حديث السبت (1): شهر رمضان شهر العبادة – نريدُ لهذا الوطن أنَّ يعمَّ الأمنُ والأمان والعدلُ والسَّلام
حديث السبت تاريخ: السبت 5 شهر رمضان 1445هـ - الموافق: 16 مارس 2024 م | مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) بالقفول - البحرين
شهر رمضان شهر العبادة
السَّلام عليكم أيُّها الأحِبَّة الكِرام ورحمة الله وبركاته.
أُبارك لكم هذا الشَّهر الفضيل، شهر الرَّحمة والكرامة واللُّطف الإلهيّ، نسأل الله أنْ يوفِّقنا
جميعًا لصيامه وقِيامه وأداء حقوقه.
◊ شهر رمضان شهر العبادة
هذا الشَّهرُ المباركُ هو شهرُ العِبادة.
وهُنا قد يُطرح سؤال:
أليسَ كلُّ الأشهر شهور عبادة؟
أليسَ كلُّ الأزمنة أزمنة عِبادة؟
العبادة مفتوحة على كلِّ الأزمنة والأمكنة.
كلُّ زمان هو زمان عِبادة، وكلُّ مكان هو مكان عِبادة.
ولكن لبعض الأزمنة خصوصيَّات.
مِن هذه الأزمنة:
♦ شهر رمضان:
لشهر رمضان خصوصيَّة؛ فهو شهر العِبادة.
اقرأوا خطبة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في استقبال الشَّهر الفضيل، فهي تحمل مضامين راقية جدًّا، تُشكِّل برنامجًا رمضانيًّا متكاملًا، اقرأوها كثيرًا، تأملوا في فقراتها، في مضامينها، في عطاءاتها.
هذا الشَّهر له خصوصيَّة، فالعِبادة تتضاعف، والثَّواب يتضاعف.
• «…، ومَنْ أدَّى فيهِ فَرضًا كانَ لَهُ ثَوابُ مَن أدَّى سَبعينَ فَريضَةً فيما سِواهُ مِنَ الشُّهورِ».[1]
• «…، ومَنْ تَطَوَّعَ فيهِ بِصَلاةٍ كُتِبَ لَهُ بَراءَةٌ مِنَ النَّارِ».[2]
• «ومَن تَلا فيهِ آيَةً مِنَ القُرآنِ كانَ لَهُ مِثلُ أجرِ مَن خَتَمَ القُرآنَ في غَيرِهِ مِنَ الشُّهورِ».[3]
♦ ليلة القدر
مراتب ومواقع ودرجات العبادة تتفاوت، وكلُّ اللَّيالي ليالي عبادة، لكن ليلة القدر لها خصوصيَّة، حيث فيها يتضاعف ثواب العبادة، ويتضاعف العطاء الرَّبانيّ، وتتضاعف النَّفحات الإلهيَّة.
ومِن هذه الأزمنة:
– ليلة النِّصف مِن شعبان
– يوم عرفة
– الأسحار
ولبعض الأمكنة خصوصيَّات:
كلُّ مكان لهُ قِيمته، لكن الكعبة المشرَّفة لها خصوصيَّة، حرم الإمام الحُسين (عليه السَّلام) له خصوصيَّة…
♦ الكعبة المُشرَّفة
• عَنْ أَبِي عَبْدِ الله [عليه السَّلام]، عَنْ آبَائِه [عليهم السَّلام]، قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ تَعْدِلُ مِائَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ».[4]
(الصَّلاة تعادل مائة ألف صلاة وقيل ألف ألف صلاة)
♦ مسجد الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله)
وللرَّوضة خصوصيَّة
• قالَ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: «ما بين قبري ومنبري روضة مِن رياض الجنَّة، …».[5]
♦ مشاهد الأئمَّة (عليهم السَّلام)
♦ المساجد
• قالَ الإمام الصَّادق (عليه السّلام): «علَيكُم بِإتيانِ المَساجِدِ؛ فإنَّها بُيوتُ اللهِ في الأرضِ، ومَنْ أتاها مُتَطَهِّرًا طَهَّرَهُ اللهُ مِن ذُنوبِهِ، وكُتِبَ مِن زُوَّارِهِ، فَأكثِرُوا فيها مِن الصَّلاةِ والدُّعاءِ، وصَلُّوا في المساجدِ في بِقاعٍ مختلفة؛ فإنَّ كلَّ بقعةٍ تشهدُ للمصلِّي عليها يوم القيامة».[6]
فهذا الشَّهر شهر العِبادة
ماذا تعني العِبادة في منظور الدِّين والإسلام؟
للعبادة مفهومان:
(1) المفهوم الخاص
ومِن تطبيقاته:
الصَّلاة، الصِّيام، الدُّعاء، الذِّكر، تلاوة القرآن
(2) المفهوم العام
الطَّاعة لأوامر الله في أيِّ موقعٍ مِن مواقعِ الحياة.
ومِن أمثلة العبادة في مفهومها العام:
1- التَّفقُّه في الدِّين
التَّفقُّه في الدِّين مِن أقدس وأعظم العِبادات.
العبادة بالمعنى العام طاعة لله، والمتفقِّه في دينه مطيعٌ لله.
• عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) قالَ:
«إذا جَلَسَ المُتَعَلِّمُ بَينَ يَدَيِ العالِمِ فَتَحَ اللهُ لَهُ سَبعينَ بابًا مِنَ الرَّحمَةِ، ولا يَقومُ مِن عِندِهِ إلَّا كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ، وأعطاهُ بِكُلِّ حَديثٍ عِبادَةَ سَنَة، ويبني بِكُلِّ وَرَقَةٍ مَدينَةً مِثل الدُّنيا عَشرَ مَرّاتٍ».[7]
2- حُسْنُ الخُلق
مِن أعظم العبادات في هذا الشَّهر: حُسْنُ الخُلق مع الزَّوجة، مع الزَّوج، مع الأولاد، مع الجيران، مع الأهل، مع كلِّ النَّاس.
ولذلك جاء في الخطبة الرَّمضانيَّة للنَّبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله):
قالَ (صلَّى الله عليه وآله): «أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ كَانَ لَهُ جَوَازٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ».[8]
يوجد صراط في الدُّنيا، ويوجد صراط في الآخرة.
مَن يمشي على صراط الله بشكلٍ مستقيم في الدُّنيا، يستطيع أنْ يمشي على الصِّراط يوم القيامة.
ومَن لا يمشي مستقيمًا على الصِّراط في الدُّنيا، سيتعثَّر على الصِّراط في الآخرة.
صراط الآخرة هو جسرٌ على جهنَّم، والنَّاس يمرُّون عليه أصناف:
• عن أبي عبد الله الصَّادق (عليه السَّلام)، قال: «النَّاسُ يمرُّون على الصِّراط طبقات، والصِّراط أدقُّ مِن الشَّعر ومِن حدِّ السَّيف، فمنهم مَنْ يَمرُّ مثل البَرق، ومنهم مَنْ يَمرُّ مثل عَدْوِ الفرس، ومنهم مَنْ يَمرُّ حبوًا، ومنهم مَنْ يَمرُّ مشيًا، ومنهم مَنْ يَمرُّ متعلقًا، قد تأخذُ النَّارُ منه شيئًا وتترك شيئًا».[9]
بمقدار سعيك وحركتك نحو الطَّاعات، ونحو مواقع الطَّاعة في الدُّنيا ستكون حركتك على الصِّراط.
فأنت تحدِّد مستوى سرعتك على الصِّراط بمستوى سرعتك في الدُّنيا نحو الطَّاعات.
3- الوَرَعُ عن مَحارمِ الله
مِن أعظم العِبادات.
• قالَ (صلَّى الله عليه وآله): «خَيرُ دينِكُمُ الوَرَعُ».[10]
• وقالَ الإمام الباقر (عليه السَّلام): «إِنَّ أَشَدَّ الْعِبَادَةِ الْوَرَعُ».[11]
• وقالَ (صلَّى الله عليه وآله): «رَكعَتانِ مِن رجُلٍ وَرِعٍ أفضَلُ مِن ألفِ رَكعَةٍ مِن مُخَلِّطٍ».[12]
التَّخليط: الإفساد – جمع الحلال مع الشُّبهات.
• لمَّا خطب النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) خطبته الرَّمضانيَّة المعروفة:
قالَ أميرُ المؤمنين (عليه السَّلام): فقمت فقلتُ: يا رسولَ الله ما أفضل الأعمالِ في هذا الشَّهر؟
فقال (صلَّى الله عليه وآله): يا أبا الحَسَنِ، أفضلُ الأعمالِ في هذا الشَّهر الورع عن محارمِ اللهِ عزَّ وجلَّ».[13]
لا قِيمة لأيِّ عمل إلَّا بالورع.
نتابع الحديث – إن شاء الله تعالى -.
◊ كلمة أخيرة
جاء الشَّهر الفضيل، شهرُ الله بكلِّ فيوضاتِه وبركاتِه، فالقلوب مشدودةٌ إلى اللهِ، والأيدي ممدودةٌ إلى السَّماء؛ داعيةً متضرِّعة، سائلةً الرَّحمةَ والمغفرة والرِّضوان.
هذا الشَّهر العظيم فرصةٌ كبيرةٌ لمراجعةِ كلِّ الحسابات.
نعم هناك ثوابتُ لا يجوزُ التَّنازلُ عنها فِيما هي (ثوابتُ الدِّينِ والأخلاق).
وفِيما هي (كرامة الشُّعوب).
وفِيما هي (حريَّة الشُّعوب).
وفِيما هي (حقوق الشُّعوب).
إنَّنا نريدُ [ونحن في هذا الشَّهر الفضيل] لهذا الوطن ولكلِّ أوطانِ المسلمين:
– أنْ يعمَّ الأمنُ والأمان
– والعدلُ والسَّلام
– والتَّسامحُ والوِئام
– والخير والإحسان
ونريد لهذا الوطنِ ولكلِّ أوطانِ المسلمين أنْ تنتهي كلُّ المُكدِّراتُ والمُنغِّصات، وكلُّ المُؤزِّماتِ السِّياسيَّة، والأمنيَّة، والطَّائفيَّة، والمذهبيَّة، والاجتماعيَّة، والثَّقافيَّة، والإعلاميَّة…
ونريد لهذا الوطنِ ولكلِّ أوطانِ المسلمين أنْ ينتهي البُؤسُ والحرمان، فكم ضاقت أوطاننا بالبؤساءِ والمحرومين والمعدومين والعاطلين رغم ما تنعم به الأوطانُ مِن خَيراتٍ وثروات، إلَّا أنَّها متكدِّسة هنا وهناك، والبائسون المحرومون يتجرَّعون الآلام والآهات، يفترشون الأرض ويلتحفون السَّماء.
ونريد لهذا الوطن ولكلِّ أوطانِ المسلمين كلَّ الكرامة، وكلَّ العدالة، وكلَّ الحريَّة، وكلَّ الإنصاف، وكلَّ التَّسامح.
فأملنا كبيرٌ كبيرٌ أنْ تتخفَّف الأوطان مِن سجونٍ نُزلاؤها يتشوَّقون إلى أنْ يتنفسُّوا الهواء في خارج السُّجون.
وهناك في خارج الأوطان مغتربون، تملأ قلوبهم أشواقُ العودة، ليتنسَّمُوا هواء أوطانهم، وينعموا بشيئٍ مِن خيرات بُلدانهم؛ والتي امتلأت بغرباء يعبثون ما شاء لهم العبث بأوطانِ المسلمين.
والكارثة كلُّ الكارثة أنْ تتلوَّث أوطاننا بأقدام صهاينة حاقدين، يمارسون القتل والإبادة لشعبنا في فلسطين، فها هي غزَّةُ الإباء والصُّمود تستصرخ كلَّ الضَّمائر إنْ كان هناك بقيَّةٌ مِن حميَّة وشهامة وضمير، فعشرات الآلاف مِن القتلى والجرحى والمشرَّدين نساءً، أطفالًا، شبَّابًا، شيوخًا.
فما أسوء أنْ تُلوِّثَ هذه الأقدامُ [أقدام الصَّهاينة] تُربةَ أوطاننا، وأنْ تُعكِّر هواءَ بلداننا، وأنْ تُزاحم شعوبنا في لقمة العيش، هذه اللُّقمة التي ضاقت بالكثيرين مِن أبناء هذه الأوطان، فما أكثر الجياع، وما أكثر المحرومين والبائسين.
وأخلصُ إلى القول:
إنَّنا على أعتابِ الشَّهرِ الفضيل؛ شهرُ المحبَّة والتَّسامح، وشهر الرَّحمة والنُّبل والكرامة.
وشهر الآمال الكبيرة والكبيرة جدًّا.
فإذا لم تكن المراجعةُ لإصلاح الأوطان في هذا الشَّهر الفضيل فمتى تكون؟
وإذا لم تكن آمالُ الشُّعوب كبيرة في هذا الشَّهر الفضيل فمتى تكون؟
وإذا لم تكن الخيارات الصَّالحة للأنظمة في هذا الشَّهر الفضيل فمتى تكون؟
إذا جاء شهر الله وأوضاع الأوطان هي الأوضاع لم تتَّجه إلى الأفضل، إلى الأحسن، إلى الأصلح فمتى يحدث ذلك؟
أُولى خطواتِ البناءِ والتَّغييرِ والإصلاحِ أنْ تتشكَّل الرَّغبة الجادَّة لدى الأنظمة ولدى الشُّعوب، وأنْ يتشكَّل الإخلاص الصَّادق، وأنْ تتهيَّأ كلُّ المناخات، وإلَّا تعقَّدت المسارات، وتعثَّرت الخطوات، وزادت المعكِّرات، وتراكمت المؤزِّمات.
نأمل وكلُّنا ثقة في فيوضات الله أنْ ينعمَ أبناءُ هذا الوطن، وأبناءُ كلِّ أوطانِ المسلمين بلذَّةِ هذه اللَّيالي والأيام في هذا الشَّهر الفضيل، بعيدًا عن المُنغِّصات والمُكدِّرات، مُكدِّرات المعيشة، ومُكدِّرات السِّياسة، ومُكدِّرات الأمن.
لهذا الشَّهرِ الفضيلِ نفحاتُه وبركاتُه وفيوضاتُه فهل تتراحم القلوب، وتتصافى النُّفوس، وتتقارب الإرادات، وتنتهي كلُّ المُؤزِّمات، وتختفي كلُّ الأنانيَّات، وكلُّ العصبيَّات، وكلُّ الطَّائفيَّات؟
فالويلُ كلُّ الويلِ لأوطاننا، ولشعوبنا إذا كانت محرومةً مِن نفحاتِ وبركاتِ وفيوضاتِ وعطاءاتِ وخيراتِ «شهر هو عند الله أفضلُ الشُّهور، وأيَّامهُ أفضلُ الأيام، ولياليه أفضلُ اللَّيالي، وساعاتهُ أفضلُ السَّاعات».
فهل تكون خياراتُه أفضلَ الخياراتِ، ومآلاتُه أفضلَ المآلاتِ؟
أم هي أسوءُ الخيارات، وأسوءُ المآلات؟
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
————————————————————————
الهوامش:
[1]– الصَّدوق: الأمالي، ص 155، (المجلس العشرون)، ح 149/4.
[2]– المصدر السَّابق.
[3]– المصدر السَّابق.
[4]– الكليني: الكافي 4/526، ح5.
[5]– الصَّدوق: مَن لا يحضره الفقيه 2/568، ح 3158.
[6]– الفتَّال النِّيسابوري: روضة الواعظين وبصيرة المتَّعظين 2/178، ح [905] 9.
[7]– الدَّيلمي: إرشاد القلوب 1/166، (ب 49: في الأدب مع الله تعالى).
وورد أيضًا باختلاف يسير:
عنه (صلَّى الله عليه وآله): «إذا جَلَسَ المُتَعَلِّمُ بَينَ يَدَيِ العالِمِ فَتَحَ اللهُ تَعالى عَلَيهِ سَبعينَ بابًا مِنَ الرَّحمَةِ، ولا يَقومُ مِن عِندِهِ إلّا كَيَومَ وَلَدَتهُ أمُّهُ، وأعطاهُ اللهُ بِكُلِّ حَرفٍ ثَوابَ سِتّينَ شَهيدًا، وكَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَديثٍ عِبادَةَ سَبعينَ سَنَةً، وبَنى لَهُ بِكُلِّ وَرَقَةٍ مَدينَةً، كُلُّ مَدينَةٍ مِثلُ الدُّنيا عَشرَ مَرّاتٍ». (الرَّيشهري: حِكم النَّبي الأعظم (ص) 1/225، ح307)
[8]– الصَّدوق: الأمالي، ص 154، (المجلس العشرون)، ح 149/4.
[9]– المصدر السَّابق، ص 242، (المجلس الثَّالث والثَّلاثون)، ح 257/5.
وعن أبي عبد الله (عليه السَّلام) قال: سألته عن الصِّراط، فقال: «هو أدقُّ من الشَّعر، وأحدُّ من السَّيف، فمنهم من يمرُّ عليه مثل البرق، ومنهم من يمرُّ عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرُّ عليه ماشيًا، ومنهم من يمرُّ عليه حبوًا، ومنهم من يمرُّ عليه متعلقًا فتأخذ النَّار منه شيئًا وتترك منه شيئًا». (عزيز الله عطاردي: مسند الإمام الصَّادق (ع) 6/201، ح 4)
[10]– الرَّيشهري: حِكَم النَّبيِّ الأعظم (ص) 4/290، ح 5588.
[11]– الكليني: الكافي 2/77، ح 5.
[12]– الرَّيشهري: حِكَم النَّبيِّ الأعظم (ص) 4/293، ح 5610.
[13]– الصَّدوق: الأمالي، ص 154، (المجلس العشرون)، ح 149/4.