حديث الجمعة 627: من أهداف موسمِ الصِّديقة الزَّهراء (ع): مقاربة ومعالجة قضايا المرأةِ المسلمةِ في هذا العَصْرِ – ويستمرُّ بطشُ الصَّهاينة ويستمرُّ جِهادُ المجاهدين
مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) – القفول حديث الجمعة (627) تاريخ: يوم الخميس (ليلة الجمعة) 29 جمادى الأولى 1445هـ الموافق: 14 ديسمبر 2023 م
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل ُالصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين مُحمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
العنوان الأوَّل: من أهداف موسمِ الصِّديقة الزَّهراء (عليها السَّلام): مقاربة ومعالجة قضايا المرأةِ المسلمةِ في هذا العَصْرِ
من الأهداف الكبرى لهذا الموسمِ – موسمِ الصِّديقة الزَّهراء (عليها السَّلام) -: مقاربة ومعالجة قضايا المرأةِ المسلمةِ في هذا العَصْرِ.
هذا العنوانُ من أخطرِ العناوين في عصرنا الحاضر، فمطلوبٌ من الخطابِ الدِّيني وبالأخصِّ خطاب المنبر الحسيني أنْ يُقاربَ هذا العنوانَ مقاربةً جادَّةً وواعيةً.
هناك شكاوى من مواقع نسائيَّةٍ تقول بأنَّ قضايا المرأةِ في هذا العصر غائبةٌ في اهتمامات الخطاب الدِّيني، وبالأخصِّ خطاب المنبر الحسيني، والذي يملك حضورًا كبيرًا في الواقع الشِّيعي.
وهل أنَّ هذه الشَّكاوى لها مصداقيَّة؟
وهل فعلًا أنَّ قضايا المرأة المسلمة في هذا العصر غائبة في خطابِنا، وفي خطابِ منبرنا؟
أنا لا أعتقد أنَّها غائبةٌ كلَّ الغياب.
إلَّا أنَّ حضورَها ليس بالمستوى المطلوب؛ الذي تفرضه خطورة وأهمِّية هذه الشَّريحة من شرائح مجتمعنا.
هناك غيابٌ بدرجةٍ ملحوظةٍ في خطابنا الدِّيني والمنبري لقضايا المرأةِ في هذا العصر المزدحم بالتحدِّيات الكبرى، والإشكالات التي تواجه المرأة المسلمة، وتواجه الأسرة المسلمة، وتواجه العفاف، وتواجه السِّتر.
لا أشكُّ أنَّ المرأة المسلمة في هذا العصر حينما تحاول أن تكونَ طائعةً لربِّها، ملتزمةً بأحكام دينها، محافظةً على عفافِها وسِترِها سوفَ تجد كثيرًا من الصعوبات، وكثيرًا من التَّعقيدات والتحدِّيات في أجواء مزدحمة بالانحرافات، ومزدحمة بالأعراف الفاسدة والفاسقة المتنافية كلَّ التَّنافي مع أعرافِ الدِّينِ وأحكامِه وقِيَمه.
وكلَّما كانت المرأة المسلمة أشدَّ التزامًا ومحافظة على ضوابط الشَّرع، وتعاليم الدِّين كانت التعقيدات أشدُّ، والصعوبات أقسى.
وهنا يُطرح هذا السُّؤال:
هل أنَّ هذا الموج من التحدِّياتِ والانحرافاتِ يُبرِّر للمرأةِ المسلمةِ أنْ تتنازل عن هُويَّتها الإيمانيَّة، وأنْ تتخلَّى عن تعاليم الشَّرع، أو عن بعضِ تعاليم الشَّرع؟
الجواب بكل تأكيد هو: (لا).
فالتَّنازل عن الهُويَّة الإيمانيَّة ارتدادٌ عن الدِّين، والتَّخلِّي عن تعاليم الشَّرع أو عن بعض تعاليم الشَّرع انحراف في السُّلوك.
المرأة المسلمة في عصرنا الحاضر تقف أمام ثلاثة مَسَارات:
المَسار الأوَّل: مَسَارُ التَّغريب
يريد للمرأةِ المسلمةِ أنْ تنطلق في كلِّ المجالاتِ بعيدًا عن الضَّوابطِ الدِّينيَّةِ والشَّرعيَّةِ، ويريد لها أن تتخلَّى عن دينها وقِيَمها وأخلاقها؛ لتكون المرأة في بلاد المسلمين هي (المرأة الأمريكيَّة)، و(المرأة البريطانيَّة)، و(المرأة الفرنسيَّة)، و(المرأة الرُّوسِيَّة).
هذا المسار يُسمَّى (مَسَارُ التَّغريب)، التَّغريب الثَّقافي، والأخلاقي، والسُّلوكي، والسِّياسي.
هكذا يُحاولُ هذا المسار أنْ يُصادر هُويَّةَ المرأة، وهُويَّةَ الرَّجل، وهُويَّةَ الشَّابِ والشَّابَّة، وهُويَّةَ الأسرة، وهُويَّة المجتمع، وهُويَّة الشُّعوب، وهُويَّة الأوطان.
والخطر كلُّ الخطر أنَّ مسار التَّغريب في أوطاننا الإسلاميَّة والعربيَّة مدعومٌ من قبل مؤسَّسات رسميَّة تَعتبر هذا (الانفلات التَّغريبي) مظهر من مظاهر الانفتاح والتقدُّم والتَّحضُّر، فكم هي الكارثة العظمى حينما تتحوَّل مؤسَّساتُ ثقافة وتربية وإعلام في أوطانِ المسلمين إلى مواقع تكرِّس هذا (الانفلات التغريبي).
فلا غرابة حينما نجد (أجيالنا من أبناءِ وبنات أمَّتنا) قد تشكَّلوا (تشكُّلًا تغريبيًّا)، وانفصلوا عن (هُويَّتهم الدِّينيَّة) مأسورين إلى ثقافةِ الضَّلالِ، وثقافةِ الفسقِ والفسادِ.
فكم هي مسؤوليَّة الخطاب الدِّيني كبيرة جدًّا في التَّصدِّي لمشاريع التَّغريب المُدمِّرة، على أنْ يكون هذا التَّصدِّي (واعيًا) و(كفُوءًا) في مضمونِه، وأسلوبِه، ولغتِهِ.
المسَار الثَّاني: مَسَارُ التغييب
من المسَاراتِ التي تقفُ أمامها المرأةُ المسلمةُ في هذا العصر هو (مَسَارُ التغييب)، وهذا المسارُ يُعطِّلُ دورَ المرأةِ المسلمةِ، فلا يسمح لها أنْ تمارسَ أيَّ دور تبليغيٍّ أو ثقافيٍّ أو تربويٍّ أو ثقافيٍّ، فهذه المسؤوليَّات هي مسؤوليَّاتُ الرَّجلِ فقط، هكذا يجب أنْ تُغيَّب المرأةُ تغيُّبًا كاملًا.
وربَّما أستند هذه الاتجاه إلى بعضِ روايات وأحاديث هي محل جدلٍ في أسنادها وفي دلالاتها، ولستُ هنا في صَدَدِ معالجة هذه المسألة، فكما الرَّجلُ مسؤولٌ أنْ يدعو إلى الله، ويأمر بمعروفٍ وينهى عن منكرٍ، ويمارس دورًا رساليًّا، وثقافيًّا، وتربويًّا، واجتماعيًّا، فالمرأة كذلك، فالنُّصوص التي تؤسِّس هذه المسؤوليَّات هي نصوصٌ عامَّةٌ تخاطبُ الرَّجلُ والمرأة، إلَّا ما وردت فيه استثناءات خاصَّة من مسؤوليَّات الرَّجل أو من مسؤوليَّات المرأة.
فمسار التغيِّيب الذي يُعطِّل دور المرأة هو مسار مرفوض، رغم أنَّنا نثمِّن دور المرأة في داخل البيت وهو دورٌ مقدَّس وكبير جدًّا، أمَّا كيف تزاوج المرأة المسلمة بين مسؤوليَّاتها في داخل الأسرة ومسؤوليَّاتها الاجتماعيَّة والتَّربويَّة والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة فهذه مسألة في حاجة إلى معالجة خاصَّة.
المسار الثَّالث: مسار التَّأصيل
من المسارات التي تقف أمامها المرأة المسلمة في هذا العصر هو (مسار التَّأصيل)، وهو مسار يرفضُ المسار الأوَّل رفضًا كاملًا، ويتحفَّظ على المسار الثَّاني.
فسمَّينا هذا المسار مسار التَّأصيل؛ لأنَّه يؤصِّلُ علاقة المرأة المسلمة بهُويَّتها الإيمانيَّة والدِّينيَّة والثَّقافيَّة والأخلاقيَّة.
وهنا تتشكَّلُ أصالةُ الانتماءِ إلى الدِّين، وأصالةُ الانتماءِ إلى قِيَم الدِّين، وحينما تتشكَّلُ هذه الأصالةُ عند المرأة يكون لها عنوانها الكبير، فليست مَسْرُوقةَ الهُويَّة كما هي المرأة المتغرِّبة التي ضاعت هُويَّتها الإسلاميَّة وأصبحتْ تُباع وتُشْتَرى في مزادات العبث والضَّياع، وليستْ مُغَيَّبةَ الهُويَّة تعيش وعيًا متخلِّفًا يصنعُ منها امرأةً متكلِّسةً راكدةً جامدةً.
إنَّما هي المرأة التي حملت:
– وعيَ الانتماءِ إلى الدِّين
– وعُشْقَ الانتماءِ إلى الدِّين
– وروحيَّةَ الانتماءِ إلى الدِّين
– وتقوى الانتماءِ إلى الدِّين
– ورساليَّة الانتماءِ إلى الدِّين
هكذا جاءت خطابات الدِّين في التَّأصيل لهذه الرِّساليَّة:
- تقول الآية في سورة التَّوبة (71):
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ …}.
- وتقول الآية (110) من سورة آل عمران:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ …}.
أمَّة بما فيها من الرِّجالِ والنِّسَاءِ، وبما فيها من الشَّباب ذكورًا وإناثًا.
- وتقول الآية (104) من سورة آل عمران:
{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ …}.
أمَّة بكلِّ مكوِّناتها رجالًا ونساءً.
- في الكلمة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله):
« مَنْ رَأى [مِنكُم] مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإنْ لَم يَستَطِعْ فبِلِسانِهِ، فإنْ لَم يَستَطِعْ فبِقَلبِهِ وذلكَ أضعَفُ الإيمانِ». (ابن أبي جمهور الأحسائي: عوالي اللَّئالي 1/431، ح 128)
فمسؤوليَّة العملِ الرِّسَالي، والثَّقافي والتَّربوي والاجتماعي، والسِّياسي هي مسؤوليَّة عامَّة، يتحمَّلها كلُّ مَنْ ينتمون إلى الدِّين رجالًا ونساءً متى توفَّرت الشُّروطُ الشَّرعيَّة التي تفرض شروط هذه المسؤوليَّة.
للحديث تتمَّة إنْ شاءَ الله تعالى.
العنوان الثَّاني: كلمةٌ أخيرة: ويستمرُّ بطشُ الصَّهاينة ويستمرُّ جِهادُ المجاهدين
إنَّها معركةُ الحقِّ والباطلِ.
حقٌّ يُدافع عن وطنٍ، عن أرضٍ، عن شعبٍ، عن كرامةٍ، عن شرفٍ …
وباطلٌ قد سَرَقَ وطنًا، وأرضًا، وشعبًا، وكرامةً، وشرفًا …
ومهما طالَ الصِّراعُ بين الحقِّ والباطلِ فالحقُّ هو المنتصرُ، والباطلُ هو المنهزم.
رُبَّما يكونُ ثمنُ النَّصرِ دماءً.
رُبَّما يطولُ المسار.
رُبَّما يكبرُ البذلُ والعَطاء.
رُبَّما يشتدُّ البَلاءُ.
ويستمرُّ الجهادُ.
ذَبحُوا أطفالًا، واستمرَّ الجهاد.
قتلوا نِسَاءً، واستمرَّ الجهاد.
فتكوا ما شاء لهُمُ الفتك، واستمرَّ الجهاد.
أرعبُوا ما شاء لهم الرُّعبُ، واستمرَّ الجهاد.
أرهبوا ما شاء لهم الإرهابُ، واستمرَّ الجهاد.
دمَّروا ما شاء لهم التَّدمير، واستمرَّ الجهاد.
هدموا البيوت والمستشفيات والمساجد والكنائس والمعابد والمدارس، واستمرَّ الجهاد.
أبادُوا ما شاءت لهم الإبادة، واستمرَّ الجهاد.
مارسوا كلَّ أشكالِ القمع، واستمرَّ الجهاد.
ما سرُّ هذا الإصرارُ على الجهاد، على البذل؛ بذل الدِّماءِ والأرواح؟
إنَّها القلوبُ حينما تمتلئ إيمانًا، إرادةً، عَزْمًا، ثباتًا، تضحيةً، عُشقًا إلى لقاء الله، عُشقًا إلى الانضمام إلى ركب الشُّهداء.
إنَّهم واثقون بالنَّصرِ مهما طال الجهاد، ومهما كان البذل والعطاء.
هكذا يكون الفارق كبيرًا:
بين صهاينةٍ يُقاتلون وهم لا يملكون عقيدة القِتالِ، إنَّهم مأجورون، إنَّهم عُشَّاقُ دنيا، وعُشَّاقُ حياةٍ، وعشَّاق مالٍ، وعشَّاق هوى.
فهل يملكون:
أنْ يُواجهُوا عُشَّاق شهادةٍ، وعُشَّاق كرامةٍ، وعُشَّاقَ عِزَّةٍ، وعُشَّاق إباءٍ، وعُشَّاق قِيَمٍ، وعُشَّاق آخرةٍ، وعُشَّاق جنَّةٍ؟!
كم هو الفارق كبير:
بين صهاينةٍ يُقاتلون والرُّعبُ يملأ قلوبهم.
ومجاهدين مملوءين شَوْقًا إلى الله.
هكذا يتقابل إيمان وضلال.
ويتقابلُ حقٌّ وباطلٌ.
ويتقابلُ خيرٌ وشر.
ويتقابل صلاحٌ وفساد.
ويتقابلُ أملٌ ويأس.
إنَّها المعادلة الحقَّة.
ربَّما يُقال إنَّ الأثمان باهظة.
نعم الأثمان باهظة، إلَّا أنَّ العطاء كبير عطاء المجاهدين، وعطاء الشُّهداء:
- أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «… الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَه الله لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه وهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى». (نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ص 69، خطبة 27)
- وعنه (عليه السَّلام): «إنَّ الجِهَادَ أَشْرَفُ الأَعْمَالِ بَعْدَ الإِسْلَامِ وهُوَ قِوَامُ الدِّينِ». (الكليني: الكافي 5/37، كتاب الجهاد، بابُ مَا كَانَ يُوصِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِه عِنْدَ الْقِتَالِ، ح1)
- وعنه (عليه السَّلام): «الجِهَادُ عِمَادُ الدِّينِ، وَمِنْهَاجُ السُّعَدَاءِ». (الآمدى: تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 333، 7658)
- قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. (آل عمران/ 169)
- وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَّا تَشْعُرُونَ}. (البقرة/ 154)
هذه بعضُ آياتٍ ورواياتٍ تُعطي للجهاد والشَّهادة قيمة عُظمى.
هكذا نجد عُشَّاقَ الجهادِ والشَّهادةِ في غزَّة وفلسطين يتحدَّونَ طيشَ الصَّهاينة وغطرسةَ اليهود بكلِّ ما يملكون من أسلحةِ الفتك والبطشِ والدَّمار، أسلحة تنهار أمام صلابةِ الإيمان وشموخ العزائم، وقوَّة التحدِّي، وثبات الإرادةِ.
وفي المقابل جيشٌ يُقاتلُ بلا إيمان، بلا عزائم، بلا ثبات، بلا صلابة، نعم يملك ترسانة عُظمى من الأسلحة، تملك أنْ تقتلَ، أنْ تَفْتُكَ، أنْ تُدمِّرَ، لكنَّها لا تملك أنْ تنتصر.
النَّصرُ لحملةِ شعارِ الإيمان، شعارِ الكرامة، شعارِ الدِّفاعِ عن الأرضِ، عن الوطن، عن المقدَّسات.
وآخر دَعْوَانَا أن الحمد للهِ ربِّ العالمين.