حديث الجمعة 240: ظاهرة التزوير(2) – قرار الوعّاظ – ما حدث في تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين.
التزوير التاريخيّ:
ونعني به (صوغ قضايا التاريخ بطريقةٍ مزوَّرة)
ومن ألوان هذا التزوير:
1) التلاعب بالحدث التاريخيّ:
نستعين بمثالٍ واحدٍ: (حديث الدار يوم الإنذار)..
لمّا نزل قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله عشيرته إلى دار عمّه أبي طالب، وعرض عليهم السّلام، وفي آخر حديثه قال صلّى الله عليه وآله: «يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابًا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم..؟
فأحجم القوم، غير عليّ – وكان أصغرهم – إذ قام وقال: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه…
فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله برقبته وقال: إنّ هذا أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك تسمع لابنك وتطيع».
محاولات التحريف لهذا الحدث:
1- محاولة ابن خلدون في تاريخه:
اختزال الحادثة في بضع كلماتٍ حيث قال: «فجمع بني عبد المطلب، فدعاهم إلى الإسلام، وسمعوا كلامه وافترقوا».
2- محاولة ابن كثير في البداية والنهاية:
تناول الحادثة إلى أن قال:
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا…».
وجاءت الفقرة الأخيرة – بعد أن قام علي –
فقال صلّى الله عليه وآله: «إنّ هذا أخي وكذا وكذا».
3- محاولة محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد):
– الطبعة الأولى 1354هـ: دوّن الحادثة بطريقةٍ صحيحة..
– الطبعات الأخرى: حذفت الفقرة التالية: «إنّ هذا أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم».
2) اختلاف حدثٍ تاريخي..
نستعين بمثالٍ واحد: (اتهام الإمام الحسن بكثرة الزواج والطلاق).
ولتأكيد هذه المقولة المزعومة اعتمدوا مجموعة أساليب:
1- الأحاديث الموضوعة:
• نسبوا إلى أمير المؤمنين (ع) قوله: «لا تُزوِّجوا ابني الحسن فإنّه مِطلاق».
2- الوقائع المختلقة:
• مرّ الإمام الحسن على لمّة من النساء فقال: أيكنّ ترغب أن تكون زوجة لابن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأجبن جميعًا: كلّنا مطلّقات ابن رسول الله (ص).
3- إحصائيات وهميّة: تزوّج الحسن 70 امرأة/ 90 امرأة/ 250 امرأة/ 300 امرأة.
نتابع الحديث – إن شاء الله تعالى-
قرار الوعّاظ:
ما صدر عن وزير العدل والشؤون الإسلاميّة والأوقاف بشأن الوعظ والإرشاد، وإن كان الظاهر منه أنّه معنيّ بأولئك الوّعاظ المنتسبين وظيفيًا إلى وزارة العدل والشؤون الإسلاميّة إلّا أنّ هذا لا يعفينا من التعقيب والتعليق…
أولًا: إنّ مهمّة الوعظ والإرشاد مهمّة شرعيّة، يفرضها خطاب الدين وأوامره، ويتحمّلها كلّ القادرين من أصحاب الكفاءات التبليغيّة، ولا يجوز لهم التفريط في أدائها، والقيام بمسؤوليّاتهم..
• قال الله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). التوبة: 122
• وقال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا). الأحزاب: 39)
• وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). البقرة: 159
• وفي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«أيّما رجلٌ آتاه الله علمًا فكتمه وهو يعلمه، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامةِ ملجمًا بلجامٍ من نار».
فالوعّاظ والمرشدون لا ينطلقون في ممارسة مسؤوليّاتهم في الوعظ والإرشاد من توجيهات وأوامر الأنظمة والحكوماتِ، وإنّما من توجيهاتِ الله تعالى وأوامره، وإنّ أيّ تفريطٍ أو تقصيرٍ في أداءِ هذه المسؤوليّات يُعرَّضهم إلى غضب الله عزّ وجلّ، وعقوباته يوم الحساب، فيجب على هؤلاء الوعّاظ أن يستشعروا رقابة الله تعالى، ويحذروا غضبه وعقوباته، لا أن تكون رقابة الحكومات، وعقوبة الأنظمة هي الهاجس الذي يلاحق ممارساتهم، والتزاماتهم، وأداءاتهم.. وإلّا كانوا من علماء السوء الذين يتّخذون العلم تجارةً يبيعونها من الحكّام والأمراء.
• في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
«ويلٌ لأمّتي من عُلماءِ السُوءِ، يتخذون هذا العلم تجارة يبيعونها من أمراء زمانهم ربحًا لأنفسهم، لا أربح اللهُ تجارتهم».
ثانيًا: قناعتنا الدينيّة أن لا تكون مهام الوعظ والإرشاد خاضعة لأوامر ونواهي المؤسّسات الرسميّة، خشية أن تكون محكومًة لمزاجات الأنظمة الحاكمة ورغباتها، وسياساتها، الأمر الذي يحوِّل الوّعاظ والمرشدين، وأئمّة المساجد إلى موظّفين خاضعين لإرادات السلطات الحاكمة، حرصًا على مصالحهم المعيشيّة، ورواتبهم الوظيفيّة، وحينما تتزاحم هذه المصالح والرواتب مع المسؤوليّات الشرعيّة، والواجبات الرساليّة، غالبًا ما تهيمن تلك المصالح، وربّما بذريعة الضّرورة التي تفرض على هؤلاء الوّعاظ والمرشدين والأئمّة أن يجاورا إراداتِ وأوامر وتوجيهاتِ الأنظمة الحاكمةِ، وبالتدريج يتحوَّلوا إلى وعّاظ أنظمةِ وبلاطات، همّهم الأول والأخير أن يرضى عنهم الحكّام والمسؤولون.
وكثيرًا ما يتحوَّلون إلى مدافعين أوفياء لأولياء نعمهم، وكثيرًا ما يصحِّحون ممارساتِ وسياساتِ الأنظمة، وإن كانت جائرة وظالمة وعابثة بمقدّرات الناس وحقوقهم ومصالحهم، والتاريخ حافل بالشواهد والأرقام، وشواهد الحاضر كثيرة وكثيرة…
ثالثًا: ونحن حينما نصرُّ على ضرورة أن يكون الأئمّة والوعّاظ مستقلِّين عن هيمنة المؤسّسات الرسميّة، لا ندعو إلى أن ينفلت الخطاب الدينيّ، وأن تنفلت ممارساتُ الوعّاظ والمرشدين، فالخطاب الدينيّ يجب أن يكون خاضعًا لتوجيهات الدين وإرشاداته، وأن تكون ممارسات الوّعاظ والمرشدين محكومة لضوابط الشّرع، فتوجيهات الدّين، وضوابط الشّرع لا تسمح أبدًا بالانفلات في الخطاب، ولا تسمح أبدًا أن تحوّل موقع الوعظ والتوجيه مصدرًا للفتن، والعداوات، والصراعات، والإضرار بمصالح البلاد والعباد، وإلّا وجب على النّاس أنفسهم أن لا يمكِّنوا واعظًا يضّر بأوضاع الأمّة، ومصالحها، ووحدتها، وبدينها ودنياها.
ما حدث في تونس:
ما حدث في تونس من ثورة شعبٍ عانى طويلًا من دكتاتورية حاكمٍ، مستبدٍ، وصبر طويلًا، إلّا أنّ هذا الصبرُ تفجَّر أخيرًا غضبًا، وعنفوانًا، وسخطًا، ورفضًا، وثورةً، ممّا دفع ذلك الحاكم أن يتسلَّل في الظّلام هاربًا، يبحث عن ملجأٍ خوفًا من قصاص الشعب المظلوم طيلة عقود.
هكذا الشعوب المضطّهدة، المظلومة، المسلوبة الحقوق، ربّما تصبر، تتحمّل، تصمت، إلّا أنّها لا تستسلم، لا تموت، فالظلم ربّما يطول ويطول، ويقسو، ويشتدّ، ويعنف، إلّا أنّه لا يدوم ولا بدّ له من نهاية، وربّما تُكلِّف هذه النهاية دماءً، وتضحياتٍ، وصداماتٍ، ومواجهاتٍ، غير أنّها لا بدّ منها..
شاه إيران الطاغوتُ المتجبِّرُ، وصدّام العراق فرعونُ هذا العصر، نموذجان ما غابا عن ذاكرة الحكّام، وجاء ديكتاتور تونس نموذجًا ثالثًا، ولن يكون النموذج الأخير، وتقدّمت في التاريخ نماذج ونماذج، وقد دوّن القرآن نهايات الطّغاة والفراعنة والجبابرة الذين عاشوا في الأرض فسادًا وظلمًا، وقتلًا..
• (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). القصص: 4
• (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي…). القصص: 38
• (فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). النازعات: 21 -24
وماذا كانت نهايته؟
• فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى). النازعات: 25 – 26
• (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) الأعراف: 137
والسؤال الكبير: هل يتّعظ الحكّامُ المتسلّطون الذين ساموا شعوبهم ظلمًا، وقهرًا، وجوعًا، وفقرا؟
ماذا تريد الشعوب؟
لقمة عيش، مأوى، كرامةً، عدلًا، أمنًا، استقرارًا، حرّية، حماية دينٍ وقيمٍ وأخلاق، وأعراض..
فهل تشكِّل هذه مطالبَ عسيرةً على الحكّام؟
وبيدهم من الثروات والإمكانات ما يوفّر كلّ الرّفاه والخير، والراحة والأمن، والأمان لشعوبهم..
لماذا يصّر الحكام أن يملكوا البر والبحر والسّماء، وشعوبهم غارقةٌ في الفقرِ، والبؤسِ، والعذاب، والعناء؟
ما حدث في تونس، مرشّح أن يتكرّر، ما دام هناك ظلم، وقهر، واستبداد، وجوع، وعراء، وفقر..
وما دامت هناك شعوب حيّة، ترفض الذّل والهوان..
ما حدث في تونس يجب أن يدفع الأنظمة الحاكمة أن تُعيد قراءة أوضاعها، وأن تراجع كلّ حساباتها السّياسية والأمنيّة، قبل فوات الأوان.