حديث الجمعة 649:كيف سوف تكون آخرُ أشواطِ البشريَّة على هذه الأرض؟ – موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)
مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول حديث الجمعة (649) تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 4 جمادى الأولى 1446هـ الموافق: 7 نوفمبر 2024 م
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
قوله تعالى في سورة الأنبياء الآية 105:
﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾.
هناك سُؤالٌ كبيرٌ يُطرَح.
هذا السُّؤالُ يقول:
كيف سوف تكون آخرُ أشواطِ البشريَّة على هذه الأرض؟
هناك اتِّجاهان في الإجابة عن هذا السُّؤال:
الاتِّجاهُ الأوَّل: يرى أنَّ نهايةَ أشواطِ البشريَّة في هذا العالم هي نهاية مأساويَّة، حيث سوف يُسيطرُ الشَّرُّ على الخيرِ، والضَّلالُ على الهُدى، والفَسادُ على الصَّلاح، والظُّلمُ على العَدْلِ، والشَّقاءُ على السَّعادة، واليأسُ على الأملِ، والكراهيةُ على الحُبِّ، والتَّباغضُ على التَّآلف، والتَّباعدُ على التَّقارب …
الاتِّجاه الآخر: وفي مقابل هذه الرُّؤية التَّشاؤميَّة، هناك رؤية تمتلئ بالتَّفاؤل والأمل، فترى أنَّ نهاية أشواط البشريَّة هي الحاكميَّة لدولةِ العدل، لمسارِ الخيرِ، لقِيمِ الصَّلاحِ، لمجتمعِ المحبَّةِ، للتَّآلفِ، للتَّقارب.
وهنا السُّؤالُ الذي يُطرحُ:
كيفَ سوفَ يتحقَّقُ هذا الهدفُ الأعظم في تاريخ الدُّنيا؟
مَنْ يؤمنونَ بأطروحات الأرض يرون أنَّ ثَمَّة أُطروحة بشريَّة تُنتجها عقليَّةُ الإنسانِ سمِّها (اشتراكيَّة)، أو سمِّها (رأسماليَّة)، أو سمِّها (علمانيَّة) هي التي سوف تخلِّص العالم مِن الشَّقاءِ والبؤسِ والظُّلم!
وهذا زيفٌ وهُراء، وهل مأساة البشريَّة إلَّا نتيجة لهذه الأُطروحات الفاشلة، والبائسة، والمملوءة بالتَّناقضات، والتي لا تعترف بالخالقِ والقِيمِ والأخلاق، وفي ظِلِّها تعرَّضت الحياةُ إلى تمزُّقٍ خطير، وإلى حرِّيَّةٍ بلا ضوابط، وإلى إثراءٍ مُنفلِت، وإلى أزماتٍ مُدمِّرة ومُرعِبة.
فمِنَ السَّفَهِ أنْ يُدَّعى أنَّ هذه النَّظريَّات الفاشلة هي التي سوف تُخلِّصُ العَالَم في نهاية أشواط الدُّنيا!
وهناك الاتِّجاه الآخر الذي يرى أنَّ الأُطروحات الدِّينيَّة هي التي سوف يكون على يدها خلاص العالم.
هذا صحيحٌ، ولكن أيّ أُطروحة دِينيَّة هي التي سوف تخلِّص العالم، وسوف تؤسِّسُ لدولةِ العدلِ الكبرى في العالم؟
هناك أطروحاتٌ دِينيَّة مزوَّرة.
فالصُّهيونيَّة – مثلًا – في هذا العصر هي ترتكز على منظور دينيٍّ، ولكن أيَّ منظور؟
المنظور الذي أباح لهم أنْ يغتصبوا أرض فلسطين؟
أباح لهم أنْ يَسفكوا الدِّماء
أباح لهم أنْ يَذبحوا الأطفال والنِّساء والشُّيوخ
أباح لهم أنْ يَهتكوا الأعراض
أباح لهم أنْ يُدمِّرُوا المساجدَ والمعابد
أباح لهم أنْ يَنشروا الرُّعب والفساد
أباح لهم أنْ يُمارسوا كلَّ العُنف، وكلَّ الشَّرِّ، وكلَّ أنواع العَبثِ والسَّفهِ والطَّيش.
