حديث الجمعة186: وقفةٌ مع قرار وزير العدل والشئون الإسلاميّة بشأن ضوابط الخطاب الدّيني
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين وأفضل الصّلوات على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطّاهرين..
أتناول في حديث الليلة العنوان التّالي:
وقفةٌ مع قرار وزير العدل والشئون الإسلاميّة بشأن ضوابط الخطاب الدّيني:
لا تهدف هذه الوقفة المناقشة لما ورد في هذا القرار من ضوابط، فذلك متروك لحديث آخر وإنّما تهدف إلى تحديد رؤيةٍ عامةٍ لهذا النّمط من القرارات والتي تفرض مزيدًا من الهيمنة على المؤسسات الدينيّة..
أصدر وزير العدل والشئون الإسلاميّة قرارًا بشأن ضوابط وأدب الخطاب الدّيني، والتي حدّدها القرار في مجموعة نقاط…..
لا ننكر أنّ للخطاب الدّيني ضوابط وآدابًا حدّدتها الشريعة الإسلاميّة، وذكرها أعلام الأمة في كتبهم ومؤلفاتهم.
ولا ننكر ضرورة أن يلتزم الخطاب الدّيني بهذه الضّوابط والآداب….
ولكنّ التساؤل المطروح هنا – تعقيبًا على القرار الصّادر-:
هل أنّ وزارة العدل هي المرجعيّة لتحديد هذه الضّوابط؟
الحديث هنا عن ضوابط وآداب شرعيّة طبعًا فلا إشكال أنّها تستقى من الكتاب والسنّة، ولا إشكال أنّ الفقهاء هم الذين يستنبطونها وليس الوزارات ومؤسسات الدّولة.
أمّا إذا كان الحديث عن «إجراءات رسميّة» تحرّكت بدوافع «تنظيميّة» أو بدوافع «سياسيّة» فالكلام يأخذ مسارًا آخر، فالخطاب الدّيني ليس خاضعًا إداريًا لأجهزة الدّولة فأصحاب الخطاب الدّيني ليسوا موظّفين لدى الدّولة إذا استثنينا المنتمين إلى «كادر الأئمة» حتى تصدر لهم الأوامر من مؤسسات الدّولة..
ثمَّ إنّ الدوافع السّياسيّة للسّلطة لا يمكن أن تُفرَض على الخطاب الدّيني…. وإنّه لتناقضٌ واضحٌ أن يطالب هذا القرار بعدم تسييس المنابر الدّينيّة، وفي الوقت ذاته يحاول هذا القرار – المحكوم لدوافع سياسيّة – أن يتدخّل في شأن الخطاب الدّينيّ….
قد يقال إنّ هذا التدخّل الرسميّ من أجل حماية المنابر الدّينيّة حتى لا تنحرف عن أهدافها التي رسمها الدّين….
نقول: ليس القرار الرسميّ هو الذي يحمي المنابر الدّينيّة لكي لا تنحرف عن أهدافها الشرعيّة، فكثيرًا ما تكون الهيمنة الرسميّة هي التي تنحرف بالخطابات الدينيّة عن أهدافها كما حدّدها الله سبحانه…..
فالتاريخ حافلٌ، والحاضر شاهدٌ على حجم «استغلال الخطاب الدّينيّ» في خدمة أهداف الأنظمة الحاكمة، ولسنا في حاجة إلى طرح أمثلة وشواهد….
إذًا التدخّل الرسميّ هو الذي ينحرف – غالبًا – بالخطابات الدينيّة عن مساراتها الأصيلة، وعن أهدافها المرسومة من قبل الدّين..
الذي يحمي الخطاب الدّينيّ من أن ينحرف عن مساراته وأهدافه الحقيقيّة هو:
(1) الوعي الذي يحمله أصحاب الخطاب الدّينيّ، فمن خلال هذا الوعي تتحدّد حركة الخطاب، ومضامين الخطاب، واستقامة الخطاب.. وحينما يغيب الوعي الأصيل ينحرف المسار، وترتبك المفاهيم، وتتيه الرؤى…
(2) التقوى والورع والخوف من الله سبحانه وتعالى، وهذا الشرط هو الضّمانة الأساس في تحصين الخطاب الدّينيّ من أن ينزلق في المتاهات المنحرفة، والمسارات الزّائفة، وهذا الشرط هو الذي يحمي الخطاب الدّينيّ في مواجهة كلّ حالات السقوط، وفي مواجهة كلّ أشكال المساومة على حساب المبادئ والأهداف… حينما يضعف في داخل الإنسان عنصر التقوى والورع والخشية من الله، فمن السّهل جدًا على هذا الإنسان أن يصبح أداةً طيّعةً في قبضة الأهواء والشّهوات، وفي قبضة المساومات والإغراءات والضغوطات، أكان عالم دين، أو خطيب منبر، أو رجل صحافة، أو صاحب قلم، أو في أيّ موقع….
(3) يضاف إلى ذلك وعي الأمة والتزامها وصلابتها، فحينما يكون لدى النّاس هذه المكوّنات الإيمانيّة فلن تسمح لخطاب المنبر الدّينيّ أن ينحرف، أن يعبث بأهداف الدّين، أن يتاجر بقيم الرّسالة، أن يستسلم لرغبات الحكّام والسّلاطين… فكم من أئمة مساجد، وخطباء منابر أرادوا أن يوظّفوا خطاب الدّين توظيفًا منحرفًا، فتصدى لهم النّاس الواعون المخلصون وأجبروهم على أن يستقيموا أو أن يتخلّوا عن هذه المواقع الدّينيّة وإلّا فمصيرهم النّبذ والمقاطعة والهجران.
وإذا حاولت السّلطة أن تبرّر هذا التدخّل وفرض الضّوابط على الخطاب الدّينيّ بكون ذلك حماية لأمن البلد واستقراره، فغياب هذه الرقابة شجّع البعض أن يتمادى في خلق أجواء من التوتّر والاضطراب، خاصّة وأنّ الخطب الدّينيّة لها تأثيراتها الكبيرة على مشاعر النّاس وأحاسيسهم… فكم من خطابٍ دينيّ أجّج صراعات وفتنًا طائفيّة، وتحشيداتٍ مذهبيّة، وكم من خطابٍ دينيّ خلق أوضاعًا أمنيّة قلقة، وأثار أجواء متوتّرة، ألا يشكّل هذا ضرورة لتدخّل السّلطة لكي تفرض ضوابط على المنابر الدينيّة، وخطب المساجد حتى لا يسيئ البعض استخدام هذه المواقع فيما فيه إضرار بأمن البلد، واستقراره ووحدة أبنائه…..
هذا الكلام يبدو وجيهًا جدًا، فلا أحد يسمح بالإساءة إلى أمن البلد واستقراره ولا أحد يسمح بالإساءة إلى وحدة الشعب وتلاحم أبنائه….. فالخطاب المحرّض على الفوضى والعبث بأمن الوطن خطابٌ مرفوض، والخطاب المحشّد الذي يزرع الفتن الطائفيّة خطابٌ مقيت….
ولكن ما الأسلوب الأسلم لإيقاف هذا النّمط من الخطابات؟
هل أنّ إصدار قرارات رسميّة تفرض مزيدًا من الهيمنة والضغط على المساجد والمراكز الدينيّة هو الأسلوب الأسلم والأقدر على تحقيق هذا الهدف؟
لا نعتقد ذلك، بل إنّ إجراءات من هذا النوع تخلق ردود فعلٍ تزيد الأمور تعقيدًا….
الأسلوب الأسلم هو العمل الجاد على إلغاء كلّ أسباب التوتّر الأمنيّ، وإلغاء كلّ العوامل التي تحرّك الأجواء الطائفيّة…..
لو أصدرت السّلطة ألف قرارٍ وقرار ووضعت ألف ضابطٍ وضابطٍ لإيقاف الخطاب الناقم والمتشدّد، فإنّ ذلك لن يجدي ما دامت عوامل التأزّم الأمنيّ تتحرّك على الأرض بقوّة…
لنفرض أنّ السّلطة حاصرت الخطاب في المساجد والحسينيّات والمنتديات ووسائل الإعلام الخاضعة لرقابة السّلطة، ولنفرض أن السّلطة أغلقت المواقع الإلكترونيّة، فهناك الوسائل الكثيرة والمتعدّدة للتعبير عن الرّأي والتي لا تملك الأنظمة السّياسيّة أيّ قدرةٍ على إيقافها أو محاصرتها….
ولو أصدرت السّلطة ألف قرارٍ وقرار في مواجهة الخطاب الطّائفي، فإنّ ذلك لن يجدي ما دامت أسباب التأزيم الطّائفي تتحرّك على الأرض بقوّة…
لكي توفّر السّلطة على نفسها مؤنة القرارات
مطلوبٌ منها أن تعالج الأسباب والعوامل وعندها لن تسمع خطابًا متشنّجًا سياسيًّا أو أمنيًّا أو طائفيًّا……
هذا كلّه إذا صحّ تصنيف هذا الخطاب أو ذاك ضمن الخطابات الطائفيّة أو الخطابات المسيئة لأمن البلد واستقراره…..
أمّا إذا تحفّظنا على المعايير المعتمدة لدى السّلطة في هذا التصنيف، فهنا نواجه إشكاليّة أخرى، فما يسمى عند السّلطة خطابًا مضرًا بالأمن هو بحسب الواقع ليس كذلك، وما يسمى عند السّلطة خطابًا طائفيًّا هو بحسب الواقع ليس كذلك….
فمن الذي يحدّد معايير التصنيف؟
وحينما تتباين المعايير، كيف تعالج الأمور؟
لا تعالج الأمور بالقرارات في قضايا خطيرة وحسّاسة على هذا المستوى…
هنا تكون الحاجة ملحة إلى فتح أبواب الحوار لمعالجة الأمور، بدلًا من التفرّد باتخاذ القرارات، قبل مدةٍ صدر عن وزير العدل قرار بشأن المساجد والحسينيّات، وولّد ردود فعلٍ غاضبة، ولا زالت ردود الفعل الرافضة مستمرّة ولا زال الوضع مرشّحًا لتداعياتٍ خطيرة…
لماذا كلّ هذا؟
إنّه نتيجة التفرّد في اتخاذ قرارات في قضايا لها حساسّيتها المذهبيّة…..
كان من المقرّر أن يتمّ لقاء مع كبار العلماء وحدّد موعد اللقاء، وفي اللحظة الأخيرة يأتي الاعتذار من الوزير؟
بهذه الطريقة تعالج الأزمات؟
لماذا هذا الإصرار على رفض اللقاء والتحاور..
ونفاجأ في هذه الأيام بقرار آخر يصدر عن وزير العدل والشئون الإسلاميّة بشأن ضوابط الخطاب الدّينيّ……
وهكذا تزدحم السّاحة بقرارات، وتزدحم السّاحة بردود فعلٍ غاضبة وبتداعياتٍ صعبة… في وقت أصبحت أوضاع البلد مرهقة بأزمات وتوترات واحتقانات أمنيّة وسياسيّة…
أما آن الوقت إلى تصحيح هذا المسار؟
أما آن الوقت إلى أن تستجيب السّلطة إلى نداءات الحوار؟
إنّ المعالجات الأمنيّة المتشدّدة لن تحسم الأمور، ولن تصلح الأوضاع، ولن تخفّف الأزمات…..
ليست مخلصة لهذا الوطن تلك الأصوات التي تحرّض السّلطة على الاستمرار في هذا النّهج.
من المؤسف جدًا أن تصرّ بعض الخطابات على إنتاج الحقد الرّسمي ضدّ طائفةٍ كبيرةٍ من أبناء هذا الوطن بذرائع واهمة ومختلقة…
ومن المؤسف أن تصغي السّلطة إلى تلك الخطابات المسكونة بالحقد والطائفيّة، والتي ما فتأت تمارس السّب والقذف والإساءة دون أيّ رادع، فهل تبقى مصداقيّة لما يسمّونه بضوابط تستهدف طائفة معيّنة، وتستهدف خطابها فقط، لا ننطلق من ظنٍّ سيئ وإنّما هو الواقع يشهد بذلك…
وهذه واحدة من الإشكالات التي تجعلنا نشكّك في دوافع هذه المشروعات وفي أهدافها، وحتى لو سلّمنا بسلامة بعض المشروعات، فإنّ تطبيقاتها المحكومة للمزاجات الطائفيّة تجعلنا نعيش الرّيبة والشّك تجاه هذه المشروعات..
لسنا أعداء لمشروعات السّلطة، غير أنّ الأمور تتحرك بطريقة مقلقة جدًا، ونكرّر أنّ الأوضاع في حاجةٍ إلى لقاءاتٍ وحواراتٍ جادة وصادقة، وأخشى ما نخشاه أن يتشكّل اليأس في داخل النفوس ويموت الأمل، وكم هو خطير أن يصل الأمر إلى هذا المستوى…..
وما دامت بقايا الأمل لا زالت موجودة، فيجب أن تستجيب السّلطة إلى دعوات الحوار وإلى مبادرات الخيّرين قبل فوات الأوان..
وأخيرًا أقول:
إنّ ما جاء في المذكّرة المرفقة بقرار الخطاب الدّينيّ من تعداد مجموعة من الضّوابط والآداب، في حاجة إلى مناقشة ودراسة، ولست هنا في صدد ذلك حيث ناقشنا أساس القرار، أمّا هذه الضّوابط والآداب المنصوص عليها، فلنا حول بعضها ملاحظات وإشكالات، أترك ذكرها إلى وقت آخر…. وحينما أقول «بعضها» فهذا يعني أنّ البعض الآخر لا غبار عليه من حيث المبدأ، إلّا أنّنا نرفض هذا النّمط من الآليات في التعاطي مع خطاب المنابر الدّينيّة، وإذا لم تصحّح هذه الآليات فسوف تكون النتيجة مزيدًا من التأزّم والتوتّر، ومزيدًا من التداعيات المضرّة بأوضاع البلد..
إننا نؤكد وبكلّ إخلاصٍ على ضرورة أن يحافظ الخطاب الدّينيّ على أهدافه الحقيقيّة، وعلى لغته النظيفة، وعلى أدواته المشروعة، كما نرفض وبشدّة أن يتحوّل هذا الخطاب مصدر إضرارٍ بأمن البلد واستقراره ومصدر تأجيجٍ طائفيّ وفتن وصراعات….
إلّا أنّ حماية هذا الخطاب ليس باعتماد هذا النّمط من الآليّات والقرارات الرامية إلى فرض الهيمنة والسّيطرة، ومصادرة الحريّات…
دعونا نتحاور حول «آلياتٍ» أكثر قدرة على تحصين الخطاب الدّينيّ، وحماية المنابر الدّينيّة ليمارس هذا الخطاب مسؤوليّاته كما أرادها الله سبحانه، وبما يحقّق كلّ الخير والعطاء للوطن والمواطنين..
وآخر دعوانا أن الحمد للهِ ربِّ العالمين