حديث الجمعة 645: الصِّياغات المنحرفة للانتظار – وهكذا يستمرُّ كيانُ الصَّهاينة في صناعة الإرهاب
مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول | حديث الجمعة (645) تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 22 ربيع الأول 1446هـ الموافق: 26 سبتمبر 2024 م
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
عِشنَا مناسَبتين كبيرتين، المولد النَّبويّ الشَّريف، ومولد سادسِ الأئمَّة مِن أهلِ البيت الإمامِ الصَّادقِ (عليه السَّلام)، وحيث كان الحديثُ موصولًا حول الانتظار هنا نحاول أنْ نقرأ الانتظار كما أنتجته كلماتُ الرَّسولِ الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)، وكلماتُ أئمَّتِنا الأطهار (عليهم صلواتُ الله).
إنَّ ثقافة الانتظار تشكِّل عنوانًا كبيرًا في منظومةِ الفكر الدِّينيِّ؛ ممَّا يفرض على حملة هذا الفكر مِن علماءَ وخطباءَ ومثقَّفين أنْ يُغذُّوا أجيالَ الأُمَّة بهذه الثَّقافةِ.
وبقدرِ ما تنشطُ ثقافةُ الانتظارِ، وبقدرِ ما تتمركز في وعي الأجيال؛ يقوى الارتباطُ بإمامِنا صاحبِ العصرِ والزَّمان.
وهكذا تتحصَّن أجيالُ أُمَّتنا في مواجهةِ مشاريع العبث بمنظورِ الانتظارِ، فلا يخلو عصرٌ مِن عابثين
ومُشَوِّهين لعنوانِ الانتظار.
أضع بين أيديكم أيُّها الملأ الكريم بعض نماذج أعطت الانتظار إمَّا شكلًا باهتًا، أو شكلًا مُزوَّرًا.
فالشَّكلُ الباهت للانتظار هو الذي لا يتجاوز بعضَ أورادٍ، وبعضَ تمنِّيات.
لا نقلِّل مِن قِيمة الأدعية والأوراد الثَّابتة متى توفَّر شرطان أساسان:
الشَّرطُ الأوَّل: أنْ تكون قراءة هذه الأدعية قراءة بصيرةً وواعية.
الشَّرطُ الثَّاني: أنْ تكون قراءة فاعِلةً ومُنتِجة.
إنَّ كلمات النَّبيِّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) أعطت للانتظار قِيمة عُظمى، وكذلك كلماتُ الأئمَّة مِن أهل البيت (عليهم السَّلام).
يكفي أنْ نقرأ هذا الحديث الثَّابت عن نبيِّنا الأكرم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «أفضلُ العِبادةِ انتظارُ الفَرَجِ».( ) (إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة، ص 282، الشَّيخ الصَّدوق)
في ضوء هذا الفهم يجب أنْ نتعاطى مع أدعية الغَيبة.
جاء في الكلمة عن إمامنا الصَّادق (عليه السَّلام): «مَنْ دَعَا إِلَى اللهِ تعالى أَرْبَعِينَ صَبَاحًا بِهَذَا الْعَهْدِ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ قَائِمِنَا، …».( ) (مفاتيح الجنان، ص 539، الشَّيخ القمّيّ)
ولكن أيَّة قراءة؟
القراءة الحقيقيَّة التي تحمل وَعيًا، وإخلاصًا، والتزامًا، وتُمثِّل بيعةً صادقةً.
في مقطعٍ مِن دُعاء العَهد جاء هذا النَّصُّ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أُجَدِّدُ لَهُ [أي الإمام المهديّ]( ) فِي صَبيحةِ يَوْمِي هذا، وَما عِشْتُ مِنْ أيَّامِي عَهْدًا وَعَقْدًا وَبَيْعَةً لَهُ فِي عُنُقِي، لا أَحُولُ عَنْها وَلا أَزُولُ أَبَدًا، …».( ) (مفاتيح الجنان، ص 539، الشَّيخ القمّيّ)
مِن خلالِ هذا المنظور الواعي تتأسَّسُ القِيمة الكبرى للانتظار.
وأمَّا الصِّياغات المنحرفة للانتظار فهذه أمثلتُها:
المثالُ الأوَّل: الانتظار التَّعطيلي
ويتمثَّلُ في (تجميدِ فريضةِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكر) بدعوى أنَّ هذه الفريضة مناطة بالإمام المهديِّ (عليه السَّلام) فهو المصلح وهو المغيِّر، فأيُّ جهدٍ في هذا الاتِّجاه قبل ظهور الإمام فهو جهد ضائع، فلماذا تُستهلك الطَّاقاتُ في هذا الجهدِ الضَّائع؟
هذه الصِّيغة التَّعطيليَّة تتناقض مع كلِّ الثَّوابت الدِّينيَّة والتي أكَّدتها آيات القُرآن، وأكَّدتها روايات النُّبوَّة وسُنَّة الأئمَّة المعصومين، ففريضة الدَّعوة إلى الله وفريضة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر قائمة ومستمرَّة، ولها شروطها الفقهيَّة وضوابطها الشَّرعيَّة.
المثالُ الثَّاني: الانتظار الضَّالُّ المُدمِّر
ويقول هذا الانتظار أنَّ مسؤوليَّتنا في عصر الغَيبة هي العمل على نشر الفساد في الأرض، وهذا ما يعجِّل بظهور الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) حيث أنَّه لن يظهر إلَّا إذا امتلأت الأرض ظُلمًا وجورًا وفسادًا وضَلالًا!
هكذا يصوغ الشَّيطان الرَّجيم هذه المفاهيم الضَّالة المُدمِّرة، والتي تحاول أنْ تعبث بمفاهيم الدِّين وقِيمه وعَناوينه.
المثالُ الثَّالث: وهو أخطر الصِّياغات
ويتمثَّل في (ادِّعاء السَّفارة الكاذبة)
وقد جاء في آخر توقيعٍ صادرٍ عن إمامنا المهديِّ المنتظر (عليه السَّلام) أنَّ مَن ادَّعى السَّفارة في عصر الغَيبة الكبرى فهو «كذَّاب مفتر»( )؛ لأنَّ هذا الادِّعاء فيه تضليلٌ خطير، وسرقةٌ سافرة لمضمون النِّيابة عن الإمام المهديِّ (عليه السَّلام).
النِّيابة الخاصَّة في عصر الغَيبة الصُّغرى هي للسُّفراء الأربعة، وانتهت هذه النِّيابة برحيل النَّائب الرَّابع عليِّ بن محمَّد السَّمري.
النِّيابة العامَّة في عصر الغَيبة الكبرى هي للفقهاء العدول، فلا يجوز أنْ يتصدَّى لهذه المهمَّة الكبرى إلَّا مَنْ توفَّر على مجموعة شروط:
الشَّرطُ الأوَّل: الكفاءة الاجتهاديَّة المتميِّزة
الشَّرطُ الثَّاني: الكفاءة السُّلوكيَّة (العدالة)
الشَّرطُ الثَّالث: الكفاءة القياديَّة المتقدِّمة
وهكذا تُحصَّن مسيرة الأُمَّة في زحمة التَّحدِّيات الكبرى، فالفقهاء العُدول الأكفَّاء هم الحُرَّاس الأُمناء لهذه المسيرة، هكذا يتأصَّل مشروعُ الانتظار، وكم هي الحاجة كبيرة جدًّا إلى هذا التَّأصيل، وكم هي الحاجة كبيرة جدًّا أنْ يرتقي خطاب التَّأصيل الانتظاري.
هنا تكون الضَّرورة في توظيف خطابِ المناسبات الدِّينيَّة في خدمة أهدافِ الانتظار، خاصَّة مناسبة كبرى كمناسبة مولدِ الرَّسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)، ومناسبة مهمَّة كمناسبة ميلاد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام)، فنبيُّنا الأكرم (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) هو المؤصِّل الأوَّل لمسألةِ الانتظار كما أكَّدت ذلك الأحاديث، والتي بلغت حدَّ التَّواتر بحسب مصطلح علماءِ الرِّجال وعلماءِ الحديث مِن السُّنَّةِ والشِّيعةِ وجميع مذاهب المسلمين.
وهكذا يستمرُّ كيانُ الصَّهاينة في صناعة الإرهاب
ما حدث في الأيَّام الأخيرة مِن عُدوانٍ أحمق على لبنان يُشكِّل عنوانًا كبيرًا مِن عناوين الإرهاب، بكلِّ طَيشهِ ونَزقِهِ وفُجوره، وبما حصده مِن آلاف الضَّحايا وعلى مرأى ومسمع كلِّ العالم، ومدعومًا مِن قُوى كبرى، وهكذا يستمرُّ هذا الكيان الغاصب في إنتاج الإرهاب وصناعة الدَّمار، في كلِّ موقعٍ يطالُهُ بَطشُه وطُغيانُه وإرهابُه وطَيشُه في غزَّة، في القُدسِ، في كلِّ شبرٍ مِن أرضِ فلسطين، في لبنان، وفي أيِّ مكانٍ يمتدُّ إليه نزقُه وغرورُه!
هكذا يعبثون بالأرواحِ، ويسفكون الدِّماء، ويهتكون الأعراض، ويُدمِّرُونَ، ويُفسِدُون في الأرض ولا يستثنون معبدًا ومسجدًا ومستشفى ودُور أيتام، ولا يستثنون نِساءً وأطفالًا وشُيوخًا!