فهل هذا هو الدِّين الذي سوف يملأ الدُّنيا قِسطًا وعدلًا، وأمنًا وسِلمًا؟!
وهكذا كلُّ الأشكال الدِّينيَّة المُحرَّفة، فهي جزء مِن مأساة البشريَّة.
بقي أنْ نتَّجه إلى الإسلام ضمن صيغته المعصومة، والتي سوف يحملها للعَالَم في آخرِ الزَّمان الإمام المهديُّ مِن آلِ مُحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم)
هذا هو الإسلام الذي سوف يحكم البشريَّة في آخر أشواطها، وهذا ما أكَّدته روايات المسلمين الموثوقة.
فلا خلاصَ للبشريَّة إلَّا في ظلِّ الإسلام، فهو الدِّينُ الوحيدُ الصَّالحُ والمؤهَّلُ والقادر على إنقاذ البشريَّة، وتخليص العالم، وانتشال المسيرة الإنسانيَّة مِن كلِّ أزماتها الفكريَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة.
لماذا؟
أوَّلًا: لأنَّ الإسلام منهجٌ إلهيٌّ صاغته شريعة السَّماء، وليس منهجًا مِن إنتاج العقول البشريَّة القاصرة والمأسورة للأنانيَّات والذَّاتيَّات.
ثانيًا: ولأنَّ الإسلام منهجٌ شاملٌ كاملٌ وواقعيٌّ وأخلاقيٌّ، وقادر أنْ يستوعب كلَّ الضَّرورات البشريَّة، وأنْ يعالج كلَّ التَّحدِّيات التي تواجه مسيرة الإنسانيَّة، والتي عجزت كلُّ أُطروحات الأرض عن معالجتها.
وهل يكفي وجودُ المبدأ الصَّالح لإنقاذ العالم؟
لا يكفي ذلك.
ما لم تتوفَّر قيادة صالحة مؤهَّلة.
إذا كانت القيادة هي مِن صناعة الأيديولوجيَّات الفاشلة، والتي جرَّبتها البشريَّة وأصابها ما أصابها مِن مآسي وكوارث وأزمات قاسية، هذه القيادات هي جزءٌ مِن المأساة فلا يمكن أنْ يكون على يدها الخَلاص.
فالقيادات التي تطرحها الأيديولوجيَّات الفاشلة هي قيادات فاشلة، وغير صالحة، وغير مؤهَّلة لإنقاذ العالم مِن واقعه المأساويِّ.
فما دامت الأيديولوجيَّات غير صالحة فمِن الطَّبيعيِّ لن تنتج إلَّا قيادات غير صالحة.
وما دمنا نؤمن أنَّ الإسلام في صيغته التي أرادها الله سبحانه هو المخلِّص للبشريَّة مِن كلِّ واقعها المأساويِّ، هنا تفرض الضَّرورة أنْ تكون القيادة التي سوف تخلِّص البشريَّة في آخر أشواطها هي مِن صناعة هذا الإسلام.
ومطلوب في هذه القيادة:
(1) أنْ تكون قيادة معصومة.
(2) أنْ تكون قيادة مؤهَّلة علميًّا كلَّ التَّأهيل.
(3) أنْ تكون قيادة عالميَّة.
وقد أجمع المسلمون بكلِّ مذاهبهم أنَّ القيادة التي سوف تخلِّص العالم في آخرِ الزَّمان هي قيادة الإمام المهديِّ مِن آلِ مُحمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم).
ورُبَّما اختلفت المذاهب الإسلاميَّة.
فذهب بعضهم أنَّ الإمام المهديَّ (عليه السَّلام) وُلِدَ وغَاب، وسوف يظهر في آخرِ الزَّمانِ فيملأ الأرضَ قِسْطًا وعَدلًا كما مُلئت ظُلمًا وجَورًا.
وذهب البعضُ الآخر أنَّ الإمام المهديَّ (عليه السَّلام) يُولد في آخرِ الزَّمان وينشر العدل في الأرض.
