حديث الجمعة77:التواصل الديني والروحي لا يتناقض مع الانتماء الوطني
التواصل الديني والروحي لا يتناقض مع الانتماء الوطني
قال الله تعالى: “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. ..””30: فصلت”.
لا يهدف الحديث هنا إلى دراسة هذا النص القرآني في دلالاته ومعطياته وإنما يهدف إلى استيحاء عنوان يحاول ان يتناوله من خلال أجواء هذه الآية المباركة… العنوان هو: “الشعار الإيماني في مكوناته وحركته”.
ومن أجل معالجة هذا العنوان أضع بين يدي الحديث مجموعة نقاط:
النقطة الأولى: ضرورة أن نملك وعي الشعار الإيماني. حينما نطلق شعارا لنؤكد من خلاله انتماءنا الإيماني، يجب أن نتوافر على وعي وبصيرة بهذا الشعار، أهميته، قيمته، دلالاته، مضامينه، معطياته. فما لم نتوافر على وعي الشعار، وثقافة الشعار ستتجمد أهداف الشعار، وربما تنحرف الأهداف فـ “العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده كثرة السير الا بعدا”.
عندما يغيب الوعي الاصيل، والثقافة الأصيلة ينتشر الوعي المزيف، والثقافة المزيفة فيصبح الناس لا يفرقون بين الأبيض والأسود ولا يفرقون بين الحق والباطل، ولا يفرقون بين علي ومعاوية ولا بين الحسين ويزيد.
كان الناس في عصر معاوية يقولون “ربنا الله” ويصلون ويصومون ويحجون ولكنهم حينما غابت البصيرة خرجوا الى قتال علي بن أبي طالب الذي قال عنه رسول الله “ص”: “علي مع الحق والحق مع علي”. كان الناس في عصر يزيد يقولون “ربنا الله” ويصلون ويصومون ويحجون ولكنهم حينما غابت البصيرة خرجوا الى حرب الحسين بن علي الذي قال فيه رسول الله “ص”: “حسين مني وأنا من حسين”.
وهكذا اذا غابت البصيرة الإيمانية ينقاد الناس الى كل ناعق، فيقتلون الانبياء والأولياء والصالحين ويسفكون الدماء البريئة وينتهكون الحرمات، ويعبثون بالقيم وهم يحملون شعارات الدين، ان عبدالرحمن بن ملجم الخارجي حين أقدم على جريمته النكراء وهوى بسيفه المشؤوم على رأس أمير المؤمنين في مسجد الكوفة كان صوته يرتفع بالتكبير وبشعار “لا حكم الا لله”. ان سبعين ألف منبر في الشام والكوفة والبصرة ومكة والمدينة وغيرها من مدن الاسلام ارتفع من فوقها اللعن لعلي بن أبي طالب تقربا لله تعالى وطمعا في ثوابه وكان بعضهم يلعن عليا في الغداة “70 مرة” وفي العشي “70 مرة”. قال يحيى بن صالح: “صليت مع حريز الفجر سبع سنين فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن عليا سبعين مرة”!
ان الاعلام المضاد زيف وعي الناس ومارس دور التشويه لعلي وللأئمة من أهل البيت، انها سياسة اسقاط “الرموز الايمانية الأصيلة” هذه السياسة تعتمدها الأنظمة الظالمة في كل عصر، وتعتمدها القوى المضادة للدين في كل زمان، من أجل محاصرة رموز الوعي والايمان، وعزلها عن قواعدها الشعبية، ان هذه الاساليب والألاعيب واضحة ومكشوفة ولا يمكن ان تهز ثقة الجماهير المؤمنة بقياداتها الربانية.
ان الاعلام الأموي استطاع في مرحلة من التاريخ ان يمسخ وعي أعداد كبيرة من الناس وخصوصا في بلاد الشام، فتحول هؤلاء الى ألسن تشتم عليا، وتكفر عليا، وتحارب عليا.. وان كان علي بن أبي طالب في طهره وقداسته وشفافيته الايمانية لم يواجه كل ذلك الا بقلب كبير لا يعرف الحقد والكراهية والشحناء. فاذا سمع أحدا من أتباعه يتعرض لأهل الشام ولأصحاب معاوية بالسب والشتم نهاه وحذره وقال له “اني أكره ان تكونوا سبابين….” انها التربية الطاهرة النقية، وانه الصوغ الايماني المهذب… هكذا تتمايز التربيتان ويتمايز المساران، يبقى علي المثل والرمز والمعنى الكبير، والبصيرة والحق والهدى.
ويبقى الآخر في الخط المضاد، يحارب عليا، ويقاتل بجيش لا يملك بصيرة، ولا يفرق بين الحق والباطل ولا يفرق بين الناقة والجمل.
تحدثنا كتب التاريخ ان رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له الى دمشق فتعلق به رجل من أهل الشام فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما الى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلا بينه يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه.
فقال الكوفي: أصلحك الله انه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى… وبعد تفرقهم دس الى الكوفي فأحضره وسأله عن بعيره، فدفع اليه ضعفه وبره وأحسن اليه وقال له: أبلغ عليا اني أقابله بمئة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل.
النقطة الثانية: ضرورة ان نملك حرارة الانصهار مع الشعار الايماني، قد يدخل الشعار الى عقولنا والى وعينا وثقافتنا، ولكنه يبقى شعارا جامدا راكدا فالوعي والثقافة لا يخلقان النبض والحرارة والحماس لهذا الشعار أو ذاك.
كم من الناس يملكون درجة عالية من الثقافة ومع ذلك لا نجد عندهم حماسا للأفكار والمبادئ التي يؤمنون بها، بينما نجد آخرين أقل وعيا وثقافة الا انهم اكثر حيوية ونشاطا وحماسا للمبادئ التي يحملونها.
لماذا أولئك المثقفون يفقدون الحرارة والحماس، وهؤلاء وهم الأقل وعيا وثقافة يحملون درجات عالية من الحيوية والنشاط، اذا دخلت الافكار في منطقة العقل فإنها تشكل علما وثقافة ووعيا… أما اذا دخلت في منطقة القلب والوجدان والمشاعر فإنها تشكل نبضا وحرارة وحماسا، فهنا لدينا ثلاث حالات:
أ – أن تبقى الأفكار في منطقة العقل فقط وهنا سيتكون الوعي والثقافة، ولكن من دون نبض وحرارة وعاطفة.
ب – أن تبقى الأفكار في منطقة القلب والوجدان فقط، وهنا سيتكون النبض والحرارة والعاطفة، ولكن من دون وعي ورؤية وثقافة.
ج – أن تدخل الأفكار العقل والقلب معا وهنا سيتكون الوعي والعاطفة معا. والسؤال كيف نعطي للشعار الحضور الوجداني؟ وبعبارة أخرى كيف نعيش الانصهار والذوبان والعشق والتفاني مع الشعار الذي نؤمن به؟
اذا استطعنا ان نحول الشعار الى جزء من الكينونة الايمانية والروحية والعبادية فسنمنحه عشقا وولاء وانصهارا وذوبانا.
قد يطرح شعار سياسي أو شعار ثقافي أو شعار اجتماعي… هذا الشعار يتبناه الديني والعلماني معا، فهل من الضروري ان يؤكد الاسلاميون منطلقاتهم الدينية في التعاطي مع هذا الشعار، مادامت كل الأطياف الدينية وغير الدينية تلتقي عند هذا الشعار أو ذاك؟
تعقيبنا على ذلك… أولا ان الكثير من الشعارات ذات العناوين العامة تبقى ضبابية وغائمة حينما تطرح هكذا في المطلق ما ينتج تفسيرات متضاربة، الأمر الذي يساهم في خلق التناقضات في الفهم والتطبيق.
نتفق جميعا اسلاميين وعلمانيين على ضرورة النهوض بواقع المرأة. ولكن في تحديد مكونات هذا النهوض سنختلف بلا إشكال. وهكذا بالنسبة الى كثير من الشعارات والعناوين التي تزدحم بها الساحة الثقافية والاجتماعية والسياسية، فمن الضروري ان نحدد رؤيتنا ومنطلقاتنا، وللآخرين ان يحددوا رؤاهم ومنطلقاتهم، ومسئولية الجمهور أن يتبنى ما تفرضه قناعاته وانتماءاته الدينية والوطنية.
ثانيا: لو سلمنا ان الاطياف الدينية وغير الدينية اتفقت على الفهم والرؤية بشأن هذا الشعار أو ذاك الا انه يبقى تمايز كبير بين المسارين الديني والآخر.
