا المواطن؟
تحاول الأنظمة الحاكمة أن تختزل مصلحة الوطن، وأمن الوطن، وهموم الوطن، وقضايا الوطن في مصالح الأنظمة، وأمنها، وهمومها، وقضاياها.
وهنا نتساءل:
أيّ مصلحة للأوطان حينما تضيع مصالح الشعوب؟
وأيّ أمنٍ للأوطان حينما يضيع أمنُ الشعوب؟
وأيّ قضيةٍ للأوطان حينما تضيع قضايا الشعوب؟
خطاباتٌ لا تحمل همًّا وطنيًّا:
هناك بعض الخطابات لا تحمل همَّ الوطن، بل تشكّل خطرًا على مصلحة الوطن، وأمن المواطن، وأمن الوطن، ووحدة الوطن، وقضايا الوطن.
وهذه نماذج منها:
(1) خطابات المزايدة:
هذه الخطابات تمارس احتكارًا للوطنيّّة، فهي ولا غيرها تحمل همَّ الوطن، ومصلحة الوطن، والولاء للوطن، إنّها نزعة الغرور، والجنوح لإقصاء الآخر، وإلغائه، بل اتّهامه، لا نشكّ أنّ هذا النمط من الخطاب لا يعبّر عن همٍّ وطني حقيقيّ…
(2) خطابات القذف والسبّ والتحريض:
وهذه الخطابات تشكّل خطرًا كبيرًا على وحدة وتماسك وتلاحم أبناء الوطن، وعلى بنيته الاجتماعيّة، وكثيرًا ما تفتح الأزمات السّياسية والأمنيّة شهيّة القذّافين والسبّابين والمحرّضين ليمارسوا أدوارهم القبيحة في الإضرار بالأوطان، مبرّرةً بعناوين الولاء والانتماء والدفاع عن مصالح الوطن…
(3) خطابات المداهنة والتبرير:
خطابات تداهن الأنظمة الحاكمة، وتبرّر لكلِّ أخطائها وسياساتها، رغبةً في التزلّف والتقرّب والحظوة.. ولعلّ هذا النمط من الخطابات هي الأكثر سوء، والأشدّ قبحًا، لأنّها اشترت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، لا نرفض أن يُدافع إنسانٌ عن سياسة حكمٍ هنا أو هناك، إذا كانت تلك السّياسة عادلة، ونظيفة، وتحقّق مصالح الشعب، وأمّا أن يكون الخطاب مدافعًا عن سياسات النظام الحاكم وإن كانت ظالمة وجائرة، وإن كانت فاسدة وخاطئة، فهذا لا يملك مبرّرًا من دينٍ أو ضمير أو قانون..
(4) خطابات الفتنة الطائفيّة:
من أقبح الخطابات، وأكثرها فتكًا بالأوطانِ والشعوب، فكم أزهقت أرواحًا، وذبَّحت أطفالًا، ونساءً، وشيوخًا، وقتلت أبرياء، وخرّبت ديارًا، وهدمت مساجد ودور عبادة، وهتكت حُرمة مقدّسات، وأجّجت نيران حروبٍ مستعرةٍ مدمّرةٍ لم تبقِ أخضرًا ولا يابسًا، ولا حرثًا، ولا نسلًا، فكم هو الجرمُ كبيرٌ وعظيم، وعقاب الله شديد شديد لأصحاب هذه الخطابات، الذين يحملون ضمائر ممسوخة، لا تعرف الله، وقيم الإنسانيّة، ولا تحمل ذرة حبٍّ أو ولاءٍ لوطن أو شعب..