وهذا لا يضرُّ بأصلِ المعتقد بأنَّ الإمام المهديَّ (عليه السَّلام) مِن ذريَّة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم)، ومِن وُلدِ فاطمة (عليها السَّلام) هو المخلِّص الذي يملأ الأرض عَدلًا كما ملئت ظُلمًا وجورًا.
- جاء في سُننِ أبي داود:
عن أم سلمة قالت: سمعت رسولَ الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) يقول: «المَهْدِيُّ مِنْ عِترَتي مِن وُلدِ فَاطِمَةَ».([1]) (سُننِ أبي داود، ج 2، السَّجستاني، ص 208)
وهذا الحديثُ صحيحُ الإسناد.
- وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن رَسولِ اللهِ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) أنَّه قالَ: «لا تَقومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَمتَلِئَ الأَرضُ ظُلمًا وعُدوانًا، ثُمَّ يَخرُجُ رَجُلٌ مِن عِترَتي – أو مِن أهلِ بَيتي – يملؤُها قِسطًا وعَدلًا كَما مُلِئَتْ ظُلمًا وعُدوانًا».([2]) (مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج 3، ابن حنبل، ص 45)
وهذا الحديثُ صحيحُ الإسناد.
- وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن مسعود قالَ:
قال رَسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلِيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي».([3]) (مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج 1، ابن حنبل، ص 490)
وهذا الحديثُ صحيحُ الإسناد.
- وروى ابن ماجه في سُننِهِ:
عن رَسولِ اللهِ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) – في حديث عن المهديِّ – ([4]) قالَ: «…، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَبَايِعُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ، فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ اللهِ، الْمَهْدِيُّ».[5]
وهذا الحديثُ صحيحُ الإسناد.
فإذا توفَّر الشَّرطان الأساسان:
الأوَّل: المبدأ الصَّالح والمتمثِّل في الإسلامِ الحقِّ، والذي جاء به النَّبيُّ الأعظمُ مُحمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم).
الثَّاني: القيادةُ الصَّالحةُ المؤهَّلة والمتمثِّلة في الإمام المهديِّ مِن عِترة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآلهِ وسلّم).
(هنا يبقى شرطٌ ثالث) وهو:
الثَّالث: توفُّر الأنصار المؤهَّلينَ بأعلى مستوياتِ التَّأهيل.
وهؤلاء الأنصار كما وصفتهم الرِّوايات:
أنَّهمُّ الصُّلحاء والنُّجباء.([6])
وأنَّهم رهبانٌ باللَّيل وليوثٌ بالنَّهار.([7]) (المفيد: الاختصاص، ص 208)
وأنَّهم رجالٌ قُلوبُهم كزُبر الحَديد.([8]) (المجلسي: بحار الأنوار 13/352، ح 82)
وأنَّهم عُشَّاقُ الشَّهادة.([9]) (المجلسي: بحار الأنوار 13/352، ح 82)
وأنَّهم شُبَّانٌ لا كَهلَ فيهم إلَّا كالكحلِ في العَين.([10]) (النُّعماني: الغَيبة، ص 215، ح 10)
إلى بقيَّة الصِّفات التي جاءت في الرِّوايات، ورُبَّما يكون لهذا حديث خاص.
كلمة أخيرة: موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام)
نحن على مقربة مِن موسم الصِّدِّيقة الزَّهراء (عليها السَّلام) فمطلوب:
أوَّلًا: أنْ يتأسَّس الوعي بقِيمة هذا الموسم، وهنا يأتي دور العلماءِ والخطباء في إنتاج هذا الوعي.
ثانيًا: أنْ يتأسَّس الارتباط الرُّوحيُّ والوجدانيُّ بهذا الموسم، وبقدر ما يتجذَّر هذا الارتباط تتحرَّك الأهداف.
ثالثًا: أنْ يتأسَّس التَّمثُّل العمليُّ والسُّلوكيُّ لمعطيات هذا الموسم.
صحيحٌ أنَّ للوعي قِيمَته الكبرى.
