آخر الأخبارملفات أخرى

كلمة العلاّمة الغريفي لحجاج بيت الله الحرام الواقفين بأرض عرفة 1445هـ

يوم عرفة تاريخ: يوم السبت 1 ذو الحجة 1445هـ| الموافق: 8 يونيو 2024 م

أعوذ بالله السَّميع العليم مِن الشَّيطان الغويّ الرَّجيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين، سيِّدنا، ونبيِّنا، وحبيبنا، وقائدنا، مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين، المرحومين، الأخيار، الأبرار.

السَّلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.

السَّلامُ على ضيوف الله في يومِ الضِّيافة الأعظم

السَّلامُ على اللَّائذين برحمةِ الله

السَّلامُ على المغمورين بنفحاتِ الله

السَّلامُ على الذَّائبين في عُشقِ الله

السَّلامُ على الباكين مِن خشيةِ الله

أيُّ يومٍ هذا؟ إنَّه يومُ عرفة.

أيُّ أرضٍ هذه؟ إنَّها أرض عرفة.

أيُّ ضيوفٍ أنتم؟ أنتم ضيوف الرَّحمن.

وماذا أعدَّ الله لضيوفِه؟

أعدَّ لهم فُيوضاتٍ عظيمة مِن الرَّحمة والمغفرة.

أعدَّ لهم رضوانه الأعظم.

أعدَّ لهم عفوه وكرمه.

 

وأنتم يا ضيوف الرَّحمن ماذا أعددتم؟

مطلوبٌ بعض دموعٍ ضارعات.

مطلوبٌ بعض عباداتٍ خاشعات

في هذه اللَّحظاتِ الملائكة تزدحم هنا [هنا في عرفات] …

في هذه اللَّحظاتِ تستلم الملائكة كلَّ دمعة…

في هذه اللَّحظاتِ يباهي بكم الرَّبُّ العظيم

[كما يقول الحبيب المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)]:

  • «…، فإِذا وَقَفوا بعَرَفات، وضَجَّتِ الأَصواتُ بِالحاجاتِ باهَى اللهُ بِهِم مَلائِكةَ سَبعِ سَماوات، ويَقولُ: مَلائِكَتي وسُكّانَ سَماواتي، أما تَرَونَ إلى عِبادي أتَوني مِن كُلِّ فَجٍّ عَميق، شُعثًا غُبرًا، قد أنفَقُوا الأَموالَ، وأتعَبُوا الأَبدانَ؟! فَوَعِزَّتي وجَلالي وكرمي لأَهَبَنَّ مُسيئَهُم بِمُحسِنِهِم، ولأُخرِجَنَّهُم مِنَ الذُّنوبِ كَيَوم وَلَدَتهُم أُمَّهاتُهُم، …».[1]

 

لا لُغةَ في هذهِ اللَّحظات وعلى أرضِ عرفات، لا لُغةَ إِلَّا لُغةَ الدُّموع، هُنا تلتقط الملائكة كلَّ دمعةٍ، وكلَّ عبرةٍ، وكلَّ صرخةٍ ذائبة في حبِّ اللهِ، وخاشعةٍ بين يدي الله، وضارعةٍ طمعًا في رحمةِ الله.

ولا يوم يمتلأ بالرَّحمةِ كيومِ عرفةِ، ولا أرض تزدحم بالرَّحمةِ كأرضِ عرفة.

فالبدار البدار للاغترافِ مِن رحمةِ الله، والبدار البدار للارتواء مِن لطفِ الله. والبدار البدار للاستقاء مِن كرمِ الله.

اسمحوا لدموعكم أنْ تتحدث مع الله.

واسمحوا لآهاتكم أنْ تخشع بين يدي الله.

إنَّها فرصتكم الكبرى لهذا الحديث، ولهذا الخشوع.

فلا تضيِّعُوا أيَّ لحظةٍ مِن لحظاتِ هذه الموقف العظيم، وعلى هذه الأرضِ العظيمة، واسألوا ربَّكم ضارعين باكين أنْ يغفرَ ذنوبكم، ويتجاوز عن خطاياكم، ويجعلكم مِن المقرَّبين المحفوفين بعطاءِ اللهِ ورحمةِ الله.

ضعوا هذه الذُّنوبَ وهذه الخطايا بين يدي ربِّكم، وثقوا أنَّه نعمَّ الرَّبُّ، ونعمَّ المولى، هو الرَّبُّ الرَّحيم، وهو الرَّبُّ الكريم، وهو الرَّبُّ العطوف، وهو الرَّبُّ الحنون.

