حديث الجمعة237: ظاهرة البكاء في حياة الإمام زين العابدين(ع) – فقدت البحرين عالمًا مجاهدًا – رمز كبير يجب أن نحافظ عليه
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيّد الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى آله الهداة الميامين…
ظاهرة البكاء في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام:
قبل أن نُحاول أن نعطي تفسيرًا لهذه الظاهرة، نؤكّد أنّ الإمام زين العابدين بكى أباه الإمام الحسين عليه السلام بكاءً شديدًا، وكيف لا يبكي الإمام زين العابدين وقد شاهد أباه الحسين يوم عاشوراء فريدًا وحيدًا، قد ازدحمت أمامه جيوش الضّلال وهو ينادي «أما من مغيثٍ يُغيثنا؟ أما من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله؟».
وكيف لا يبكي وقد شاهد أخاه عليًا الأكبر وقد ازدحمت السيوف والسهام والرماح على جسده، فما أبقت منه موضعًا إلّا مزّقته.
وكيف لا يبكي وقد شاهد ابن عمّه القاسم، غلامًا في عمر الزّهور، مشى إلى ميدان القتال راجلًا، تقدّم إليه لئيمٌ فاجر، وهوى بسيفه على رأس الغلام، سقط على الأرض وهو يفحص برجليه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة؟
وكيف لا يبكي وقد شاهد عمّه العباس مقطوع اليدين، والسهم نابتٌ في العين، وقد فلق هامته عمودٌ من حديد؟
وكيف لا يبكي وقد شاهد عمّته زينب ابنة أمير المؤمنين تحمل طفلًا رضيعًا، تلظّى قلبه ظمأ، جفّ لسانه، جاءت به إلى أخيها الحسين، اطلب لهذا الرّضيع قطرة ماء.. احتضن الحسين طفله، ضمّه إلى صدره، طبع على خدّه قبلةً حارّة، ممزوجةً بالدّموع…
أسرع نحو القوم: ارحموا هذا الطفل الرّضيع…
اختلف القوم…
فقال قائل: اسقوا الطفل ماء، فما ذنب الصغار..
وقال قائل: لا تُبقوا لأحدٍ من هذا البيت باقية..
وقطع حرملة نزاع القوم، فأرسل سهمًا ذبح الطفل الرّضيع من الوريد إلى الوريد وهو في حجر أبيه..
تلقى الحسين الدّم بكفه ورمى به نحو السّماء…
وكيف لا يبكي الإمام زين العابدين وهو يرقب أباه الحسين وقد افترق القوم عليه: فرقة بالسيوف، وفرقة بالرّماح، وفرقة بالسّهام، وفرقة بالحجارة… والحسين وحيدٌ فريدٌ يُكثر من قول (لا حول ولا قوة إلّا بالله العلّي العظيم) حتى أثقلته الجراح، وأرهقه نزف الدّماء…
كيف لا يبكي وقد شاهد حجرًا أصاب جبهة الحسين؟..
كيف لا يبكي وقد شاهد أباه الحسين يرفع ثوبه ليمسح الدّم عن وجهه وعينيه، فجاءه سهمٌ مثلثٌ واخترق قلبه المقدّس؟..
كيف لا يبكي وقد شاهد المولى الحسين يفترش التراب وقد تزاحمت عليه الضربات والطعنات، حتى غشي على الإمام الحسين..؟
كيف لا يبكي وقد شاهد شمرًا جاثمًا على صدر الحسين.. قابضًا على الشيبة الطاهرة، يحزّ نحر الحسين، حتى فصل الرأس الشريف؟
كيف لا يبكي وقد شاهد الأيدي الآثمة الحاقدة تمتدّ لتسلب الجسد الطريح؟
كيف لا يبكي وقد شاهد القوم اللئام، قد هجموا على خيام النبوة.. وأضرموا النّار في أخبية الرسالة، ففررن النساء والأطفال، وامتدت الأيدي تنهب وتسلب… وتلّوت السهام تلاحق الصبايا والأيتام..
وكيف لا يبكي، ولا يبكي، ولا يبكي..
بعد هذا العرض الحزين، نحاول أن نفهم ظاهرة البكاء.. هناك عدّة مواقف تعاملت مع هذه الظاهرة:
الموقف الأول:
اتجه هذا الموقف إلى نفي هذه الظاهرة في حياة الإمام زين العابدين، وأنّها لا تنسجم مع موقع الإمام، وصبره ومسؤوليّاته الكبيرة..
نلاحظ على هذا الموقف:
أولًا: أنّ الواقع التاريخي الموثوق، يؤكّد ظاهرة البكاء في حياة الإمام زين العابدين.
ثانيًا: إنّ الروايات المعتمدة تؤكّد ذلك.
ثالثًا: مع التحفّظ حول بعض المرويّات التي تحاول أن تصوّر حياة الإمام بأنّها مستغرقة في البكاء.
الموقف الثاني:
السّرد التاريخي للظاهرة، من دون تحديدٍ لمضمونها وأهدافها ودلالاتها… وربّما اعتمد هذا الموقف مرويّات موضوعيّة.
هذا الموقف يترك المجال للشّك، وإثارة التساؤلات وربّما دفع في اتجاه الإنكار..
الموقف الثالث:
يعترف بوجود الظاهرة، إلّا أنّه يعتبرها ظاهرة سلبيّة في حياة الإمام زين العابدين (ع).
ونلاحظ على هذا الموقف:
أولًا: أنّه ينطلق من رؤيةٍ تتعامل مع الأئمّة (ع) من أهل البيت بأنّهم غير معصومين، ممّا يجعلهم يُمارسون بعض السّلوكيات الخاطئة.. وهذه الرؤية نرفضها، كوننا نؤمن بعصمة الأئمّة (ع).
ثانيًا: هذا الموقف لم يستوعب الدلالات الكبيرة لظاهرة البكاء على الإمام الحسين (ع)..
الموقف الرابع:
تفسير الظاهرة على أنّها مجرّد انفعالٍ عاطفيٍّ فرضته مأساة كربلاء…
ونلاحظ على هذا الموقف:
أولًا: إنّنا لا نشكّ أنّ مأساة كربلاء بكلّ فجائعها ومشاهدها المؤلمة، تفرض هذا اللون من الانفعال العاطفي والوجداني، ولا يمكن لأيّ إنسانٍ نقيّ العاطفة، سليم الوجدان إلّا أن يبكي الحسين، إلّا أولئك الذين تحجّرت قلوبهم، وتلّوثت عواطفهم، ومات وجدانهم.
ثانيًا: إنّ الإمام زين العابدين، هو الإمام المعصوم لا يمكن أن يقف عند حدود التأثّر الانفعالي، دون أن يوظّف ذلك في أهداف الرسالة، وأهداف الثورة الحسينيّة.
ثالثًا: الواقع التاريخي – كما سنرى- برهن أنّ الإمام زين العابدين استطاع أن يوظّف الجانب المأساوي في فاجعة كربلاء توظيفًا رساليًا كبيرًا..
الموقف الخامس:
موقفنا تجاه هذه الظاهرة..
ويتمثّل هذا الموقف في:
1- التسليم بصحّة ظاهرة البكاء في حياة الإمام زين العابدين.
2- التحفّظ على بعض المرويّات التي تحاول أنّ تصوّر حياة الإمام بأنّها مستغرقة في البكاء، في الوقت الذي تقرأ أنّ الإمام (ع) مارس مهامًا كبيرة جدًا علميّة، وروحيّة، واجتماعيّة، وجهاديّة، إلى جانب ممارساته العباديّة المعروفة.
3- البكاء في حياة الإمام زين العابدين يحمل دلالاتٍ رساليّةٍ كبيرة، وليس مجرّد تعبيرًا عاطفيًا بحتًا، رغم ما تفرضه مأساة كربلاء من استثارة للحالة العاطفيّة الوجدانيّة الإنسانيّة.
أمّا ما هي هذه الدّلالات الرساليّة، فيأتي الحديث عنها – إن شاء الله – في الأسبوع القادم.
فقدت البحرين عالمًا مجاهدًا:
بكلّ أسى وحزنٍ فقدت البحرين عالمًا مجاهدًا ألا هو فضيلة الشيخ محمد على العكري تغمّده الله بوافر الرّحمة والرّضوان.. وممّا يميّز شخصيّة هذا الرجل المجاهد:
1- غيرته الكبيرة على الدّين وقيم الدين، وإصراره الصّلب على مواجهة المنكرات والانحرافات، وجرءته الواضحة في الدّفاع عن الإسلام ومبادئه وتعاليمه، كان قويًّا في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يُجامل، ولا يُساوم، ولا يُداهن في قول كلمة الحقّ الذي يعتقده ويؤمن بالله.
2- حركيّته المتميّزة، ونشاطه الملحوظ، لا يسمح لنفسه أن تستريح إلّا قليلًا، إلى أن أقعده المرض في سنواته الأخيرة، مَنْ يعرفه يعلم كم كان دائم الحركة والنشاط مبلّغًا، وداعيًا، وآمرًا بالمعروف، وناهيًا عن المنكر، وناشرًا لثقافة الدّين من خلال الكلمة المنطوقة، والمكتوبة، ومن خلال الكتاب، والكاسيت، وكلّ الوسائل الميسورة في ذلك الوقت.. كان خطيب منبر، وإمام مسجد، ومتحدّث في كلّ المحافل، بل حتى في الشوارع، والأسواق، والتجمّعات.. كان مبلغًا دوّارًا بعلمه وأفكاره.
3- ربّما كان النّاس لا يستسيغون أسلوبه وطريقته، وصراحته، وجرءته، إلّا أنّه كان لا يعبأ باستهزاء المستهزئين، وسخرية السّاخرين، ونقد الناقدين، حيث يحمل كلّ القناعة بمنهجه في الدّعوة والتبليغ، بأسلوبه في الوعظ والإرشاد.
ربّما كانت هناك بعض ملاحظاتٍ على منهجه وأسلوبه وطريقته، إلّا أنّنا لا نملك إلّا أن نعترف بتأثيره الكبير حيث كان مخلصًا لله تعالى كلّ الإخلاص، وصادقًا كلّ الصدق، ومتفانيًا كلّ التفاني، فما كان يبحث عن شهرةٍ وجاهٍ، وموقعٍ، ومالٍ، وثروةٍ، همّه أن يعمل لله، للدّين، للإسلام، وأن يحارب الفساد، والمنكر، والانحراف.
4- كان له دورٌ اجتماعيّ واضح، فيما يقدّمه من خدماتٍ، ومساعداتٍ، وتواصلٍ دائمٍ مع النّاس في الأفراح والأتراح، وكان يحارب العزوبة، ويدعو الشباب والشابات إلى الزواج، وقد فتح مكتبًا لهذا الشّأن، لاعتقاده بأنّ تحصين الشباب بالزّواج من أهمّ الوسائل لمحاربة الفساد والانحراف، وحماية القيم والأخلاق انطلاقًا من الحديث النبويّ المشهور«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنّه أغضّ للطرف وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء».
وانطلاقًا من الحديث المعروف: «من تزوّج فقد أحرز نصف دينه، فليتّق الله في النصف الآخر».
لذلك كان من هموم الشيخ العكري تيسير الزواج للعزابّ والعازبات حماية للمجتمع من أسباب الفساد والعبث وبالقيم والأخلاق.
5- كان له دورٌ سياسيّ بارز في الدّفاع عن قضايا الشعب، وحقوق المحرومين، ومحاربة التمييز بكلّ أشكاله، والمطالبة بإصلاح الأوضاع، وكان جريئًا في مواقفه، وقد كلّفه ذلك ثمنًا كبيرًا، حيث تعرّض للمضايقات، والاعتقالات، ودخل السّجن لعدّة سنوات، وكان يُمارس دوره التبليغي والجهادي والسّياسي حتّى داخل السجن.
نسأل الله للفقيد الرّحمة والمغفرة، وأن يحشره الله مع الأولياء والصالحين، والعاملين والمجاهدين.
رمز كبير يجب أن نحافظ عليه:
إنّ سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم رمزٌ كبيرٌ يجب أن نحافظ عليه، وبمقدار ما نحافظ على هذا الرّمز الدينيّ الكبير نُعطي لوجودنا قوةً، وصلابةً، وتمسّكًا، وحضورًا دينيًا، وثقافيًا، واجتماعيًا، وسياسيًا، ومقدار ما يضعف هذا الرّمز يهزّ وجودنا، وحضورنا، وتمسّكنا.
وأنا حينما أتحدّث عن سماحة الشيخ لا ألغي دور الرّموز الأخرى، وإنّما أتّخذ من هذا الرّمز مثلًا، ونموذجًا، يُعبِّر عن كلّ الرّموز الأصيلة، والمخلصة، والصادقة، والمجاهدة في هذا البلد.
ومن المؤسف أن نجد محاولاتٍ تعمل – عن قصدٍ أو غير قصدٍ – إضعاف مكانة هذا الرّمز الكبير، وأمثاله من الرّموز الدينيّة الكبيرة، ولا أريد هنا أن أفرض حالةً من العصمة والقداسة لهذا الرّمز أو لغيره من رموز الدّين والمذهب، فالعصمة والقداسة المطلقة لا تكون إلّا للأنبياء والأوصياء.
إلّا أنّ ممارسة ما يؤدّي إلى إسقاط أو إضعاف هذا الرّمز الدينيّ المتصدّي، والذي له تاريخٌ من الجهاد والعطاء، والعمل، والتضحية، والإخلاص للدّين والمذهب، وقد صنع أجيالًا إيمانيّة واعية، وعاملة، وصلبة، وما هذا الحراك الدينيّ المتحفّز والناشط إلّا بعض غرسه وجهاده وعطائه، ومعه إخوةٌ شاركوه العمل والعطاء منذ بداية السّتينات وحتى هذا العصر.
أقول إنّ أيّ ممارسةٍ تؤدّي إلى إضعاف هذه الرّموز في وعي الأجيال، وفي وجدانهم، وفي حراكهم أمرٌ له خطورته الكبيرة على مسيرة هذه الأجيال، وعلى حصانة المسيرة الإيمانيّة، وهذا ما يفرض أن نغّذي أجيالنا حبًا، وولاءً، واحترامًا، للرّموز والقيادات والمرجعيّات الروحيّة والدينيّة.
هذه الكلام مجرّد مدخلٍ أردت من خلاله أن أمهّد لحديث يتناول بعض الإثارات المتحرّكة في السّاحة والتي حاولت أن تنال من سماحة آية الله الشيخ عيسى، محملةً بذرائع النّقد والمحاسبة، وتصحيح أوضاع القيادة الدينيّة، ولا تعنيني هنا الإثارات المنفلتة، والمجهولة الهويّة، والتي تزدحم بها المواقع الإلكترونيّة، وإنّما تعنيني الكلمات الواضحة الهويّة والمصدر، ولنا حولها ملاحظاتٌ ومؤاخذات.. وسوف أتناول ذلك في حديثي القادم، ولا نريد من هذا التصدّي أن نزجّ السّاحة في سجالاتٍ تُشغلنا جميعًا عن الأهداف الكبرى، والهموم المشتركة، إلّا أنّ بعض الأفكار المطروحة لا يصحّ السكوت عنها، لما يترتّب على ذلك من أضرارٍ وأخطار، مع ما نحمله من إيمانٍ بحرّية النّقد والحوار وِفق الضّوابط والأصول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..