وتدعمُهُم قُوى كبرى، وتصمتُ قوى أخرى، وتصدر كلماتٌ خجولةٌ هنا وهناك لا تغيِّر شيئًا، ولا تُوقِف طَيشًا، ولا تدفع طُغيانًا…
وتبقى المواقف النَّبيلة، والشَّريفة، والصَّادقة لها كلُّ الاحترام، وكلُّ الثَّناء والتَّقدير مهما كان حجم هذه المواقف صدرت مِن أنظمة أو صَدَرتْ مِن شُعُوب.
إنَّ مواقف الطَّيش الصَّادرة مِن الكيان الغاصب هي امتحانٌ صعبٌ لمواقف أُمَّتنا الإسلاميَّة، وأُمَّتنا العربيَّة بكلِّ أنظمتها وبكلِّ شعوبِها، لسنا هنا دُعاةَ حربٍ ودُعاةَ عُنفٍ، وإنَّما دُعاة مواقف عادلةٍ تطالب بالحقوق، وتدافع عن الكرامة، وترفض بطش هذا الكيان الغاصب والذي استهان بكلِّ القِيمِ والمُثلِ، وبكلِّ المعاني الخيِّرة فمضى يسفك الدِّماء ويحصد الأرواح متنكِّرًا لكلِّ المبادئ!
فما أحوج هذه المرحلة الصَّعبة أنْ تتوحَّد المواقف إصغاءً لقول الله تعالى: ﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ …﴾ (سورة آل عِمۡرَان: الآية 103)، ولقوله عزَّ اسمه: ﴿… وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ …﴾. (سورة المَائـِدَة: الآية 2)
فإذا لم تُوحِّد أُمَّتَنا هذه الأزماتُ القاسية فأيُّ شيئٍ يُوحُّدها، وأيُّ شيئٍ يُقاربُها، وأيُّ شيئٍ يوقظ الضَّمائر، وأيُّ شيئٍ يستصرخ وِجْدَانَ هذه الأُمَّة إذا لم يستصرخه دِماءُ الطُّفولة البريئة، ودِماء النِّساء، وكلُّ هذا الاستنزاف مِن الأرواح؟
وسوف يبقى صَلَفُ الصَّهاينةِ مستمرًا ما دامت المواقف خجولة، وما دامت المواقف مشتَّتة، ولكن حينما تستنفر مواقف هذه الأُمَّة بكلِّ شعوبها وبكلِّ أنظمتها، وحينما تتلاقى الإرادات الخيِّرة، والرَّشيدة تتغيَّر كلّ الحسابات، وتتغير كلّ المعادلات.
المرحلة بكلِّ تحدِّياتها فرصة كبيرة لكي تنشط المراجعات والتي تصب في خير أُمَّتنا، وفي خير أوطاننا، وفي خير شعوبنا.
ما يحدث على أرض فلسطين، وعلى أرض لبنان هو امتحانٌ صعبٌ للإراداتِ، وللمواقفِ، ولكلِّ الخيارات.
وحتميَّة الغلبةِ والنَّصرِ لعبادِ اللهِ الصَّالحين: ﴿إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ (سورة آل عِمۡرَان: الآية 160)
فمتى كانت العودةُ صادقةً إلى الله، ومتى توحَّدت الإرادات كان النَّصرُ مُؤكَّدا مهما تآزرت قوى الشَّرّ، ومهما تعملقت قوى الباطل، فلتمتد كلّ الأيدي الضَّارِعةُ إلى الله، الواثقة بنصر الله، المملوءة بحبِّ الله، فأبواب السَّماء مفتَّحة، إنَّها المعادلة التي لا يفهمها إلَّا مَنْ تمكَّنَ الإيمان في قلبِهِ، وتمركز عشقُ اللهِ في وجدانِهِ، وقويَ التَّوكُّلُ لديه، هنا تنهزم كلُّ قُدُراتِ البغي والطُّغيانِ، وتنهزمُ إراداتُ الشَّيطانِ ما دام العشقُ قائمًا، وما دام التَّوكُّلُ واثقًا، وهكذا تسقط كلُّ حساباتِ الأرض وتبقى حساباتُ السَّماء، فالإرادة القاهرة هي إرادةُ الخالق العظيم، والمشيئة هي مشيئتُه سُبحانه، فلتستمر الأيدي مشدودةً إلى السَّماءِ، والألسنُ ضارعةً إلى الله، في كلِّ مواقعِ العِبادةِ والدُّعاءِ وفي مظَّانِ الضَّراعة والبكاء، هكذا ينتصر سلاحُ الإيمان، وهكذا ينتصر الحقُّ.
فالحاجةُ كلُّ الحاجةِ في هذا الزَّمانِ المشحونِ بتحدِّيات الباطلِ، وتعملقاتِ الضَّلالِ أنْ تقوى ثقة العِبادِ بربِّ العباد، هنا ينهزم الباطل، ويندحر الضَّلال.
وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.