خاطبوا هذا الرَّبّ بلُغةِ الدُّموع وهي أصدقُ لُغةٍ، أصدق مِن الكلماتِ، إلَّا الكلمات الضَّارعة التي تمتزج مع لُغة العيون، ولُغة القلوب.

كم هم المحرومون مِن هذه اللَّحظات؟

كم هم المحرومون مِن هذه الفُيوضات؟

كم هم المحرومون مِن هذه البركات؟

إلَّا مَنْ حظي بشيئٍ مِن دعواتكم.

اذكرُوا آباءكم وأمَّهاتِكم.

اذكرُوا كلَّ قراباتكم.

اذكرُوا كلَّ أحبَّائكم وإخوانكم.

اذكرُوا كلَّ مَنْ لَهُ حقٌّ عليكم.

اذكروا كلَّ المسلمين.

أكرِّر القول: اسمحوا لدموعكم أنْ تتحدث.

تذكَّرُوا الموت؛ ترقُّ قلوبكم، وتجري دموعكم.

تذكَّرُوا الاحتضار.

تذكَّروا القبر وظُلمته.

تذكَّروا البرزخ وشدائده.

تذكَّروا المحشر وأهواله.

تذكَّروا الصِّراط والميزان وتطاير الصُّحف.

تذكَّروا الجنَّة ونعيمها.

تذكَّروا النَّار وزفيرها.

هنا تتحدَّث لُغة الدُّموع، وهي أغلى لُغةٍ، وأصدقُ لُغةٍ.

اسألوا الله الرَّحمةَ عند سَكراتِ الموت.

اسألوا الله الرَّحمةَ عند ظُلماتِ القُبُور.

اسألوا الله الرَّحمةَ حين البَعث والنُّشُور.

اسألوا الله الرَّحمةَ حينما تُوْضعُ الموازين وتُنْشرُ الصُّحف.

اسألوا الله الرَّحمةَ حينما يجوز الخلق على الصِّراط.

اسألوا الله الرَّحمةَ حينما يتمايز الأخيار عن الأشرار.

حينما يقُال للأخيار:

  • {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}. (سورة ق/34)
  • {سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. (سورة الرَّعد/24)
  • {… سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. (سورة النَّحل/32)
  • {سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}. (سورة يس/58)
  • {… لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ …}. (سورة الزُّمر/20)
  • {عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}. (سورة الواقعة/15 – 26)

 

أيُّها الأحبَّةُ الواقفونَ على أرضِ عرفةِ في يومِ عرفةِ، إنَّها لحظاتٌ لا تناظرها لحظاتٌ، فيها تزدحمُ الملائكةُ لِتُهنِّأ الواقفين هُنا في عرفات، ولتلتقط كلَّ دَمْعةٍ ضَارِعةٍ إلى الله، طامعةٍ في ثوابِ الله، خائفةٍ مِن عقابِ اللهِ

البكاء البكاء، التَّضرُّع التَّضرُّع…

فأنتم بين يدي ربٍّ كريم، في يومٍ عظيم.

في هذا اليوم تُغفرُ الذُّنوب.

في هذا اليوم تُمحَى السَّيِّئات.

في هذا اليوم تُكتبُ الحَسنات.

في هذا اليوم تُرفعُ الدَّرجات.

في هذا اليوم تُنشرُ الرَّحمات.

ففي أيِّ مقامٍ أنتم؟

وفي أيِّ يومٍ أنتم؟

وعلى أيِّ أرضٍ أنتم؟

هنا تعجزُ الكلماتُ أنْ تخاطبكم.

فكيف وأنتم المغمورون بفيوضات الله، وبكرامة الله، وبلطف الله…

فلا تضيِّعوا هذه المقامات العظمى.

اسألوا ربَّكم التَّوبة.

اعترفوا بكلِّ ما صدر مِنكم مِن تفريط.

اطلبوا مِن ربِّكم المغفرة.

فهذا يوم التَّوبة.

وهذا يوم المغفرة.

إذا لم تكن التَّوبة في يوم عرفة، وعلى أرضِ عرفة، فمتى تكون، وأين تكون…؟

كلُّ لحظةٍ مِن لحظاتِ هذا اليوم غنيَّة بعطاءِ الله، وبكرمِ الله، وبرحمةِ الله.

فلا تفرِّطوا في هذا اللَّحظات.

وسوف يأتيكم النِّداء وأنتم تتهيَّأون للإفاضة مِن عرفات: انصرفوا مغفورًا لكم، انصرفوا راضين مرضيِّين، انصرفوا كما ولدتكم أُمهاتكم.

انصرفوا كُرَماءَ عند ربِّكم.

انصرفوا مغمورين بفيوضاتِ الرَّحمة، ونفحاتِ المغفرة.

انصرفوا تحفُّكم الملائكة الأخيار.

 

أيُّها الأحِبَّة:

أنتم على موعدٍ مع دُعاءِ الإمام الحُسين (عليه السَّلام) في يوم عرفة.

وعلى موعدٍ مع دعاء الإمام زين العابدين (عليه السَّلام).

 

وكان الأئمَّة (عليهم السَّلام) يُذكِّرُونَ الحجيج بفاجعة كربلاء.

فهذه لقطة عاجلة تستحضر بعضَ دموعِ عاشوراء لتتمازج مع دموع عرفة، وما أعظمه مِن تمازج.

في لقاءٍ ضمَّ الحُسينَ وأخته الحوراء زينب ليلة عاشوراء…

خاطبها بلسانِ الحال:

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ تتروى هذه السُّيوفُ مِن دمي.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ تُمزِّقُ السِّهام قلبي.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ تأكل الرِّماح الحاقدة مِن جسدي.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ يخسف الحجرُ الطَّائش جبهتي.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ يجثم الشِّمرُ اللَّعين على صدري.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ يذبح الشِّمرُ نحري.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ يبقى الجسدَ المبضَّع بالسُّيوفِ طريحًا فوق رمال كربلاء.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ تتحوَّل أضلاعي ميدانًا لحوافر الخيول.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ تُحرَقُ الخيام، تُسلَبُ النِّساء، تُضربُ الأطفال.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ تحملون على نياقٍ عجَّفٍ بلا وطاء ولا غطاء.

أُختاهُ زينب… ودِّعيني فعمَّا قريبٍ يكون الفراق، وهناك الملتقى عند جدِّنا المُصطفى، وأبينا المُرتضى، وأُمِّنا الزَّهراء.

 

بقيت كلمة:

جدِّدوا البيعةَ مع إمامِكم المهدي المنتظر (عليه السَّلام) فلا شكَّ أنَّه مِن حُضَّار الموقف.

يدعو كما تدعون، ويبكي كما تبكون، ويتضرَّع كما تتضرَّعون.

إلَّا أنَّه يحمل كلَّ هموم المسلمين، بل كلَّ هموم العالم.

إنَّه ينتظر اليوم الموعود؛ ليخرج فيملأ الأرضَ قِسطًا وعَدلًا كما مُلئت ظُلمًا وجورًا.

إنَّه يَراكم ولا ترونَهُ، يسمع كلَّ تضرَّعاتِكم، وكلَّ آهاتِكم، وكلَّ أشواقِكم.

وكلَّما ارتقى مستوى العروجِ الرُّوحيِّ.

وكلَّما ارتقى مستوى الانصهارِ والذَّوبانِ.

وكلَّما ارتقى مستوى العشق والهَيام لصاحبِ العصرِ والزَّمانِ.

وكلَّما ارتقى مستوى التَّقوى والصَّلاحِ.

وكلَّما ارتقى مستوى الصِّدقِ والإخلاصِ.

وكلَّما ارتقى مستوى الإرادةِ والعطاء.

وكلَّما ارتقى مستوى الفاعليَّة والحَراك.

فأنتم مُؤهَّلُونَ لأنْ تشملكم بعضُ نفحاتِ الحضور المبارك لمولانا صاحبِ الزَّمانِ، وبعضُ تضرُّعاته

ومناجاته، وبعضُ فيوضاتِه وبركاتِه.

فاحرصوا كلَّ الحرصِ في هذه اللَّحظات المملوءة بالبركاتِ الإيمانيَّةِ، والعطاءاتِ الرَّوحانيَّةِ أنْ لا تنصرف قلوبُكم إلى مُغْريات الدُّنيا، ومَشْدُوداتِ الهَوى، في يومٍ يمتلئ بفيوضاتِ الرَّحمةِ الإلهيَّة، وبألطافِ الكرامةِ الرَّبَّانيَّة.

فتهيَّأوا للاغترافِ مِن رحمةِ الله.

وتهيَّأوا للذَّوبان في عُشقِ الله.

وتهيَّأوا للانصهار في عطاء الله.

ولنكن مشمولين بشيئ مِن دعواتِكم المباركةِ.

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

[1] نصر بن محمَّد السَّمرقندي: تنبيه الغافلين، ص 229، (باب في فضل الحجّ).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى