حديث الجمعة 636: كيف نحافظُ على المُستوى الرُّوحيّ؟ – مؤتمر القِمَّة العربيَّة المنعقد في البحرين
حديث الجمعة (636) | تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 7 ذو القعدة 1445هـ - الموافق: 16 مايو 2024 م | مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول - البحرين
كيف نحافظُ على المُستوى الرُّوحيّ؟
لا شكَّ أنَّ شهرَ اللهِ قد خَلَقَ ارتقاءً روحيًّا كبيرًا، والمشكلة كيف تحافظ على هذا المستوى مِن الارتقاءِ الرُّوحيِّ، أو على درجةٍ مقبولةٍ منه؟
مطلوبٌ لكي نُحقِّقَ هذه المحافظةَ أنْ نمارسَ مراقبةً جادَّةً للقلب، فلا نسمح له أنْ يتلوَّثَ.
- قالَ اللهُ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.([1])
كثيرونَ يحمِلونَ ظاهرًا جميلًا، لكنَّ الباطنَ قبيحٌ، لكنَّ القلبَ ملوَّثٌ، هذا أمرٌ سيِّئٌ جدًّا.
- جاء في الكلمة عن الإمامِ الباقر (عليه السَّلام): «مَنْ كانَ ظَاهِرُهُ أرجَحَ مِن باطِنِهِ خَفَّ مِيزانُهُ يومَ القيامة، ومَنْ كانَ بَاطِنُهُ أرجحَ مِن ظَاهِرهِ ثَقُلَ مِيزانُهُ يومَ القيامة».([2])
مِن النَّاس مَنْ يكون كبيرًا في ظاهرِهِ، عظيمًا، شريفًا، قدِّيسًا، لكنَّهُ عند الله صغيرٌ وضيعٌ حقيرٌ.
- «إنَّ العَبْدَ لَيُنْشَرُ لَهُ مِن الثَّناءِ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما يزنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ».([3])
فالمراقبة المراقبة، والمحاسبة المحاسبة.
- قالَ الإمامُ الصَّادق (عليه السَّلام): «…، أَلا فحاسِبوا أنْفُسَكُم قَبلَ أنْ تُحاسَبوا، فإنَّ أمْكِنَةَ القِيامَةِ خَمْسونَ مَوْقِفًا، كُلُّ مَوقِفٍ مَقامُ ألْفِ سَنَةٍ – ثُمَّ تَلا هذهِ الآيةَ – ﴿… فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾[4]».([5])
ما المقصود بقوله تعالى: ﴿… فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾([6])؟
هنا أقوال:
القول الأوَّل: إنَّ هذا اليوم الذي تقطعه الملائكة لو أراد الإنسان أنْ يقطعه لقطعه في (خمسين ألف سنة).
القول الثَّاني: إنَّ أحداث يوم القيامة لو فعلت في الدُّنيا لاحتاجت إلى هذا المقدار مِن الزَّمان.
القول الثَّالث: إنَّ هذا العدد هو كناية عن الكثرة، أي أنَّ ذلك اليوم طويل جدًّا.
ثُمَّ إنَّ هذا الطَّول ليوم القيامة إنَّما يخصُّ الكفَّار والظَّلمة والمجرمين.
- في الحديث أنَّه سأل سائل النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) بعد نزول هذه الآية عن طول ذلك اليوم فقالَ (صلَّى الله عليه وآله): «والذي نفسُ مُحمَّدٍ بيده إنَّه ليخف على المؤمن حتَّى يكون أخفُّ عليه من صلاة مكتوبة يُصلِّيها في الدُّنيا».([7])
وهناك أقوامٌ يدخلون الجنَّة بغير حساب.
أذكر هنا نموذجين:
(1) الصَّابِرُونَ:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.([8])
الصَّابرونَ على طاعة الله
الصَّابرونَ عن معصية الله
الصَّابرونَ على بلاء الله
- قال الإمام زين العابدين (عليه السَّلام): «إذا جَمعَ اللهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ يُنادي مُنادٍ: أينَ الصَّابِرونَ لِيَدْخُلوا الجَنَّةَ جَميعًا بغَيرِ حِسابٍ.
قال: فيقومُ عنقٌ من النَّاس، فتتلقاهم الملائكةُ فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟
فيقولون إلى الجنَّة.
فيقولون: وقبل الحساب؟
فقالوا: نعم.
قالوا [المَلائكَةُ]: مَنْ أنتُم؟
قالوا: الصَّابرون.
قالوا: وما كان صَبْرُكُم؟
قالوا: صَبَرْنا على طاعَةِ اللهِ، وصَبَرْنا عن مَعصِيَةِ اللهِ».([9])
(2) المتحابُّون في الله:
- قالَ الإمامُ زين العابدين (عليه السَّلام): «إذا جَمعَ اللهُ عزَّوجلَّ الأوَّلينَ والآخِرينَ، قامَ مُنادٍ فنادى يُسمِعُ النّاسَ فيقولُ: أينَ المُتَحابّونَ في اللهِ؟
قالَ: فيَقومُ عُنُقٌ مِن النَّاسِ فيُقالُ لَهُم: اذْهَبوا إلى الجَنَّةِ بغَيرِ حِسابٍ».([10])
فالنَّاس في المحشر ثلاثة أصناف:
﴿… فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ …﴾([11]): الذين تمرَّدوا على أوامر الله، فهؤلاء يطول وقوفهم في الحساب.
﴿… وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ …﴾([12]): الذين يزاوجون بين الطَّاعة والمعصية، فهؤلاء لهم وقوف في الحساب ولكنَّه أقل مِن وقوف المتمرِّدين الظَّالمين لأنفسهم.
﴿… وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ …﴾([13]): وهم الذين عاشوا الطَّاعة والالتزام، فهؤلاء هم السَّابقون إلى الجنَّة، وهؤلاء هم يهُون حسابُهم، أو يدخلون الجنَّة بغير حساب.
- قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ﴾.([14]) (الرَّعد: الآية 21)
- وقالَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله): «حَسِّنْ خُلُقَكَ يُخفِّفُ اللهُ حِسابَكَ».([15])
- وقالَ الإمامُ الصَّادق (عليه السَّلام): «إنَّ صلةَ الرَّحم تُهَوِّنُ الحسابَ يوم القيامة».([16])
نتابع الحديث – إن شاء الله تعالى -.
وهنا كلمة أخيرة : مؤتمر القِمَّة العربيَّة المنعقد في البحرين
الملتقياتُ الكبيرةُ قيمتُها حينما تكونُ القراراتُ كبيرة، وحينما تتحوَّل القراراتُ إلى أعمالٍ وممارساتٍ، وإلَّا فقدتْ هذه الملتقيات عِنْوانَها، وأهدافَها، وعَطَاءاتِها، ومِصْداقيَّتَها، ودلالاتِها.
فما أكثر قضايا أُمَّتِنا، وما أكثر قضايا أوطانِنا، وما أكثر قضايا شعوبنا، مِمَّا يفرض أنْ تتعاون الإراداتُ والقُدُرات في معالجةِ هذه القضايا، قضايا الأُمَّة، وقضايا الأوطان، وقضايا الشُّعوب.
وبقدرِ ما يقوى هذا التَّعاون
وبقدرِ ما تصدقُ النَّوايا
وبقدرِ ما تتحرَّكُ القرارات
وبقدر ما تتقاربُ القناعات
تكون المعالجاتُ جادَّةً، وصادقةً، وفاعِلةً.
أُمَّتُنا وفي هذه العصٍر المزدحم بالتَّحدِّياتِ، والمملوءِ بالتَّعقيداتِ، والمشحونِ بالأزماتِ، والمثقلِ بالإرهاقات…
أُمَّتُنا في حاجةٍ إلى معالجات قادرةٍ أنْ تقاربَ هذه التَّحدِّياتِ والتَّعقيداتِ والأزماتِ.
وهذه المعالجاتُ في حاجةٍ إلى إراداتٍ واثقةٍ، وعزائمَ صادقةٍ، وقُدُراتٍ ناشِطةٍ، وخياراتٍ متحرِّكةٍ.
وبقدرِ ما تكون الملتقيات جادَّة، ملتقيات الدِّين، ملتقيات السِّياسةِ، ملتقياتُ الثَّقافةِ، ملتقياتُ الاقتصادِ، ملتقياتُ الإعلام، تكون العطاءات فاعلة.
هكذا يجب أنْ تكون القراءة لمؤتمر القِمَّة العربيَّة المنعقد في البحرين، وفي مرحلةٍ بالغة الخطورة والحساسيَّة، ومملوءة بالتَّحدِّيات الصَّعبة جدًّا، وهذا يفرض أنْ تكون القرارات كبيرة، والإرادات كبيرة.
