حديث الجمعة 652: ماذا يعني الوَلاء الحقيقي؟ – خِطابُ الدِّين يتَّسعُ باتِّساعِ الدِّين
مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول حديث الجمعة (652) التَّاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 25 جمادى الأولى 1446هـ الموافق: 28 نوفمبر 2024 م
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
الحديثُ مستمرٌ في التَّعاطي مع موسمِ الصِّدِّيقةِ الزَّهراءِ (سلامُ الله عليها)، هذا الموسمُ الغنيُّ بالمفاهيمِ والأفكارِ والقِيَمِ، إنَّه ليس موسمًا استرخائيًّا في أحضان العواطف سواءً أكانت عواطفَ حزنٍ أو عواطفَ فرح.
مطلوبٌ أنْ نحزنَ كلَّ الحزنِ في ذكرى الرَّحيل المفجع، أنْ نفرحَ كلَّ الفرحِ في ذكرى الولادةِ المباركة، إلَّا أنَّ هذا الحزنَ وهذا الفرحَ يحملان قيمةً كبرى حينما يُؤسِّسانِ لِوَلاءٍ حقيقيٍّ.
وماذا يعني الوَلاء الحقيقي؟
إنَّه يعني التَّمثُّلَ الحقيقي، والاقتداءَ الصَّادق.
جاء في الحديث عن أئمَّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السَّلام):
«يَا جَابِرُ أيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا أَهْلَ البَيْتِ؟
فَوَاللهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وأَطَاعَه، ومَا كَانُوا يُعْرَفُونَ – يَا جَابِرُ – إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، والتَّخَشُّعِ، وكَثْرَةِ ذِكْرِ الله، والصَّوْمِ، والصَّلَاةِ، والبِرِّ بِالوَالِدَيْنِ، والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الفُقَرَاءِ وأَهْلِ المَسْكَنَةِ والغَارِمِينَ والأَيْتَامِ، وصِدْقِ الحَدِيثِ، وتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، …،
(إلى أن يقول الحديث)
…، فَاتَّقُوا الله، واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ الله، لَيْسَ بَيْنَ الله وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، أَحَبُّ العِبَادِ إِلَى الله عَزَّ وجَلَّ وأَكْرَمُهُمْ عَلَيْه أَتْقَاهُمْ، وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِه.
يَا جَابِرُ، والله مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى الله تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ، ومَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، ولَا عَلَى الله لأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ، مَنْ كَانَ لِلَّه مُطِيعًا فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، ومَنْ كَانَ لِلَّه عَاصِيًا فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، ومَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالوَرَعِ والعَمَلِ».([1])
فالانتماء إلى خطِّ أهلِ البيت (عليهم السَّلام) يحتاج إلى ثلاثةِ مرتكزات:
المرتكز الأوَّل: المرتكز العقائدي
ويتمثَّل في الإيمان بإمامةِ الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السَّلام)، ولست هنا في صدد
معالجة المبرِّرات لهذا الاعتقاد.
المرتكز الثَّاني: المرتكز الرُّوحي
ويتمثَّل في الولاءِ للأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)، هذه الولاء الذي فرضه القرآن في قول الله تعالى:
﴿… قُل لَّآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ … ﴾.([2])
المرتكز الثَّالث: المرتكز العملي
فالانتماء ليس مجرَّد مفاهيمَ في الذِّهنِ.
وليس مجرَّد مشاعرَ في الوجدان.
وإنَّما هو ممارسة وسلوك.
صحيح التَّمثُّل العملي في حاجة إلى درجة عاليةٍ من الوعي والبصيرة.
وفي حاجة إلى درجة عالية من الانصهار والذَّوبان.
وتبقى القيمة الكبرى لهذا الوعي ولهذا الانصهار حينما يتشكَّل السُّلوك.
فالمناسبات الدِّينيَّة تحمل ثلاث مسؤوليَّات:
1- أنْ تجذِّرَ الوعي.
2- وأنْ تُعمِّقَ الولاء.
3- وأنْ تنشِّط السُّلوك.
