في ذكرى أربعين الشهيد الشاب محمد جمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد وآله الهداة الميامين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
السلام عليك أيّها الشهيد الغائب الحاضر ..
أربعون يوماً مضت وذكراك المثقلة بالحزن والأسى لا زالت حاضرة …
أربعون يوماً مضت وذكراك الفاجعة الأليمة الباكية لا زالت حاضرة …
أربعون يوماً مضت والرصاصات الغادرة التي وجهت إلى رأسك لا زالت حاضرة …
أربعون يوماً مضت ودمك المسفوك ظلماً وعدواناً لا زال حاضراً …
أربعون يوماً مضت وجراحك النازفة لا زالت حاضرة …
أربعون يوماً مضت والدموع والعبرات والآهات والزفرات والصيحات والصرخات لا زالت حاضرة …
أربعون يوماً مضت والموكب الرهيب المهيب والآلاف الكبيرة الكبيرة تشهد عرس الشهادة لا زال حاضراً …
أربعون وأربعون وأربعون، وتمضي السنون وتأتي السنون، وتبقى الحاضر الحاضر …
وتبقى الحاضر في الوعي والضمير والوجدان …
وتبقى الحاضر في الموقف والرفض والصمود …
وتبقى الحاضر في البذل والتضحية والعطاء …
وتبقى الحاضر في الدم والشهادة …
وتبقى الحاضر في الصدق والوفاء والحب …
وتبقى الحاضر في المساجد والمجالس والمحافل …
وتبقى الحاضر في الشباب والكبار والأطفال …
وتبقى الحاضر في الأحزان والأفراح …
السلام عليك أيّها الشهيد الغائب الحاضر …
لقد أنطوت أيامك في هذا الدنيا سريعاً سريعا …
إختصرت طريقك إلى الجنة بإذن الله …
تحررت من دنيا العناء والتعب والآلام …
تركت الأرض الموبوءة الملوثة بالفسوق والفجور والعصيان …
سئمت البقاء في عالم الضياع والبؤس والحرمان …
عشقت اللقاء اللقاء مع الله والأنبياء والأخيار …
وإذا كان القدرُ المحتومُ – وقدر الله لا يرد – قد شاء أن لا تهنأ بعرسك في هذه الحياة، كما يهنأ العرسان والشبان من أترابك، فهنيئاً هنيئاً لك العرس الأكبر في صحبة الأبرار والمقربين {في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، على سرر موضونة، متكئين عليها متقابلين، يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاءً بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاما} .
وإذا كان القدر المحتوم – وقدر الله لا يرد – قد شاء أن يكون حظك من متع الدنيا الحلال قليلاً قليلاً، فلك من موفور النعم الكثيرة الكثيرة عند الله في {الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، ومغفرة من ربهم، كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} .
وإذا كان القدر المحتوم – وقدر الله لا يرد – قد شاء أن تبكيك العيون حسرةً وأسفاً، ويندبك الفاقدون حزناً وألماً، فكأنّي بك وأنت في رحاب ربك ((في مقعد صدق)) تقول وأنت تعيش فرحة اللقاء ((عند مليك مقتدر)) : {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} .
هكذا النهاية لكل الصالحين والمتقين :
{إن المتقين في مقامٍ أمين في جنّاتٍ وعيون، يلبسون من سندسٍ وإستبرقٍ متقابلين كذلك وزوّجناهم بحورٍ عينٍ يدعون فيها بكل فاكهةٍ آمنين لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلاً من ربّك ذلك هو الفوز العظيم} .
هكذا النهاية لكل الصالحين والمتقين :
{إنّ للمتقين مفازا حدائق وأعنابا، وكواعب أتراباً، وكأساً دهاقاً، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذّابا جزاءً من ربّك عطاءً حسابا} .
هكذا النهاية لكل الصالحين والمتقين :
{وإنّ للمتقين لحسن مئاب، جنات عدن مفتحةً لهم الأبواب، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهةٍ كثيرةٍ وشرابٍ، وعندهم قاصرات الطرف أتراب، هذا ما توعدون ليوم الحساب إنّ هذا لرزقنا ما له من نفاد} .
وأما الطغاة الجناة الظالمون، فماذا ينتظرهم هناك ؟
{هذا وإنّ للطاغين لشرّ مئاب، جهنمّ يصلونها فبئس المهاد، هذا فليذوقوه حميم وغسّاق وآخر من شكله أزواج، هذا فوجً مقتحمً معكم لا مرجاً بهم إنهمّ صالوا النار …} .
وأمّا العصاة والفساق والفجار فماذا ينتظرهم هناك ؟
{وإنّ الفجّار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم بغائبين، وما أدراك ما يوم الدين، ثمّ ما أدراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفسٍ شيئاً، والأمر يومئذ لله} .
وأمّا المعاندون المتكبرون الآثمون فماذا ينتظرهم هناك ؟
{إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، خذوه فآعتلوه إلى سوآء الجحيم، ثم صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ذق إنك أنت العزيز الكريم إنّ هذا ما كنتم به تمترون} .
وأمّا الضالون الغاوون السائرون في خط الشيطان فماذا ينتظرهم هناك ؟
{ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلاّ غرورا، أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً}، {أستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان، إلا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون} .
نعود مرة أخرى إلى شهيدنا الشاب الذي أعطى دمه في سبيل الله …
إنّ أمةً تعطي الدم والشهادة في سبيل الله أمة لا تموت، أمةً لا تهزم ولا تقهر …
لماذا أصبح المسلمون اليوم – وعددهم يربو على المليار – أذلاء صاغرين يشكلون الرقم المهمل في كلّ الحسابات والمعادلات الدولية، يتحكم فيهم القرار الأمريكي، وتبعث بكرامتهم ومقدساتهم عصابة الصهاينة الحاقدين، وتتكالب وتتداعى عليهم كل الأمم .
لماذا هذا الصغار والذل والهوان ؟
نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله يجيب :
((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا أمن قلةٍ فينا يؤمئذ يا رسول الله، قال : لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع من قلوب أعدائكم من حبكم الدنيا وكراهتكم الموت))
الأمة التي تبخل بالدم والشهادة، وتستمر الحياة والترف والإسترخاء أمة مكتوب عليها الموت والذل والهوان .
يخطط لشعوبنا أن نعيش العبث واللهو والضياع وإلاّ فما معنى هذه المشروعات المدمرّة للأخلاق والقيم والفضيلة في هذا البلد المسلم أو في ذاك ؟
هل أنّها مجرد رغبةٍ في اكتساب المال الحرام ؟
المسالة ليست كذلك، لو كان الأمر هو مجرد الرغبة في المال الحرام، فأمام هؤلاء الفرص الأكبر في أماكن أخرى من العالم .
المسالة أنّ هناك مخططاتٍ لإفساد أجيال المسلمين، والقضاء على هويتهم الإيمانية، وإذابة مناعتهم الروحية والأخلاقية .
هذه مؤسسات تعليم وثقافةٍ وإعلامٍ في دولنا العربية والإسلامية تروج لبرامج الفساد والفسق والذعارة، وتحت عناوين الثقافة والفن والرياضة والسباحة، والنهوض بالمجتمعات .
هكذا يتم تغريب الأجيال، وصياغتها بعيداً عن خط الأصالة والإلتزام، وخط القيم والأخلاق، وبعيداً عن مفاهيم الدين ورؤاه .
وهكذا تموت الإرادة والصلابة والهوية، وتتحول الأجيال إلى أدواتٍ للعبث واللهو والضياع .. وإننا لنستبشر خيراً – في بلدنا المسلم البحرين – إن صح ما نشرته صحافتنا المحلية من أنّ هناك إجراءاتٍ صارمةً ضد الفنادق والصالات السياحية المخالفة للقيم الأخلاقية والدينية .
إننا نبارك هذه الإجراءات الجريئة، ونؤكد أنّ ((مشروع الإصلاح السّياسي)) في هذا البلد، لن يكون مشروعاً حقيقياً إذا لم يعتمد ((الثوابت الدينية والروحية والأخلاقية)) أساساً في إنطلاقاته وصياغاته وتوجهاته .
إنّ مشروع الإصلاح السّياسي سوف يتهاوى من داخله إذا لم يتأصل على أساس من قيم الدين وأخلاقياته ومبادئه، لا ينون لهذا البلد خيراً كلّ الذين يريدون لمشروع الإصلاح أن ينطلق بعيداً عن المبادئ والقيم الإسلامية .
وقد برهنت نتائج إنتخابات البلديات في جولتها الأولى – ومن خلال الإصرار على التصويت للمؤمنين الملتزمين – أنّ شعبنا يريد أن يعيش في ظلال الدين وقيم الدين .
هذا النتائج لم تكن مفاجئة لنا مادمنا واثقين أنّ جماهير هذا الشعب تحتضن الإسلام في عقلها، وفي وجدانها، وفي حركتها، ربمّا تكون مفاجئة لبعض القوى السّياسية – من خارج الدائرة الإسلامية – لأنّها لم تكن قادرة على أن تقرأ السّاحة البحرانية قراءة صحيحة، لقد قرأت هذه القوى الساحة من خلال رؤيتها الأيديولوجية البحته، ولم تقرأها من خلال عقيدة الشعب وولائه المبدئي، وإنتمائه الديني .
ومهما حاولت هذه القوى والإتجاهات أن تفسر هذه النتائج على أساس ((الهيمنة الدينية)) التي مارسها علماء الدين، والجمعيات والمؤسسات الدينية مما كان له التأثير الواضح في توجهات الناخبين، إلاّ أننا نؤكد أنّ هذا هو ((خيار الشعب نفسه)) بغض النظر عن كل المؤثرات والتوجهات، وإذا كان للخطاب العلمائي وخطاب القوى الدينية، تأثيراتها فليس إلاّ لأنهّ يتناغم مع قناعات هذا الشعب وهموماته .
السلام عليك أيّها الشهيد الغائب الحاضر …
إنّك وأمثالك ممن يسترخصون الدم في سبيل قضايا الإسلام هم الذين يحصّنون إرادة الأمة في مواجهة مشروعات التدجين والتميع والتغريب والمصادرة .
الدم الذي يسقط في سبيل الله هو الذي يعطي للأمة الحياة والبقاء والعزة والكرامة والقوة والصمود والعنفوان .
وهنا سؤال يطرح نفسه : متى يسقط الدم في سبيل الله ؟
ليس كل دمٍ يسقط هو دم في سبيل الله …
يكون الدم في سبيل الله حينما يسقط في معركة جهادٍ من أجل الإسلام، جهادٍ إبتدائي أو جهادٍ دفاعي، ولكل من هذين الجهادين ضوابطه وشروطه كما حددتها الشريعة .
يكون الدم في سبيل الله حينما يسقط في عملية إستشهادية دفاعاً عن الإسلام وأرض الإسلام ومقدسات الإسلام وقد أفتى الفقهاء في هذا العصر بمشروعية العمليات الإستشهادية التي يقوم بها المؤمنون في مواجهة العدو الصهيوني الغاصب .
يكون الدم في سبيل الله حينما يسقط ثمناً لولاء المبدأ والعقيدة، فما أكثر الذين سقطت دماؤهم على أيدي الطغاة والظالمين بسب الولاء للعقيدة الحقه ..
رشيد الهجري طلبت منه السلطة الأموية أن يتبرأ من الولاء لعلي بن أبي طالب فرفض، قطعوا يديه ورجليه ولسانه وصلبوه خنقاً في عنقه، حتى سقط شهيداً في خط الولاء لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ميثم التمار، قال له – يوماً – أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) : كيف بك إذا دعاك بنو أمية للبراءة مني ؟، قال ميثم : لا والله لا أبرأ منك، قال علي (ع) : إذن والله يقتلونك ويصلبونك، قال ميثم : أصبر فذاك في الله قليل، وكان ينتظر ذلك اليوم بلهفةٍ وشوق، وجاء ذلك اليوم، وأحضروه وطلب منه البراءة من علي بن أبي طالب، فرفض بكل شموخ وصمود، فأمروا أن تقطع يداه ورجلاه ويصلب، ولمّا صلب على جذع نخلةٍ تجمهر الناس لرؤيته فأخذ يصرخ ويتحدث بفضائل أمير المؤمنين وهو مصلوب، حاولوا إسكاته ولكنه ظل يواصل جهاده فطعنوه بحربة فسقط شهيداً في خط الولاء .
دعبل الخزاعي الشاعر الجرئ أحد الذين أعطوا دمهم ثمناً لولاء العقيدة والمبدأ، وهو القائل : ((أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد من يصلبني عليها)) .
يكون الدم في سبيل الله حينما يسقط والإنسان يتحرك في خط الدفاع عن قضايا الإسلام، وقضايا العقيدة، وفي خط التأييد والمناصرة لقضايا الإسلام والعقيدة، متى كان المنطلق في ذلك كله الإيمان بالله وبالإسلام وإمتثالاً للوظيفة الشرعية .
شهيدنا الشاب محمد جمعة كان مؤمناً بالله وبالإسلام، وانطلق تعبيراً للغضب ضد اليهود الصهاينة الغاصبين وضد الإنحياز الأمريكي المعادي للإسلام والمسلمين، ومعتمداً في ذلك نداءات العلماء في الداخل والخارج والتي دعت جماهير الأمة الإسلامية أن تعلن الغضب المقدس ضد الصهاينة والأمريكان، فأصابته رصاصات غادرة وعدواناً، فدمه – إن شاء الله – دم زكي طاهر مبارك، سقط في طريق الله .
نسأل الله لشهيدنا الرحمة والرضوان وأن يكون {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} .
وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله ربّ العالمين ….