ما هذا التمايز؟
ان الانسان الديني حينما يتعاطى مع الشعار يتعاطى معه كمسؤلية شرعية دينية وهذا يعني انه يمارس عملا يتقرب به الى الله تعالى وبعبارة أخرى يكون هذا التعاطي “ممارسة عبادية” وليس مجرد تعاط مع شعار سياسي أو شعار ثقافي أو شعار اجتماعي.
أما الانسان الآخر فمهما ارتقى في مستوى القناعة والايمان فلن يتجاوز كونه شعارا سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا، وفي أحسن الحالات شعارا وطنيا أو شعارا انسانيا.
ويبقى الفارق كبيرا فيما هو مستوى الاخلاص والانصهار والتفاني والالتزام… فالمطلوب من الاسلاميين ان يكونوا صريحين في خطابهم السياسي أو في خطابهم الثقافي أو في خطابهم الاجتماعي في التعبير عن رؤيتهم الاسلامية، ولا يعني هذا اقصاء للآخر، وانما هي مسئولية الخطاب مادام يملك قناعة الاسلام، ويؤمن برؤية الدين، فلماذا المجاملات على حساب الثوابت، ولماذا المجاملات من أجل التحالفات السياسية التي لا تبرر أبدا تجميد القناعات.
في بعض الأوقات فرضت المجاملات وبذريعة المصالح السياسية ان يتنازل بعض الاسلاميين عن “البسملة” أو عن “ذكر الله” في أي بيان مشترك لأن ذلك لا يرضي العلمانيين… من يتنازل عن “بسم الله الرحمن الرحيم” وعن “ذكر الله” في بيان أو منشور فسيتنازل عن الكثير من المسلمات ومن يعجز عن قبول ذلك في بيان مشترك فسترعبه أية مسألة أخرى من مسائل الدين.
النقطة الثالثة: تحريك الشعار على مستوى السلوك والممارسة. أن يتحرك الشعار على مستوى الوعي والثقافة تلك مسألة مهمة جدا تعطي لحركة الشعار البصيرة والرؤية… وان يتحرك الشعار على مستوى المشاعر والوجدان تلك مسألة مهمة جدا تعطي لحركة الشعار نبضا وحرارة.
وتبقى الحركة على مستوى السلوك والممارسة هي الهدف الأساس، فلا قيمة لشعار يتجمد في العقل، ولا قيمة لشعار يتجمد في العاطفة.
وقد أكد القرآن والنصوص الدينية ضرورة “الالتزام العملي” وتجسيد المضامين والأفكار والا كان انتماء نظريا شكليا يرفضه الاسلام.
“ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا…” “30: فصلت” الاستقامة ان نحول الانتماء الى واقع عملي متحرك، بأن نلتزم بالاسلام عمليا في كل أفكارنا وفي كل عواطفنا، وفي كل أقوالنا، وفي كل ممارساتنا وسلوكاتنا، ومواقفنا.
“ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين” “33: فصلت” ، هذا النص يتحدث عن ثلاثة مكونات في شخصية الانسان المسلم:
أ- الدعوة الى الله: الالتزام الرسالي”.
ب- العمل الصالح: “الالتزام السلوكي”.
ج- الانتماء والهوية: “الالتزام الفكري”.
وهذا النص يحمل معطيات مهمة:
– يجب على الانسان المسلم ان يؤكد هويته الايمانية والاسلامية “وقال انني من المسلمين”.
– يجب على المسلم ان يؤكد التزامه العملي بخط الهوية. “وعمل صالحا”.
– يجب على المسلم ان يؤكد مسئوليته الرسالية تجاه الهوية “دعا الى الله”.
النقطة الرابعة: الشعار بين الانتماء الديني والانتماء الوطني: تتحرك بين الفينة والأخرى مقولات تتهم بعض الشعارات الدينية بالتناقض مع الانتماء الوطني، وتتهم بعض الولاءات الدينية بالتنافي مع الولاء للأرض، نلاحظ على هذه المقولات:
أولا: الولاءات الدينية لا تتناقض مع الانتماء الوطني، فكل أبناء هذا الوطن بمختلف مذاهبهم لهم “ولاءات دينية” لأشخاص يحملون “المقامات الروحية” ويمثلون “المرجعيات الدينية والفقهية” في خارج هذا الوطن فربما كان الولاء لمرجعية روحية ودينية في مصر أو في السعودية أو في الكويت أو في العراق أو في إيران أو في لبنان. المسألة في هذا الحدود من التواصل الروحي والديني لا تشكل الغاء او تفريطا في انتماء الانسان الى وطنه والى أرضه، ومن المصادرة لحرية الانسان الدينية أو الثقافية ان نسجنه دينيا أو ثقافيا ضمن أسوار هذا البلد أو ذاك.