وصحيحٌ أنَّ للانصهار الوجدانيُّ قِيمته الكبرى.
ولكِن تبقى القِيمة الأهمّ لهذا الموسم حينما تتحرَّك أهدافه في كلِّ الواقع الأُسريّ والاجتماعيّ.
العنوان الذي يُراد للموسم في هذا العام أنْ يحرِّكه هو (الدُّور التَّربويّ والرِّساليّ للمرأة)، استلهامًا مِن الزَّهراء والحوراء (عليهما السَّلام) وهما القمَّتان الإيمانيَّتان في تاريخ المرأة.
وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
[1] السَّجستاني: سنن أبي داود 2/208، (كتاب المهديّ).
[2] ابن حنبل: مسند الإمام أحمد بن حنبل 3/45، (مسند أبي سعيد الخدري)، ح 11319.
[3] ابن حنبل: مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/490، (مسند عبد الله بن مسعود)، ح 3570
[4] هذه إضافة توضيحيَّة من سماحة السَّيد لا من المصدر نفسه.
[5] ابن ماجة: سنن ابن ماجة 2/1367، (ك 36: الفتن، ب 34: خروج المهديّ)، ح 4084.
[6] جاء هذا التعبير في عدة روايات، منها:
– عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – في حديث يذكر فيه أصحاب القائم – «…
فهؤلاء ثَلاثُمِئَةٍ وثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، يَجمَعُهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بمَكَّةَ في لَيلَةٍ واحِدَةٍ …
فقالَ أبو بَصيرٍ: جُعِلتُ فِداكَ، لَيسَ عَلَى ظَهرِها مُؤمِنٌ غَيرُ هؤلاء؟
قالَ: بَلى، ولكِنَّ هذِهِ العِدَّةَ الَّتي يخرجُ فيهَا القائِمَ (عليه السَّلام)، وهُمُ النُّجَباءُ وهُمُ الفُقَهاءُ وهُمُ الحُكّامُ وَهُمُ القُضاةُ الذين يَمسَحُ بُطونَهُم وظُهورَهُم فَلا يشكل عَليكم حُكمٌ».
(ابن طاووس: الملاحم والفتن، ص 204، في عدَّة أصحاب القائم (ع)).
– «ينزل عيسى ابن مريم ثمانمائة رجل وأربعمائة امرأة أخيار من على الأرض وصلحاء من مضى» (الديلمي عن أبي هريرة)
(كنز العمال، ج 14، المتقي الهندي، ص 338، ح 38863)
– فردوس الأخبار: عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه واله قال: «ينزل عيسى بن مريم على ثمانمائة رجل وأربعمائة امرأة، خيار من على الأرض، وأصلح من مضى».
(محمد أمير الناصري: الإمام المهدي (ع) في الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة، ص 152)
[7] المفيد: الاختصاص، ص 208، (في اثبات إمامة الأئمَّة الاثنى عشر (ع)).
[8] المجلسي: بحار الأنوار 13/352، (ك: تاريخ الحجَّة (ع)، ب 26: خروجه وما يدل عليه وما يحدث عنده)، ح 82.
[9] جاء في الحديث: «… كَالمَصابيحِ كَأَنَّ قُلوبَهُمُ القَناديلُ، وهُم مِنَ خَشيَةِ اللَّهِ مُشفِقونَ، يَدعونَ بِالشَّهادَةِ، ويَتَمَنَّونَ أن يُقتَلوا في سَبيلِ اللَّهِ، شعِارُهُم: يا لَثاراتِ الحُسَينِ، إذا ساروا يَسيرُ الرُّعبُ أمامَهُم مَسيرَةَ شَهرٍ، يَمشونَ إلَى المَولى إرسالًا، بِهِم يَنصُرُ اللَّهُ إمامَ الحَقِّ».
المجلسي: بحار الأنوار 13/352، (ك: تاريخ الحجَّة (ع)، ب 26: خروجه وما يدل عليه وما يحدث عنده)، ح 82.
[10] ابن أبي زينب النُّعماني: الغَيبة، ص 215، (ما جاء في ذكر جيش الغضب)، ح 10.