خطاب الأربعين: وعادتْ قافلةُ السَّبايا من آلِ البيتِ إلى كربلاء – الملايين الزَّاحفة إلى كربلاء
بسم الله الرحمن الرحيم
وعادتْ قافلةُ السَّبايا من آلِ البيتِ إلى كربلاء..
بعدَ رحلةٍ مُثْقَلَةٍ بالعذابِ، والعناءِ، والسِّياطِ، والشَّماتةِ، والإذلالِ، والسبِّ، والتشهيرِ، والآلامِ، والدُّموعِ، والشُّجونِ، والأحزانِ…
وفي كربلاء عادتْ إلى الذَّاكرةِ مشاهدُ عاشوراء..
حيثُ وقفَ السِّبطُ الحسينُ وحيدًا فريدًا، لا ناصر له ولا معين..
وكلماتُه الحزينةُ قد ذابتْ على شفتيهِ وهو ينادي:
هل من ناصرٍ ينصرُنا؟
هل من ذابٍّ عن حرمِ رسولِ الله؟
هل من مغيثٍ يرجو الله في إغاثتِنا؟
هل من موحِّدٍ يخافُ اللهَ فينا؟
فما أجابَهُ إلّا نساءٌ والهاتٌ باكياتٌ صارخات..
وما أجابه إلّا صبيةٌ، وصبايا ذاهلاتٍ حائرات…
أمّا الصحبُ والآلُ فقد عانقوا الموتَ، وافترشوا ثرى كربلاء..
هذا شبيهُ المصطفى عليٌّ الأكبر، مضرَّجٌ بالدِّماءِ، قد استقرَّ رمحٌ غادرٌ في ظهره، وهوى سيفٌ مشؤومٌ على مِفرقِ رأسِهِ، ومزَّقت المواضي جسدَهُ إرْبًا إرْبًا…
وذاك القاسمُ شبلُ الحسنِ المجتبى غلامٌ في عمرِ الزُّهور، مطروحٌ على التراب، تناهبتْ جسدَهُ سيوفٌ وسهامٌ ورماحٌ، فتحوَّل أشلاءَ تسبحُ في بحرٍ من دماء…
وهناك على مقربةٍ من نهر العلقمي، يرقدُ العبَّاسُ بن عليّ، مقطوعَ اليدينِ، والسَّهمُ نابتٌ في العين، وقد خسفَ الهامةَ منه عمودٌ مِن حديد..
وهكذا بقي ابن الزَّهراء وحيدًا فريدًا…
وجاءت أختُه الحوراءُ زينب، تحملُ طفلًا رضيعًا، غارت عيناه من العطش، ذبلت شفتاه من الظَّمأ، اضطربت أعضاؤُه، اختنقت صرخاتُه…
وقفت بطلةُ الصُّمودِ أمام أخيها الحسين:
أخي حسين اطلب لهذا الطفلِ الرَّضيعِ قليلًا من الماء..
احتضن الحسينُ طفلَهُ الرَّضيع، ضمَّهُ إلى صدرِه، أرسل نظراته الحانية، تتأمَّلُ في عينيه البريئتين، طبع على وجنتي الطفل قبلاتٌ مملوءةٌ بالأسى والحزن.. وتمتمت شفتاه بكلماتٍ باكية: «ويلٌ لهؤلاء القوم إذا كان جدُّك المصطفى خصمهم»
وشدَّ الحسين خطواته نحو القوم، حاملًا طفله الرَّضيع، مثقلًا بالهموم والآلام…
خاطبهم بكلماتٍ حاولت أن تستنطق شيئًا من الرَّحمة، إن كان هناك بقيَّةٌ من رحمةٍ في تلك القلوب: «إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل الرَّضيع، اسقوه قطرة ماء»
إلّا أنّ القلوب قد طبع عليها الشَّيطان..