وحينما نلتقي بموسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) وهو من أغنى المواسم الإيمانيَّة:
مطلوبٌ أوَّلًا:
أن يكون خطابُ الموسم على درجةٍ عاليةٍ من الوعي، لكي يرتقي بوعي الجمهور الذي شدَّهُ الولاء للصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) لحضور مجالس العزاء، فقيمة هذه الملتقيات بقدر ما يكون الخطاب بصيرًا، ورشيدًا، وقادرًا على أنْ يرتقي بوعي الجمهور.
وكلَّما انخفض مستوى الخطاب ضاعت المفاهيم الكبرى التي تحملها هذه المناسبات الدِّينيَّة الكبيرة.
ومطلوبٌ ثانيًا:
أنْ يؤسِّس الخطاب لولاء رشيد، فكلَّما امتلك الولاء درجةً عالية من الرُّشد كان أنقى وأصلب، وأقدر على مواجهة كلِّ التَّحديات التي تحاول أنْ تسرق هذا الولاء، أو تنحرف بهذا الولاء.
ومطلوبٌ ثالثًا:
وهو الأهمُّ، أنْ يتحوَّل الموسمُ منهجًا عمليًّا؛ لمعالجة كلِّ الواقعِ بكلِّ ما يحمل من أزماتٍ، وإشكالاتٍ، وخلافاتٍ، وصراعات.
ومن الضَّروري أنْ يُقارب خطاب هذا الموسم كلَّ التَّحديات التي تواجه المرأة المسلمة في هذا العصر، وهنا مطلوبٌ أن يُنشِّط الخطابُ الدِّينيُّ دورَ المرأة المسلمة، كما تفرضه توجيهات الدِّين.
صحيحٌ أنَّ لعلماء الدِّين أدوارهم الكبرى في معالجة أوضاع المرأة في هذا العصر.
ولخطاب المنبر الحسينيِّ دوره الفاعل.
ولكلِّ البرامج الدِّينيَّة قيمتُها.
ولكن يبقى لحضور المرأة كلَّ الأثر الكبير، فالحوزات النِّسائيَّة، والجمعيَّات النِّسائيَّة، والفعَّاليات النِّسائيَّة، والحسينيَّات النِّسائيَّة مطلوبٌ منها أنْ تَنشُط لتحصين واقع المرأة، والذي تواجهه في هذا العصر أصعب التَّحدِّيات.
ولعلَّ موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) فرصة كبيرة لتنشيط دور المرأة، والارتقاء بمستوى رساليَّتها.
ويبقى السُّؤال الذي يحتاج إلى إجابة واضحة:
هل أنَّ المرأة كالرَّجل مسؤولة أنْ تَنشُط في السَّاحة، وأن تمارس مهامَّ الدَّعوة والتَّبليغ؟
وهل تملك ساحتُنا كفاءات نسائيَّة مؤهَّلة وقادرة أنْ تُمارسَ دورها الفاعل في حراسة الواقع الدِّينيِّ لأجيالنا النِّسائيَّة في زحمةِ التَّحدِّيات الصَّعبة؟
وماذا يُطلبُ من المرأة في هذا العصر الصَّعب بكلِّ تحدِّياتِهِ وإشكالاته؟
في الإجابة عن هذه التَّساؤلات لنا حديثٌ يأتي إنْ شاء الله…
كلمةٌ أخيرةٌ: خِطابُ الدِّين
خِطابُ الدِّين:
– خطاب المسجد.
– خطاب المنبر.
– خطاب المناسبات.
– كلُّ خطابٍ دينيٍّ.
هذا الخطابُ يتَّسعُ باتِّساعِ الدِّين، فكم هي مساحةُ الدِّين، (الحديث عن الإسلامِ وليس عن أيِّ دين).
ربَّما هناك أديانٌ صاغتها عقولُ البشر، وليست من وحي السَّماء، فهي أديانٌ محكومةٌ للأمزجة والأهواء.
إذًا حديثنا عن دينٍ جاء به سيِّد الأنبياء (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، واحتضنه أئمَّةٌ أبرارٌ، وصحابةٌ كرامٌ، وصُنعتْ من خلاله أجيالٌ، احتضنت هذا الدِّين، ودافعت عنه، وضحَّت من أجلِهِ.
ولا زال هذا الدِّينُ حاضرًا في وعي الأمَّةِ وفي كلِّ وجدانها، وإنْ كان قد تمَّ عزلُهُ عن واقع الأمَّة، إلَّا في الحدود العباديَّة، وفي الحدود الفرديَّة.
هذا العزلُ مدروسٌ ومخطَّط له، ولا أريد هنا أن أتناول العواملَ التي من خلالها تمَّ إقصاءُ مساحةٍ كبيرة من أحكام الدِّين ومفاهيمِهِ وتعاليمه.
إذًا الحديث هنا عن خِطابِ الدِّين كما جاء في كتاب الله، وعلى لسانِ رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبلَّغه الأئمَّة والصَّحابة والتَّابعون وكلُّ الأمناء على هذا الدِّين.
هذا الدِّينُ هو منظومةُ عقائدَ، وفقهٌ وأحكامٌ وتعاليمُ تتَّسع لكلِّ مساحاتِ الحياة الفرديَّةِ، والأسريَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة.
• ﴿… ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ …﴾([3])
الذي يتَّسع لكلِّ حياة البشر، لا يستثني مساحةً منها فيما هي العقائد، والرُّؤى، والمفاهيم، والقِيَم، والأخلاق، وكلُّ الممارسات…
فخطابُ الدِّينِ يتَّسع باتِّساعِ الدِّين، وهنا يجب أنْ يكونَ حَمَلةُ هذا الخطاب يحملون وعي الدِّين وفقهَ الدِّين، وإلَّا تاه الخطاب، وارتبكت مفاهيمُه، إلى جانب هذا الوعي وهذا الفقه هناك ضرورة أن يتوفَّر صُنَّاعُ الخطاب على قراءةٍ بصيرةٍ بكلِّ الواقع الموضوعي المتحرِّك هنا أو هناك، فإذا غابت هذه القراءة حدث غبشٌ في الطَّرح وفي المعالجات.
إذا كان من حقِّ الخطاب الدِّيني أن يُقارب أيَّ شأنِ تتَّسع له رؤية الدِّين، فمطلوبٌ منه أنْ يقرأ كلَّ الواقع الموضوعي قراءةً بصيرةً وواعية.
فإذا كنَّا نرفضُ أن يُحجَّمَ دور الخطاب الدِّيني فإنَّنا نؤكِّد على ضرورة قراءة كلِّ الحيثيَّات الموضوعيَّة ليكون الخطابُ قادرًا أن يقارب كلَّ أزمات الواقع.
ومن أهمِّ وأخطرِ مسؤوليَّات الخطاب الدِّينيِّ أن يُواجِه كلَّ أشكالِ التَّمزُّقِ والصِّراع الضَّارِّ بوحدة الشُّعوب، هذه الوحدة التي يؤسِّسُ لها الاعتصام بحبلِ الله ودين الله وتعاليم الله.
﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ…﴾.([4])
والاعتصامُ بحبل الله هو الذي يؤسِّس لقوَّة الأمَّةِ، ولقوَّةِ الشُّعوبِ، ولقوَّةِ الأوطانِ، فما أحوج أمَّتنا، وشعوبنا، وأوطاننا في هذا الزَّمن المشحون بالأزمات الثَّقيلة، والتَّحدِّيات المرعبة إلى التَّآلف والتَّقارب والتَّمسُّك الصَّادق بدينِ الله وأحكام الله، وبقدر ما يقوى هذا التَّمسُّك الصَّادق نكون الأقوى والأصلبَ في مواجهة كلِّ أشكالِ التَّأزُّم والتَّوتُّر، كم نصرخ ونصرخ مطالبين بالوحدة والتَّقارب، ولكنَّ الأهمَّ أن نتمسَّك بحبل الله وبدين الله؛ لنكون الأمَّة الأقوى والأصلب والأقدر على مواجهة كلِّ التَّحدِّيات وكلِّ الأزمات، في عصر امتلأ بكلِّ أسباب التَّوتُّر والتَّشتُّت، وبكلِّ أشكالِ الاستهداف.
وآخر دعوانا أن الحمد للهِ ربِّ العالمين.
———————————————————-
الهوامش:
[1]– الصَّدوق: الأمالي، ص 724، ح 991/ 3.
[2]– الشُّورَى: الآية 23.
[3]– سورة التَّوبة: الآية 36، سورة يوسف: الآية 40، سورة الرُّوم: الآية 30.
[4]– سورة آل عمران: الآية 103.