فها هي غزَّة تستغيثُ، وتستصرخُ كلَّ الضَّمائر، فالبطش الصُّهيونيُّ قد بلغ ذروته، فأرقام الضَّحايا مِن النِّساء والأطفال والشُّيوخ ومِن كلِّ الأعمار قد بلغت أرقامًا قياسيَّة، والتَّدمير المرعب يزداد ضراوةً، وقسوةً، وشِدَّةً على مرأى ومَسْمع مِن كلِّ العالم.
فهذا يُحمِّل المواقع الكبيرة في بلدان المسلمين، وبلدان العرب مسؤوليَّاتٍ استثنائيَّةٍ في مرحلة استثنائيَّة بالغة الخطورة.
فهل تكون قراراتُ المرحلةِ بمستوى ضراوة التَّحدِّيات؟
وهل تكون قراراتُ المرحلة قادرةً أنْ تُشكِّل ردعًا حقيقيًّا لكلِّ أشكال العدوان على أُمَّتنا، وعلى كرامتنا، وعلى أوطاننا؟
هذه التَّساؤُلات الكبيرة تفرض نفسَها حينما تعقد الملتقيات الكبيرة، خاصَّة وقد تزامن ملتقى القمَّة العربيَّة المنعقد في البحرين مع ذكرى النَّكبة في العام 1948 حيث كانت الهزيمة الكبرى للجيوش العربيَّة، وحيث كانت المجازر الفظيعة التي ارتكبها الصَّهاينة، وحيث التَّهجير لأبناء الأرض مِمَّا أنتج الإعلان عن قيام الدَّولة الصُّهيونيَّة، وتوالت الهزائم العربيَّة حتَّى جاءت نكسة حزيران عام 1967 بكلِّ نتائجها المُدمِّرة، فسقطت سيناء والجولان والضِّفَّة الغربيَّة والقُدس الشَّريف.
وهكذا أُصيبَ العربُ بنكسةٍ كبرى.
وجاءت حرب شهر رمضان سنة 1973 واستطاعت أن تُعيدَ بعض الأملِ وبعض الثِّقة.
نعم جاء طوفان الأقصى فأعاد لشعبنا في فلسطين، وللعرب، وللمسلمين درجة عالية جدًّا مِن الثِّقة، ودرجة عالية جدًّا مِن التَّوازن والقُدرة والثَّبات والأمل.
صحيح أنَّ العدوَ الصُّهيونيَّ ارتكب كلَّ الحماقات، ومارس كلَّ البطش، وأرعب ودمَّر، وصنع مِن الجرائم ما صنع… إلَّا أنَّ صمودَ المقاومة، وعُنفوَانَ المجاهدين، وثباتَ الأبطال في غزَّة، كلُّ ذلك استطاع تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، واستطاع أنْ يُعيدَ روح النَّصر، وإرادة التَّحدِّي.
هكذا أثبت طوفان الأقصى أنَّ خيار الجهاد والشَّهادة هو الخيار في الدِّفاعِ عن الأرضِ وعن المُقدَّسات.
نعم يأتي انعقاد القِمَّة العربيَّة في البحرين متزامنًا مع كلِّ هذه المتغيرات، فهل تأتي القرارات
في مستوى ضرورات هذه المرحلة؟
فنجاح الملتقيات يعتمد معيارين:
المعيارُ الأوَّل: أنْ تكون القرارات في مستوى ضرورات المرحلة.
المعيارُ الثَّاني: أنْ تتحوَّل القرارات إلى واقعٍ عمليٍّ متحرِّك.
هذا ما نتمنَّاه لملتقيات أُمَّتنا في زمن التَّحدِّيات الكبيرة والصَّعبة.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
[1] الشُّعراء: الآيات 88-89.
[2] المتَّقي الهندي: كنز العمال 3/269، (ك: الأخلاق، ق: الأفعال)، ح 8424.
[3] صدر المتألهين: شرح أصول الكافي 2/464، (ك: العقل، ب 16: لزوم الحُجَّة على العالم)، ح 4 (123).
[4] سورة المعارج: الآية 4.
[5] المفيد: الأمالي، ص 286، (المجلس التَّاسع والثَّلاثون)، ح 1.
[6] سورة المعارج: الآية 4.
[7] الطَّبرسي: تفسير مجمع البيان 10/120.
[8] سورة الزُّمر: الآية 10.
[9] المجلسي: بحار الأنوار 79/138، ب 18، ح 22.
[10] الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/95، ح 4047.
[11] سورة فاطر: الآية 32.
[12] سورة فاطر الآية 32.
[13] سورة فاطر: الآية 32.
[14] سورة الرَّعد: الآية 21.
[15] الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/88، ح 4029.
[16] الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/89، ح 4031.