ثم ان “الكيانات الدينية والثقافية” ليست محكومة بأطر مكانية محددة، فلا يمكن للقرارات السياسية ان تفرض “حصارات” على “الأفكار” الدينية أو غير الدينية لتمنعها من مغادرة هذه الأرض أو تلك الأرض، كما لا تملك القرارات السياسية القدرة على منع دخول الافكار الى هذا البلد أو ذاك.
ثانيا: التعاطي السياسي مع الخارج لا يشكل – دائما – مصادمة مع “الانتماء الوطني”. ربما شكل هذا التعاطي تلك المصادمة في بعض الحالات، وكما هو التعاطي مع “الفكري والديني والثقافي” لا يمكن مصادرته بقرار سياسي، فكذلك التعاطي مع “الفكر السياسي”.
متى يكون التعاطي السياسي مع الخارج يشكل مصادمة مع “الانتماء الوطني”؟ حينما يفرض هذا التعاطي على الانسان أن يتنازل عن “المصالح الوطنية” لبلده، أن يخون هذه المصالح، بشرط ان يكون هناك صياغة واضحة وحقيقية لتلك “المصالح الوطنية” لا كما يحلو لبعض “المزايدين” و”المتملقين” لأنظمة السياسة ان يصوغوا المفاهيم والرؤى والمصالح الوطنية بحسب ما تفرضه الأهواء والنزوات والتملقات الكاذبة، وبهدف الاستعداء ضد هذه الطائفة أو تلك.
انه من الجناية ان نتهم طائفة كبيرة من أبناء هذا الوطن وهم يحملون كل الانتماء الى هذه الأرض التي تشبعت بقيم الدين والعقيدة ورووها بعرقهم ودمائهم وأعطوا صادق حبهم ومشاعرهم ان يتهم هؤلاء أو يشكك في انتمائهم الوطني لمجرد انهم أكدوا ولاءهم الديني والعقيدي لبعض رموز الاسلام ولمجرد أنهم عبروا عن تعاطفهم مع انتصارات الاسلام ورجال الاسلام هنا أو هناك.
من المؤسف ان نضطر إلى الدفاع عن ولائنا لهذا الوطن بين الحين والآخر وكأننا دخلاء على هذه الأرض، والى متى سيبقى ولاؤنا لهذه الأرض محل شك وريبة… ومتى تنتهي الإثارات التي تعكر صفو الأخوة والمحبة بين أبناء هذا الوطن… اننا نخشى أن تكون وراء بعض هذه الاثارات دوافع غير بريئة… ان الاستنفار الذي تشهده الساحة هذه الأيام قد أثار قلقنا الشديد، اننا ضد كل الممارسات التي تسيء الى وحدة الصف، وضد كل الشعارات التي تخلق التوترات في هذا البلد، وضد كل الكلمات غير المسئولة التي تنال من رموز الوطن السياسية والدينية… وهذه المسائل إن وجدت يمكن أن تعالج بأساليب أكثر هدوءا، وأكثر تعقلا ولا تحتاج الى هذا الاستنفار غير الطبيعي والى هذا الضجيج الاعلامي الكبير والى هذه المزايدات الصحافية. اننا نشكك في الكثير من المبالغات والتهويلات فلم يحدث – بحسب معلوماتنا – في مراسم عاشوراء لهذا العام غير المعهود في كل عام… واذا ثبت وجود بعض التجاوزات فعلماء الطائفة والقائمون على شئون المراسم العاشورية مسئولون ان يتصدوا لمعالجتها، من دون الحاجة الى اعتماد هذا الاستنفار الذي يعقد الأمور ولا يعالجها ويضعنا امام تداعيات خطيرة، ان قلوبنا على هذا الوطن وعلى أمنه واستقراره ووحدة صفه، وعلى كل مصالحه