حديث الجمعة 245: كيف نحصِّن الوطن في مواجهة المنزلق الطائفي؟ – أصابع الفتنة تتحرّك
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلوات على سيد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الهداة الميامين.
وبعد فهذه بعض عناوين:
كيف نحصِّن الوطن في مواجهة المنزلق الطائفي؟
في البدء نضع تعريفًا لما نعنيه بالمنزلق الطائفي.
ليس مرفوضًا أن يعيش الإنسان انتماءً إلى مكوِّنٍ ديني أو مذهبي أو ثقافي أو اجتماعي أو سياسي، ما دام الإنسان يملك قناعة هذا الانتماء.
ولا مشكلة في أن تتحاور القناعات وفق أسسٍ صحيحة للحوار.
ولا مشكلة في النّقد والمحاسبة ما دامت المعايير سليمة والأهداف نظيفة.
ولكنّ المرفوض أن تتحوّلَ الانتماءاتُ متاريسَ حربٍ تتواجَه وتتقاتل فيما بينها.
حينما نتحدّث عن طائفيّة مرفوضة، فإنّما نتحدّث عن انتماءٍ متعصّبٍ، معادٍ، مؤجّج لصراعاتٍ، تقودُ إلى فتنٍ، ودماءٍ، وخرابٍ، ودمار.
هذا هو المنزلق الطائفي الخطير الذي يجب أن نحصِّن أوطاننا في مواجهته، ونحمي شعوبنا من شروره وعواقبه.
هل تعيش البحرين مخاطر هذا المنزلق؟
إنّ شعب البحرين بأصالتهِ، ونبلهِ، وقيمهِ، وانتمائهِ، ووطنيّتهِ من الصعب أن ينجرّ إلى معتركٍ طائفي، فقد عاش هذا الشعب بكلّ مكوّناته تاريخًا طويلًا من الألفةِ، والمحبّة، والوءام، والاندماج، فهل يمكن أن يُفاجأ باصطفافاتٍ طائفيّة تنسف هذا التاريخ من التلاحم والانسجام، والتقارب والائتلاف؟
الأمر ليس بهذا الشكل، ولا زلنا نراهن على وعي وطيبة، وحكمة أبناء هذا الوطن.
إلّا أنّنا نعترف بأنّ المرحلةَ الراهنةَ التي تعيشها البحرين تشهد مخاضاتٍ صعبةٍ، معبّئةٍ بتشنّجاتٍ وانفعالاتٍ ربّما تُدفَعُ في اتجاه توظيفاتٍ طائفيّة، الأمر الذي يفرض على كلّ المخلصين لهذا الوطن أن يُحاصروا هذه التوظيفات خشية أن تجّر إلى المنزلقاتِ المدمّرة.
وفي هذا السياق، فنحن نثمّن أيَّ مبادرةٍ تحاول التصدّي لكلّ أشكال الانفلات الطائفي، مهما كانت الدوافع والمبرّرات، ولا شكّ أنّ هذه المبادراتِ الكريمة تعبّر عن إخلاصٍ صادقٍ لهذا الوطن، وعن أصالةٍ في الانتماء لهذه الأرض، ورغم هذا التثمين الكبير لهذه المبادرات التي تساهم بشكلٍ واضحٍ في محاصرة الانفلاتات الطائفيّة، وفي إيقاف تداعياتها الخطيرة التي تهدّد وحدة هذا الشعب، ونسيجه الاجتماعي، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ التحصين الحقيقيّ لهذا الوطن في مواجهة المنزلق الطائفي هو محاصرة الأسباب والمنتجات، والتي إذا تُرِكتْ فسوف تبقى هذه المبادرات مجرّد محاولات تهدئةٍ وتسكين سرعان ما تنهار، ويجب أن لا يُفهم أنّنا ندعو إلى إيقاف المبادرات فهي توفّر أجواء صالحة لمعالجات جذريّة قادرة أن تجنّب هذا البلد كلّ المنزلقات المدمّرة للمشروعات الطائفيّة البغيضة.
بعض محصّناتٍ مهمةٍ في مواجهة المنزلق الطائفيّ:
وهنا نحاول أن نضع بعض مُحصّناتٍ لها دورها الكبير في مواجهة المنزلق الطائفيّ:
(1) إشاعة ثقافة الرّفض للنهج الطائفيّ:
فكلّما تجذّر الوعي الرافض للنهج الطائفي ساهم ذلك في تحصين السّاحة وحمايتها في مواجهة أيّ مشروعٍ يؤسِّس لحراكات طائفيّة، وإنّما تنجح هذه الحراكات حينما يغيب الوعي، ويهيمن الجهل، والتعصّب، ممّا يُشكّل بيئة ناجحة لكلّ محاولاتِ العبث بوحدة الشعوب، وبمكوّناتِ تلاحمها وتماسكها وتآلفها…
إنّ شعبًا يملك درجةً عالية من الوعي والبصيرة لا يمكن أن يكون أداةً طيّعةً لمشروعات الفتنة الطائفيّة والتي لا تريد للشعوب إلّا الشرَّ والدّمار…
(2) الحذر كلّ الحذر من اللاعبين بالأوراق الطائفيّة:
هناك كثيرون من اللاعبين بأوراق الطائفيّة من أجل تمزيق وحدة الشعوب، ربّما يكون هؤلاء اللاعبون قوى خارجيّة تخطّط للهيمنة على مقدّرات الشعوب، من خلال إشغال الشعوب بمعارك طائفيّة ومذهبيّة، وحزبيّة تدمّر كلّ أشكال التلاحم والتماسك بين مكوّنات الشعوب، وربّما يكون اللاعبون أنظمة حاكمة تواجه حراكات الشعوب من أجل إضعاف المواقف، وزعزعة التقارب، كون ذلك يشكّل خطرًا على تلك الأنظمة، إلّا أنّ هذا الخيار – اللعب بالأوراق الطائفيّة – ليس في صالح أنظمة الحكم، لأنّ المعترك الطائفيّ يحرق الأوطان، وهذا ما يكلّف الأنظمة أثمانًا باهضة.
وربّما يكون اللاعبون بهذه الأوراق الطائفيّة قوى في داخل الشعوب مأسورة لنزعاتٍ موتورةٍ، ومتشنّجةٍ، وحاقدةٍ، تريد كلّ السوءِ بالشعوبِ والأوطان، ولعلّ مجموعات الإرهابِ والتطرّفِ المزروعة في الكثير من البلدانِ والتي أزهقت أرواحًا، وأراقت دماءً، ودمّرت أمنًا، وخلقت رُعبًا، وخرّبت أوطانًا، وحرقت ديارًا، وهدّمت مساجد ودور عبادة ومواقع شعائر، هذه المجموعات هي بعض تمظهرات تلك القوى اللاعبة بأوراق الطائفيّة…
(3) التصدّي لأيّ خطابٍ طائفيّ:
للخطاب الديني والثقافي والسّياسي دوره الكبير في صوغ الوحدة بين مكوّنات الشعوب، وكذلك في تدمير هذه الوحدة وإسقاطها.
فإذا كان هذا الخطابُ خطابًا توحيديًا، يزرعُ المحبّة والألفةَ، ويُجذّر التلاحمَ والتآلف، ويحارب كلَّ أشكال التصدّع والتمزّق والانشطار والعداوة والبغضاء، فمن الطبيعي أن يساهم بشكلٍ واضح في تجسيد العلاقات بين أبناء الوطن الواحد، وفي تمتين اللحمة الاجتماعيّة بين مكوّنات الشعب.
وإذا كان الخطاب خطابًا تحريضيًا، وتحشيديًا، استعدائيًا، يزرع الكره، والبغض، والعداء، والفرقة، والشّقاق، والخلاف، والاحتراب، والاقتتال، فمن الطبيعيّ أن يكون هذا الخطاب من أهمّ المنتجات والأسباب الخطيرة لتشكّل الواقع الطائفيّ المدمّر.
وحينما تشتدّ الأزمات السّياسية، والاستنفارات الأمنيّة في أيّ بلدٍ يجد أصحاب الشهيّة الطائفيّة فرصتهم في إطلاق العنان لخطابات الشّحن الطائفيّ المعبّئة بلغة الثأر والانتقام.
ولكي لا أكون مُتّهِمًا، ومُسيئًا، أنقل بعض كلماتٍ نشرتها إحدى الصحف المحليّة قبل بضعة أيامٍ لكاتبٍ – وبالمناسبة ليس شيعيًا لكي يُتّهم بالانحياز – هذه الكلمات تحمل درجةً عالية من الموضوعيّة والإنصاف والصدق.
قال الكاتب المذكور تحت عنوان (أزيلوا لوحات الإعلام السّياسي الحاقد):
«بدأ المواطن يشاهد في الآونة الأخيرة لوحاتٍ إعلانيّة مقزِّزة، وتثير في داخله الاشمئزاز والحنق في آن، ظاهرة في غاية الخطورة، بدأت تأخذ طريقها إلى شوارع البحرين، متحدِّيةً قلمَ الرّقيب، ومحاسبةَ القانون، مصدرها مجموعة من اللوحاتِ الإعلانيّة ذات المحتوى السّياسي الحاقد، المحرّض على الانتقام، المبطّن برائحةٍ طائفيّةٍ كريهة، لا تكفّ عن زرع البغيضة في نفوس المواطنين، مستفيدة من الاحتقانات السّياسية التي ولّدتها الأحداثُ الأخيرة المحزنة التي أصبحت تسود البحرين، تتراوح نصوص تلك اللوحات مِن المطالبة بتنفيذ القصاص وعدم العفو عمّن تعتبرهم مذنبين، وتتدرّج كي تصل إلى الدعوة إلى (تعليق أعواد المشانق) دونما أيّ حقّ في رقاب مَن يعتبرهم مَن يقف وراء تلك اللوحاتِ (مجرمين) يستحقّون هذا العقاب، كي تصل إلى أوج الحثّ المباشر على القتلِ في سعي منها لإثباتِ ولائها للإجراءات الأمنيّة التي تعيش في كنفها البحرين» – انتهى الكلام المقتبس- وهو كلام نثمّنه ونقدّره في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ بها هذا الوطن.
لسنا في هذا الظرف المتأزّم في حاجةٍ إلى خطابٍ ثأري، انتقامي، تحريضي، فهذا يزيد من تأجيج الأوضاع، ويدفع في اتّجاه التأزّم، وخاصّة إذا كان الخطاب خطابًا رسميًا محسوبًا على النظام الرّسمي، فمن الخطر جدًا أن ينزع خطاب الأنظمة الحاكمة إلى أيّ شكلٍ من أشكال الشّحن الطائفيّ، لما يترتّب على ذلك من تداعياتٍ مدمّرة وإثاراتٍ تغذّي روح العداوة والكراهية في نفوس النّاس، الأمر الذي يؤدّي إلى احتراباتٍ طائفيّة قد لا تملك الأنظمة قدرةً على إيقافها.
(4) الإصلاح السّياسي ودوره في مواجهة المنزلق الطائفيّ:
كلّما ارتقى مستوى الإصلاح السّياسي كان ذلك عاملًا مهمًا في تحصين الوطن وحمايته من المنزلقات الطائفيّة، والعكس صحيح، فكثيرًا ما يكون التأزّم السّياسي سببًا في إنتاج المآزق الطائفيّة.
هنا سؤالٌ يُطرح:
أيّهما يساهم في علاج الآخر، هل أنّ علاج المأزق السّياسي يُساهم في علاج المأزق الطائفيّ أم العكس؟
ربّما يكون المأزقان متداخلين، إلّا أنّنا نشاهد أنّه كلّما تحسّن الوضع السّياسي، اختفى الصراع الطائفيّ، وكلّما تأزّم الواقع السّياسي أنتج ذلك تأزّمًا طائفيًا، فمطلوبٌ أن تعالج الأوضاع السّياسية من خلال الإصلاحات الحقيقيّة لكي لا تتوفّر بيئات تفرّخ أزماتٍ طائفيّة…
فحينما لا تمارس الأنظمة الحاكمة سياسات التمييز بين مكوّنات الشعوب، فإنّها تؤسّس لتلاحمات اجتماعيّة صلبة، بينما تغذّي سياسات التمييز الأحقاد الطائفيّة.
(5) تعزيز الثّقة في نفوس المواطنين من أقوى المحصّنات في مواجهة المنزلقات الطائفيّة:
بمقدار ما تقوى الثّقة في نفوس المواطنين يكون الوطن محصّنًا ضدّ مخاطر الانزلاق الطائفيّ، وبمقدار ما تتعرّض هذه الثّقة إلى الاهتزاز، فإنّ هذا يصبّ في اتّجاه التأزّمات الطائفيّة.
ولا يمكن أن تتعزّز الثّقة من خلال الخيارات الأمنيّة القاسية، ربّما تستطيع هذه الخيارات أن تُنهي أوضاعًا في الشارع، أن تسكت أصواتًا، ولكنّها لا يمكن أبدًا أن تزرع ثقةً في داخل النفوس، وهذا أمرٌ مدمّر لأوضاع الأوطان، فمطلوبٌ من أنظمة الحكم أن تفتّش عن وسائل لإنتاج الثّقة، وليس عن مزيدٍ من القسوة والعنف.
إنّنا نريد لهذا الوطن أن يكون خاليًا من الأزمات والاحتقانات والتوتّرات من خلال إنعاش الحبّ والثّقة في النفوس، إلّا أن ما يتحرّك على الأرض يوتّر النفوس، ويؤزّم الثّقة، نحن لا نرفض أيّ إجراءٍ يوفّر لأبناء هذا الوطن الأمن والأمان، إلّا أنّنا نقول:
• إنّ استمرار اعتقال النساء وبطريقةٍ مؤذيةٍ جدًا ولّد موجاتٍ من الاستياء، مهما كانت مبرّرات الاعتقال.. وليس من الطبيعي أن يكون هذا في بلدٍ تربّى على العفة والشّرف وحماية العرض..
• إنّ مداهمات المنازل بطريقةٍ فيها الكثير من القسوة والاستفزاز، لا شكّ يصعّد من حالات التأزّم النفسي، وما يترتّب على ذلك من اهتزازٍ واضح في الثّقة، ودفعٍ في اتّجاه الاحتقان..
• إنّ التعرض للمساجد والحسينيّات بالإساءة والتخريب أمرٌ يتنافى مع احترام المقدّسات الدينيّة، ومع الحرّيات المنصوص عليها في الميثاق والدستور، ثمّ إنّ هذه الممارسات ضارّةٌ جدًا باللحمة الوطنيّة، وبتعزيز الثّقة في نفوس المواطنين..
• إنّ ظاهرة تسريح الموظّفين من الوزارات والشركات، وفصل أساتذة أكاديميّين، وإيقاف عددٍ من المبتعثين والطلبة الجامعيين أمرٌ لن يحلّ الأزمة، بل سوف يخلق أزمات جديدة..
• إنّ كثافة نقاط التفتيش، إن كانت من أجل توفير الأمن والأمان للمواطنين فلا أظنّ أنّ أحدًا يرفضها، أمّا إذا كانت لفرض مزيدٍ من الضّغط، والتعقيد، وتقييد الحرّيات، والمساس بكرامة النّاس، فلا شكّ أنّها لا تخلق إلّا توتّرًا وتأزّمًا لن يكون في صالح هذا الوطن..
هذه بعض كلمات لا تهدف تحريضًا أو تأجيجًا أو تصعيدًا وإنّما رغبةً في خلق أجواء صالحة، تهيّئ لخياراتٍ سلميّة تنقذ هذا البلد من أوضاعه المأزومة، وتنفتح به على مساراتٍ تزرع الثّقة في النفوس وتدفع في اتّجاه الأمن والأمان، أتمنّى أن تنفتح صدور المسؤولين لهذه الكلمات الصّادقة التي تريد كلّ الخير لهذا الوطن.
أصابع الفتنة تتحرّك:
حدثان يعبّران عن وجهتين لعملةٍ واحدة اسمها (أصابع الفتنة تتحرّك):
الحدث الأول:
حرق القرآن في أمريكا…
يمثّل هذا الحدث تحدّيًا صارخًا لمشاعة المسلمين في العالم، فبين آونةٍ وأخرى تتكرّر أمثال هذه الأعمال الشائنة، والتي تعبّر عن إصرارٍ في زرع الفتنة، هذا الهدف الخبيث الذي تحرّكه أصابع لا يهمّها إلّا الصراع والقتل في الأرض، من أجل أن تمرّر الأغراض الدنيئة المنافية لكلّ القيم الدينيّة والإنسانيّة، وقد استنكرت بشدّة كلّ القوى الخيّرة إسلاميّة وغير إسلاميّة مثل هذه الأعمال الساقطة والتي تحرّكها أصابع مشبوهة تقبع وراءها نفوس شرّيرة معادية للمبادئ والأديان.
الحدث الثاني:
هدم أضرحة ومقامات في مصر…
قامت جماعاتٌ في مصر واضحة الهُوية والانتماء بالإقدام على هدمِ مائة ضريحٍ ومقام، وكان لهذا العمل الشائن ردودُ فعلٍ غاضبةٍ في مصر، اعتبرت هذا الفعلَ السيّئَ سلوكًا متطرّفًا وراءه أيدٍ خفيّةٍ تريد إشعالَ الفتنةِ بين أبناءِ الشعب المصري، والهاءَ المواطنين بمعارك داخليّة لمصادرة أهداف الثورة التي أطاحت بالنظام البائد، وقد أدان كبارُ العلماءِ في مصر هذا العملَ المغّذي للفتنةِ، واعتبروه يمثل فهمًا متطرّفًا للدّين، وهكذا تحاولُ أصابعُ الفتنةِ تأجيجَ الصراعاتِ المدفوعة بأجندةٍ واضحةِ الأغراضِ والأهدافِ، فعلى المسلمين جميعًا أن يكونوا على بصيرةٍ في مواجهةِ المؤامراتِ الخطيرة التي تُريد الشرّ بهذه الأمّة.