وجاء الجوابُ من حرملة بن كاهل: أرسل سهمًا حاقدًا فذبحَ الطِّفلَ الرَّضيع من الوريدِ إلى الوريد، وهو بين يدي أبيه الحسين…
وصمَّم الحسينُ على الشَّهادة…
ودَّعَ الحرمَ والعيال…
وجاءته أخته زينب بفرسِ المنيَّة، امتطى السِّبطُ جوادَه قاصدًا أرضَ القتال…
نازلَ القومَ فردًا…
افترقوا على إمامِكم الحسين، فِرقةٌ بالسُّيوفِ، وفِرقةٌ بالرِّماح، وفرقةٌ بالسِّهام، وفرقة بالحجارة، وابن الزَّهراء وحيدٌ فريدٌ يُكثر من قولِ «لا حولَ ولا قوةَ إلَّا بالله العليِّ العظيم».
وشاء القدر…
فجاء حجرٌ طائشٌ أصابَ جبهةَ الحسين..
رفع الحسين الثوب يمسحُ الدَّم…
وإذا بالسَّهمِ المثلَّثِ المسمومِ يخترقُ القلبَ المقدَّس…
شدَّ الحسينُ طرفَهُ إلى السَّماءِ، وحرَّكَ شفتيه بكلماتٍٍ «هوَّن عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله».
ثمَّ امتدت يده ليملأها دمًا، مخضِّبًا رأسه ووجهه وهو يقول: «هكذا أكون حتى ألقى الله وجدِّي رسول الله صلّى الله عليه وآله مخضَّبٌ بدمي، وأقول يا جدي قتلني فلانٌ وفلان».
وأثقلته الجراحاتُ ونزفُ الدِّماء، واشتدَّ به الحالُ وهوى إلى الأرض مُفترشًا تُرابَ كربلاء…
وتزاحمت عليه الضَّرباتُ والطَّعناتُ حتى غُشي عليه..
خرجن النِّساءُ من الخيام، تتقدّمهنَّ زينب ابنة عليّ، لاطماتٍ، نادباتٍ، باكياتٍ، صارخات..
قصدَت نحو الحسين…
وإذا بالشِّمرِ اللعينِ يجثمُ فوقَ صدرِ الحسين، واضعًا السَّيفَ في نحرِ الحسين…
وجرى ما جرى، ما يصعبُ ذكره إلّا في يوم عاشوراء..
السَّلامُ عليك يا أبا عبد الله..
السَّلامُ على مَنْ مزَّقَ السَّهمُ المثلَّثُ قلبَه..
السَّلامُ على مَنْ هشَّمت حوافرُ الخيول صدرَه..
السَّلامُ على مَنْ حزَّ الشِّمرُ اللعينُ نحرَه..
السَّلامُ على مَنْ تقاسمتْ المواضي والرِّماحُ جسدَه..
السَّلامُ على مَنْ رُفِعَ فوقَ السِّنانِ رأسُه..
السَّلامُ على مَنْ بقي ثلاثًا في العراءِ جثمانُه..
السَّلامُ على مَنْ أُحرقت خيامُه…
السَّلامُ على مَنْ حُمِلت على النِّياق العُجّف نساؤُه وحريمُه..
السَّلامُ على مَنْ روَّعتْ السِّياطُ أطفالَهُ وأيتامَه..
وعظَّم الله أجورنا وأجوركم بمصاب المولى الحسين..
الملايين الزَّاحفة إلى كربلاء:
في ذكرى الأربعين تزحف الملايين إلى كربلاء…
هذه الملايين محفورٌ في قلوبها «يا حسين»..
هذه الملايين ومعهم كلُّ عشَّاق الحسين في كلِّ الدُّنيا يصرخون «لبَّيك يا حسين لبَّيك يا حسين»..
هذه الملايين تزحف إلى قبر الحسين متحدِّيةً الموتَ، والإرهاب، والعنف، مردِّدة «لو قطّعوا أرجلنا واليدين نأتيك زحفًا سيدي يا حسين»..
ماذا يريد صنَّاعُ القتل والجريمة؟
ماذا يريد سفَّاكو الدِّماء؟
ماذا يريد هؤلاء العابثون بأرواح الأبرياء؟
هناك من يُدافع عن هؤلاء القتلة المجرمين…
هناك من يصف هؤلاء الغارقين في الإرهاب بأنَّهم مجاهدون…
هكذا تنمسخُ المعايير، وهكذا تموت القِيَم…
المجاهدون الحقيقيُّون الذين يُدافعون عن أوطانهم، وحقوقهم، وكرامتهم، ومقدَّراتهم، هؤلاء – وِفْق تلك المعايير الممسوخة – يُعتَبرون إرهابيِّين….
والإرهابيُّون الحقيقيُّون، الذين يسفكون دماءَ الأبرياء، ويقتلون النِّساء والأطفال، وينشرون الرُّعبَ بين الناس، هؤلاء – وِفْق تلك المعايير – يُعتَبرون مجاهدين..
هل تُصدِّقون أنَّ هناك من يدافع عن قتلة الحسين، ويعتبرهم رموزًا دينيَّةً لا يجوز المساس بها..
قبل أسبوعين أو أكثر أعدَّت قناة «العربية» تقريرًا بثَّته في نشرتها الإخباريَّة المسائيَّة، تحدَّثت فيه عن «مسلسل المختار»، واتَّهمته بأنَّه يُشكِّل «إهانةً للرُّموز الدينيَّة السُّنيَّة»
عن ماذا يتحدَّث هذا المسلسل التاريخيّ؟
إنَّه يروي قصَّة القائد الإسلاميَ المختار بن عبيدة الثَّقفي الذي ثار ضدَّ الأمويِّين، ولاحق قتلةَ الإمام الحسين، واقتصَّ منهم…
هل أنَّ هؤلاء القتلة المجرمين، الذين سفكوا دم الحسين سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وسفكوا دماء أصحابه وأولاده وأهل بيته، وحرقوا خيامه، وروَّعوا نساءَه وأطفالَه، وحملوهم سبايا يطوفون بهم من بلدٍ إلى بلد، هل أنَّ هؤلاء القتلة المجرمين هم من الرُّموز الدينيَّة السُّنية؟
كلَّا وألف كلَّا إنَّ المسلمين السُّنَّة يتبرَّأون كلَّ التبرُّأ من قتلة الحسين، ومن صانعي مجزرة عاشوراء…
من هم رموز الجريمة في واقعة الطَّف
أذكر نماذج من هؤلاء:
(1) عمر بن سعد: قائد الجيش الذي قاتل الحسين، ونفَّذ تلك الجريمة النَّكراء، وكان عبدًا حقيرًا للنِّظام الأمويّ، باع آخرتَه طمعًا في الدُّنيا، إلَّا أنَّه خسر الدنيا والآخرة، قتله المختار، وقتل ابنه حفص، وقال: «هذا بحسين، وهذا بعليّ بن الحسين، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش، ما وفوا أنملةً من أنامله» فهل يصحُّ لمسلمٍ يحترم إسلامه أن يعتبر هذا المجرم رمزًا دينيًّا؟
(2) شمر بن ذي الجوشن: أخبث مجرمي واقعة الطَّف.. جثم على صدر الحسين، وبيده الملوَّثة بالعار حزَّ رأس الحسين ابن بنت رسول الله صلَّى الله عليه وآله… وهكذا نفَّذ أبشع جريمةٍ في التاريخ.. وكان الكلب الأبقع الذي قال عنه رسول الله صلَّى الله عليه وآله: «كأنِّي أنظر إلى كلبٍ أبقع يلغ في دماء أهل بيتي» هذا هو الرَّمز الدينيّ الذي تدافع عنه قناة العربية!!!
(3) حرملة بن كاهل الأسدي: الذي رمى الطِّفل الرَّضيع بسهمٍ، وهو في حضن أبيه الحسين، فذبحه من الوريد إلى الوريد… هكذا تُقتل الطُّفولة البريئة على أيدي هؤلاء السَّفاحين المتمرِّسين، المصَّاصين للدِّماء.. أيُّ بطولةٍ هذه التي تغتال الأطفال الصِّغار؟ هذا السَّفاك المتوحِّش يُعتبر رمزًا دينيًّا لدى أولئك الممسوخين!!!
(4) عبيد الله بن زياد أحد أقطاب النِّظام الأمويّ… وهو الذي عبَّأ الجيوش لحرب الحسين… باع ضميره للحكم الأموي، وكان مصيره العار والنَّار.. وقد لاحقه جيش المختار بقيادة إبراهيم بن الأشتر، وفي معركةٍ حاسمةٍ قتل ابن زياد، وقتل معه عددٌ كبيرٌ ممَّن شاركوا في حرب الحسين، وحُمِل رأسَه ورؤوس قوّاده إلى المختار في الكوفة، وألقيت الرؤوس في القصر الذي كان مقرًا لجرائم ابن زياد… ومن الصدف أنَّ ابن زياد قُتل في يوم عاشوراء بعد ستِّ سنين من واقعة الطَّف… فهل يعتبر المعتبرون؟ وإذا كانت عبر التاريخ تغيب عن ذاكرة الحكَّام، ففي العصر الحاضر الكثير الكثير من العبر لمن أراد أن يعتبر… حكم الشَّاه وتجبَّر، وقهر، وأرهب، وأرعب، وطغى وأفسد… وماذا كانت نهايته؟ فرعون العصر صدام، دمّر البلاد والعباد، سفك الدِّماء، ملأ العراق بالمقابر الجماعيَّة، خاض حروبًا، أزهقت الأرواح، سام شعب العراق الذُّل والهوان والقهر والاستعباد… وأخيرًا دكتاتور تونس نموذجٌ حاضر، مارس الظُّلم، والاستبداد والفساد، وصادر الحرِّيات، وملأ السُّجون وعذَّب ونكَّل… وأخيرًا تسلَّل في ليلٍ يبحث عن ملجأ… هذه عبر الدُّنيا، وعقاب الآخرة أشدُّ وأقسى…
(5) ونقف مع المسؤول الأول عن مذبحة كربلاء ألا وهو «يزيد بن معاوية» رأس الشَّر والجريمة… لقد حاول الإعلام الأموي، وحاولت الأقلام المأجورة تبرءة يزيد بن معاوية من دم الحسين… قالوا: ما كان يزيد راضيًا بقتل الحسين.. استعجل الأمر عبيد الله بن زياد، فأمر عمر بن سعد أن ينفِّذ هذا الأمر.. هكذا دائمًا يُحاول المجرمون الكبار أن يتنصَّلوا من مسؤوليات جرائمهم، ويحمِّلون العملاء المستأجرين تلك المسؤوليَّات.. ويتَّجه فريقٌ آخر من ممسوخي الفكر والضمير إلى الاعتراف بأنَّ يزيد هو المسؤول الأول عن قتل الحسين، إلَّا أنَّهم يُبرِّؤون هذا العمل الشَّنيع، وهذه الجريمة النَّكراء، يقولون: إنِّما أقدم يزيد على قتل الحسين حفاظًا على وحدة المسلمين، ودرءًا للفتنة، استنادًا إلى أمر رسول الله صلَّى الله عليه وآله – كما يزعمون – حيث حذَّر من الخروج على الحاكم، فمن خرج يجب أن يُقتل كائنًا من كان… يعني وإن كان الحسين سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله.. قال القاضي أبو بكر بن العربي: إنَّ الحسين قُتل بشرع جدِّه.. هكذا دافعوا عن يزيد بن معاوية، وألَّفوا كُتبًا في فضائله، روى ابن تيمية في رسائله الكبرى أنَّ قومًا من الجمهور اعتقدوا أنَّ يزيد كان من أولياء الله، وأنَّ من توقَّف فيه، أوقفه الله على نار جهنَّم.. ولا يأخذكم العجب، فلا زال المدافعون عن يزيد موجودين حتى في هذا العصر…
قبل سنين وقع في يدي كتابٌ يحمل هذا العنوان: «دفاعٌ عن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية المفترَى عليه» وقرأت كذلك مقالًا في إحدى المجلَّات بعنوان: «يزيد بن معاوية في الميزان» يقول كاتب المقال: التاريخ يتَّهم يزيد بن معاوية بأنَّه يشرب الخمر، وأنَّه، وأنَّه… وهذه كلُّها افتراءاتٌ يزيد كان مواظبًا على الصَّلاة، متحرِّيًا للخير والسُّنة.. ويواصل الكاتب مبرِّرًا قتل الإمام الحسين: «وأمَّا قتل سيِّد شباب أهل الجنَّة الحسين بن عليّ، فإنَّ رسول الله [صلَّى الله عليه وآله] قال: ستكون بعدي هناة وهناة، فمن أراد أن يفرِّق هذه الأمَّة، فاقتلوه بالسَّيف كائنًا من كان».
هكذا مارس وضَّاعو الأحاديث المكذوبة هذا اللون من التزوير الفاضح من أجل إسباغ الشرعيَّة على أنظمة الحكم الجائرة، ومن أجل تبرير ما يصدر عن الحكَّام من ممارساتٍ ظالمة، ومنحرفة، وفاسقة، وفاسدة، في مقابل حفنةٍ من المال الحرام تشترى به هذه الضَّمائر الممسوخة، والتي باعت دينها بأثمانٍ بخسة، وأسعارٍ حقيرة، فلا مشكلةٍ لديها أن تكذب وتكذب وتكذب ما دام ذلك يُرضي الحكَّام والسَّلاطين، وما دام ذلك يجعلها مُقرَّبةً من بلاطات الحكم والسُّلطة…
تُحدِّثنا كتب التاريخ – وقد ذكرت هذا المثال في حديث الجمعة الماضية – أنَّ قاضي بغداد وهب بن وهب دخل على هارون الرَّشيد وهو يلعب بالحمام – يُطيِّر الحمام – فقال هارون لوهب: هل تحفظ في هذا شيئ عن رسول الله [صلّى الله عليه وآله]؟
فقال: نعم حدَّثني هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله كان يُطيِّر الحمام…
لاحظوا حتَّى لهو الحكَّام يجد له تبريرًا لدى هؤلاء المتزلِّفين الكذَّابين..
وتُحدِّثنا كتب التاريخ أنَّ أحد الوضَّاعين دخل على أحد الحكَّام العبَّاسيِّين وكان – هذا الحاكم – يرتدي قباء أسود ومنطقة وخنجر… فروى هذا الوضَّاع حديثًا مرفوعًا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله أنَّه قال: «أتاني جبرئيل، وعليه قباء أسود، ومنطقة، وخنجر، فقلت: ما هذا؟ فقال: يأتي زمانٌ يكون لباسهم كهذا..
قلت: يا جبرئيل من يكون رئيسهم؟
قال: من ولد العبَّاس…
وهذا الدَّور الذي مارسه الوضَّاعون المتزلِّفون للخلفاء والأمراء في ذلك الزَّمان، يُمارسه في عصرنا الحاضر عملاء الأنظمة الحاكمة من رجال إعلامٍ ورجال صحافة، وكتَّاب، ووعَّاظ، وخطباء… لا فرق بين هؤلاء وأولئك في الكذب والتزوير إرضاءً للحكَّام، ودفاعًا عن الأنظمة، وتشهيرًا بكلِّ المخالفين والمعارضين للسِّياسات الحاكمة، حتى وإن جارت، وظلمت وصادرت الكرامات والحريِّات، واستأثرت بالأموال، وجوَّعت الشُّعوب…
والمقولة هي المقولة: لا يجوز الخروج على الحاكم والأمير والسُّلطان…
فمن خرج فاقتلوه كائنًا من كان…
إذا كان الحسين بن عليّ سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وأحد سيِّدي شباب أهل الجنَّة، اعتبروه خارجًا على الحاكم فوجب قتله، فكيف بمن هو دون الحسين…؟
فمن عارض نظامًا فاسدًا، ومن انتقد حاكمًا مستبدًّا ومن طالب بالحقوق والحريَّات، ومن قال كلمة حقٍّ أمام سلطان جائر، ومن صرخ معبِّرًا عن جوعه، وآلامه وعذاباته، ومن… ومن… كلُّ هؤلاء متآمرون إرهابيُّون، مثيرو فتنٍ، أعداء أوطانٍ، مدمِّروا الأمن والأمان، عابثون مخرِّبون، وإن كانوا أطفالًا صغارًا بل وإن كانوا رُضَّعًا… فيجب أن يُعتقلوا، أن يُسجنوا أن يعذَّبوا، أن يُقتَلوا….
قالها مجرمو كربلاء من قبل: «اذبحوا حتى الأطفال ولا تُبقوا لهذا البيت باقية».
وإذا كان يزيد بن معاوية الذي قتل الحسين سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله..
واستباح مدينة رسول الله صلَّى الله عليه وآله ثلاثة أيامٍ حتى ولدت ألف امرأةٍ من أهل المدينة بعد واقعة الحرَّة من غير زوج..
وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها..
وفسق، وفجر، وشرب الخمور…
وكما قال بولس سلامه مخاطبًا المؤذِّن:
رافع الصوت داعيًا للفلاح اخفض الصَّوت في آذان الصباح
وترفَّق بصاحب العرش مشغولًا عن الله بالقيان الملاح
ألف الله أكبر لا تساوي بين كفَّي يزيد نهلة راح
إذا كان يزيد هذا رمزًا دينيًّا لا يجوز أن يُمَس
وإذا كان الحجَّاج مصَّاص الدّماء رمزًا دينيًّا لا يجوز أن يُمَس
وإذا كان الوليد الذي مزَّق المصحف بالسِّهام وهو يقول:
تهدِّدني بجبَّارٍ عنيد فها أنا ذاك جبَّارٌ عنيد
إذا ما جئت ربَّك يوم حشرٍ فقل يا ربِّ مزَّقني الوليد
إذا كان هذا رمزًا دينيًّا لا يجوز أن يُمَس
إذا كان هؤلاء رموزًا دينيّة لا يجوز أن تُمَس فعلى الدِّين السَّلام…
أيُّ دينٍ هذا الذي يُمثِّله هؤلاء الذين ما تركوا للدِّين حرمةً إلَّا وانتهكوها، وما تركوا للإسلام حكمًا إلَّا حرَّفوه وخالفوه…
ونِعمَ ما قال الشَّاعر الوردي ردًا على شوقي الذي ترنَّم بمجد الأمويِّين في قصيدته المعروفة (قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا) ردَّ عليه السيد الوردي مترنِّمًا بمجد الحسين قائلًا:
هذا هو المجد لا من قال قائلهم قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
إلى أن يقول:
بوركت شوقي هل أغراك بارقهم إذ رحت تبكي ودمع العين هتان
مررت بالمسجد المحزون تسأله هل في المُصلَّى أو المحراب مروان
أأنت أعمى فيا عوفيت من عمهٍ فكيف يوجد في المحراب شيطان
إلى أن يقول:
أنىّ لهم بأصول الدِّين معرفة هل يعرف الدِّين خمَّارٌ ودنَّان
الطَّاس والكأس والطُنبور دينهم فجدُّهم ناقر والابن سكران
فيا أمير القيافي إن أردت علا قم في ربا الطَّف وانشد رسم من بانوا
ودع أميَّة فالتاريخ يعرفهم ولا يغرنَّك سلطانٌ وتيجان
أيُّها الأحبَّة:
هنيئًا لعشَّاق الحسين، وهنيئًا للسَّائرين في درب الحسين…
وسوف نبقى عشَّاقًا للحسين، وسوف نبقى من السَّائرين في درب الحسين…
مهما أرجف المرجفون، وأرهص المرهصون، ورغم كلِّ العبث والإرهاب…
ورغم كلِّ القتل وسفك الدِّماء…
ورغم كلِّ العناء، ورغم كلِّ البلاء…
لن يتوقَّف الزَّحف إلى كربلاء…
حتى ترتفع الراية الكبرى (راية رسول الله صلَّى الله عليه وآله) على قبر الحسين، يرفعها المخلِّص الأكبر مهديُّ آل محمدٍ صلَّى الله عليه وآله…
حينما يظهر الإمام المهديُّ – أرواحنا فداه – تصبح النجف وكربلاء والكوفة والحيرة مدينةً واحدةً كبرى يتَّخذها الإمام المهديُّ عاصمةً له، وفي كلِّ ليلة جمعة يقصدها عشرات الملايين، ويبكون لأداء صلاة الجمعة خلف الإمام المهديّ في مسجد يُبنى في ظهر الغري له ألف باب…
نسأل الله أن يعجل فرج قائم آل محمدٍ صلَّى الله عليه وآله، وأن يكحل نواظرنا بطلعته الميمونة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين…