حديث الجمعة 619: في ذكرى إمامةِ المهدي المنتظر (ع) (2) – وهكذا تغيَّرت معادلة الرُّعب
حديث الجمعة 619 | 12 اكتوبر 2023 | 26 ربيع الأول 1445 | مسجد الإمام الصادق (ع) بالقفول- البحرين
الانتظار (2)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين مُحمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
الكلمة مستمرة حول عنوان (الانتظار)؛ انتظار الإمام المهديِّ مِن آلِ محمَّدٍ (صلَّى اللهُ عليهِ وآله وسلَّم)، والذي سوف يخرج في آخر الزَّمان فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.
والانتظار لا يمثِّل ضعفًا، لا يمثِّل انكسارًا، لا يمثِّل انهزامًا، لا يمثِّل يأسًا، لا يمثِّل غباءً، لا يمثِّل فشلًا.
الانتظارُ قوَّةٌ، الانتظارُ ثباتٌ، الانتظارُ نصرٌ، الانتظارُ أملٌ، الانتظارُ وعيٌ، الانتظارُ نجاحٌ.
لنا حديث في تفصيل مكوِّنات الانتظار في إحدى حلقات هذا البحث – إنْ شاء الله تعالى -، وبقدر ما نملك (وعي الانتظار) نحقِّق أهدافَه.
تقدَّم القول أنَّ هناك غيبتين لإمامنا المهديّ (أرواحنا فداه):
1- غيبة صُغرى بدأت سنة 260 هجريَّة، واستمرَّت سبعين سنة تقريبًا.
2- وغيبة كُبرى بدأت سنة 329 هجريَّة، ولا زالت مستمرَّة حتَّى الآن.
حديثنا في هذه الكلمة عن الغيبة الصُّغرى، وكيف كان الإمام المهديُّ (عليه السَّلام) يتواصل مع أتباعه طيلة هذه المدَّة؟
كان يعتمد (نظام السُّفراء)، وكما تقدَّم القول في كلمة الجمعة الماضية أنَّ هؤلاء السُّفراء (الوسائط بين الإمام المهديِّ وشيعته) هم قِمَم في التَّقوى والورع والصَّلاح، وفي العلم والفقه والوعي، وفي كلِّ الكفاءات والاستعدادات.
مَنْ هؤلاء السُّفراء؟
السَّفير الأوَّل: عثمان بن سعيد العَمْري
استمرَّت سفارته ما يقرب من خمس سنوات (260 ه – 265 ه)
السَّفير الثَّاني: محمَّد بن عثمان العَمْري
استمرت سفارته ما يقرب مِن أربعين سنة (265 ه – 305 ه)
السَّفير الثَّالث: الحُسين بن رَوح النُّوبختي
استمرت سفارته ما يقرب مِن واحد وعشرين سنة (305 ه – 326 ه)
السَّفير الرَّابع: عليُّ بن محمَّد السَّمري
استمرت سفارته ما يقرب من ثلاث سنوات (326 ه – 329 ه)
هؤلاء السُّفراء نخبة متميِّزة عِلمًا ودِينًا وصَلاحًا، وقد تمَّ تعيينهم مِن قبل الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) نفسه.
مهام السُّفراء الأربعة
وأهمُّ المهام التي كان يمارسها السُّفراء أو النُّوَّاب الأربعة:
المهمَّة الأولى: إيصال (التَّوقيعات) الصَّادرة مِن الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) إلى شيعته والمنتمين إلى مدرسته.
وتتضمَّن هذه التَّوقيعات:
(1) الأحكام والفتاوى الصَّادرة عن الإمام المهديِّ (عليه السَّلام).
(2) الأوامر والتَّوجيهات التي تنظِّم أوضاع أتباع مدرسة الأئمَّة مِن أهل البيت (عليهم السَّلام).
(3) التَّوثيقات وتعيين الوكلاء الذين تفرض الضَّرورة أحيانًا أنْ يكونوا وسائط بين السُّفراء والنَّاس.
(4) حلَّ المشكلات التي تواجه المنتمين إلى مدرسة الأئمَّة (عليهم السَّلام).
(5) التَّصدِّي لقضايا المسلمين العامَّة، والحفاظ على مسار الرِّسالة، والتَّأسيس لوحدة الأُمَّة حسب توصيات الإمام نفسه.
المهمَّة الثَّانية: المهمَّة الماليَّة
وتتمثَّل في قبض الزَّكوات والأخماس، وإيصالها إلى الإمام المهديِّ (عليه السَّلام)؛ ليحدِّد مسارات صرفها في مصالح الأُمَّة، فيتسلَّمها هؤلاء النُّواب مِن الإمام ثانية لتوضع في مصالح المسلمين، ورعاية أوضاع المحتاجين، وخدمة أهداف الدِّين كما هو المحدَّد في تعاليم الشَّريعة، وهكذا يوظَّف المال الدِّيني توظيفًا شرعيًّا رشيدًا، وبعيدًا عن أيَّة انفلاتاتٍ مضرَّةٍ بأوضاعِ المسلمين ووحدتهم وصلاحهم، واذا انحرف مسار المال الدِّينيِّ فقد انحرف عن أهدافه، ورُعاة هذا المالِ في كلِّ عصرٍ وزمان، وفي كلِّ الأوطان يتحمَّلون كلَّ المسؤوليَّة في ترشيد حركة المال الدِّينيِّ بما يخدم أهداف الدِّين، وبما يصلح أوضاع الأوطان وحاجات الشُّعوب.
المهمَّة الثَّالثة: الإشراف العام على الواقع الدِّيني
بكلِّ امتداداته العقائديَّة والثَّقافيَّة والفقهيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، وبتوجيهاتٍ مباشرة مِن الإمام المهديِّ (عليه السَّلام)، وهذا مِن أخطر الأدوار التي ينهض بها سُفراء الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) في ذلك العصر، حيث ازدحمت التَّحدِّيات بكلِّ عنفها وقسوتها وامتدادها، ممَّا شكَّل في ذلك الزَّمن وضعًا صعبًا جدًّا لحركة أولئك النُّوَّاب والسُّفراء.
انتهاء عصر السُّفراء
امتدَّ عصر سُفراء الإمام المهديّ (عليه السَّلام) ما يقرب سبعين عامًا – كما تقدَّم القول -، وبوفاة السَّفير الرَّابع عليُّ بن محمَّد السَّمَري سنة 329 ه انتهت الغَيبة الصُّغرى، وانتهى عصر السُّفراء وعصر النُّوَّاب المعيَّنين مباشرة مِن الإمام المهديٍّ (عليه السَّلام)، وبدأت مرحلة الغَيبة الكُبرى.
جاء في آخر توقيعٍ صادرٍ عن الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) وموجَّهٍ للسَّفير الرَّابع عليِّ بن محمَّد السَّمَري: «…، ولا تُوصِ إلى أحدٍ يقومُ مَقامَكَ بعدَ وفاتِكَ، فقد وَقعَتِ الغَيبةُ [التَّامَّةُ]، فلا ظُهورَ إلَّا بعدَ إذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وذلكَ بعدَ طُولِ الأمَدِ، وقَسْوةِ القلوبِ، وامْتِلاءِ الأرضِ جَورًا، وسيأتي شيعتي مَن يدَّعي المشاهدَةَ، أَلا فمَنِ ادَّعَى المشاهدةَ قبلَ خروجِ السُّفيانيِّ والصَّيحةِ فهوَ كاذبٌ مفترٍ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللَّهِ العليِّ العظيمِ».( ) (الصَّدوق: كمال الدِّين وتمام النِّعمة، ص 516، (ب 45: ذكر التَّوقيعات)، ح 44.)
هذا التَّوقيع الصَّادر عن الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) والموجَّه إلى آخر السُّفراء عليِّ بن محمَّد السَّمَري يحمل مجموعة مضامين في غاية الأهميَّة والخطورة:
المضمون الأوَّل: انتهاء الغَيبة الصُّغرى بوفاة السَّفير الرَّابع عليِّ بن محمَّد السَّمَري، فلا سفراء معيَّنين مِن قبل الإمام المهديِّ (عليه السَّلام) كما هو معروف مِن المرحلة الأولى مِن الغَيبة، حيث تصدَّى الإمام مباشرة لتعيين السُّفراء.
المضمون الثَّاني: انطلاق الغَيبة الكُبرى بكلِّ ما تحمله مِن خصائص ومتغيِّرات، وتراكم الفساد والظُّلم والجور، ولنا حديث – إن شاء الله تعالى – عن هذه الغَيبة بكلِّ تعقيداتها الصَّعبة ومؤشِّراتها الخطيرة.
المضمون الثَّالث: التَّحذير الشَّديد مِن ادِّعاء السَّفارة والنِّيابة الخاصَّة في مرحلة الغَيبة الكُبرى وقبل أنْ تظهر (العلامات الخاصَّة)، فمَن ادَّعى النِّيابة الخاصَّة والسَّفارة في هذه المرحلة فهو (كاذب مفتر) بحسب تعبير الإمام المهديِّ (أرواحنا فداه).
ففي مرحلة الكبرى:
– لا نيابة خاصَّة
– ولا عنوان سفارة
– ولا باب مولى
فمَن ادَّعى هذه العناوين (فهو كاذب مفتر)، وهو (أفَّاك أثيم)، وهو (شيطان رجيم)، هذا ما أجمع عليه فقهاء المذهب منذ بداية الغَيبة الكُبرى وحتَّى الآن، وقد تصدَّوا بلا تهاون لكلِّ محاولات الاختراق الضَّالة في عدَّة أزمنة، وكان مصير هذه المحاولاتِ الفشل، وإنْ أحدثت بعض إرباكات، إلَّا أنَّ الفقهاء الأخيار كانوا الحصون المنيعة لحماية هذا المسارِ المبارك، ولا زالوا كذلك مدعومين بتسديد الله وبمؤازرة كلِّ المخلصين والواعين مِن أبناء هذا الخطِّ الإيمانيِّ الواثق.
كلمةٌ أخيرةٌ بعنوان: وهكذا تغيَّرت معادلة الرُّعب
(طُوفان الأقصى) وأيُّ طوفان، إنَّهُ صَرخةُ شَعبٍ أصَرَّ أنْ لا يُهزَم، ما دامتْ إرادةُ الله معه، وما دام جهادُ الأنبياءِ معه، وما دامتْ دماءُ الشُّهداءِ معه، وما دامت كلُّ الشُّعوبِ الحرَّة معه.
(طُوفان الأقصى) أربك كلَّ معادلات السِّياسة، أعاد الأمل، أسقط اليأس، الضَّعف، الفشل، كلَّ خيارات الانكسار، كلَّ مسارات الهزيمة.
هكذا كانت الضَّربةُ موجعةً، أعطتْ درسًا كبيرًا لعنجهيَّة الاحتلال وغطرسة الصَّهاينة، وتبقى إرادة التَّحدِّي وعنفوان الصُّمود أكبر مِن كلِّ ترسانة العدو المهزومة، والتي لا تعرف إلَّا البطش، وإلَّا قتل الأطفال والنِّساء، وإلَّا إزهاق الأرواح.
الآن يتباكون وقد طال صَمْتُهم وهم يمارسون أبشع الجرائم، وأقسى الاعتداءات، وها هم يدمِّرون، ويقتلون، ويحرقون، ويتباكون.
هكذا انطلق طُوفان الأقصى ليبشِّر بيوم النَّصر الأكبر، حينما تنطلق راياتُ الفتح العظمى ممهِّدةً لدولةِ الانتظار، حينما يقف في محراب المسجد الأقصى خليفة الله في الأرض الإمام المهديُّ مِن آل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويقف خلفه مؤتمًّا نبيُّ الله عيسى بن مريم.
في الرِّوايات الموثَّقة: «…، ويدخل المَهْدِيُّ (عليه السَّلام) بيت المَقْدِسِ، ويُصَلِّي بالنَّاسِ إمامًا، فإذا كان يومَ الجمعةِ، وقد أُقيمت الصَّلاة نزل عيسى بنُ مريم (عليه السَّلام) بِثَوْبَيْن مُشْرِقَيْن حُمْرٍ، كأنَّما يقطر مِن رأسهِ الدُّهْن، رَجْلُ الشَّعَرِ، صَبِيح الوَجْهِ، أشْبَهُ خَلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ بأَبِيكم إبراهيم خَليلِ الرَّحمن (عليه السَّلام).
فيلتَفِتَ المَهْدِيُّ (عليه السَّلام) فينظُر عيسى (عليه السَّلام) فيقول لعيسى: يا ابنَ البَتُول صَلِّ بالنَّاسِ، فيقولُ: لكَ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ.
فيتقدَّم المَهْدِيُّ (عليه السَّلام) فيُصَلِّي بالنَّاسِ، ويُصَلِّي عيسى خَلْفَهُ …».( ) (المقدسيّ الشَّافعيّ: عقد الدُّرر، ص 347، (ب 12: في ما يجري من الفتن في أيَّامه …، ف 2: في ما جاء من الآثار الدَّالة على خروج الدَّجال …)).
هذا هو الأملُ الاعظم الذي ينتظره كلُّ المسلمين، فلا يأس ولا تراجع ولا انهزام.
(طُوفان القدس) علامة بارزة كبرى في هذا الطَّريق، طريق النَّصر الأعظم.
يجب أنْ تلتحم كلُّ الإرادات رسميَّة وشعبيَّة، يجب أنْ تصطفَّ كلُّ الأطيافِ، كلُّ المكوِّناتِ، كلُّ الطَّوائفِ في وقفة تاريخيَّةٍ مساندةٍ لصُمودِ أبطال شعبِنا في فلسطين، يجب أنْ ترتفع كلُّ الدَّعوات الضَّارعة مِن أجلِ أن يتحقَّق النَّصرُ الأعظم، وأنْ يتحرَّر قدسنا وكلُّ أراضي شعبنا في الأرض المحتلَّة.
إذا لم توحِّدنا نداءات مسجدنا الأقصى.
إذا لم تُوحِّدنا دماءُ الأطفال.
إذا لم تُوحِّدنا صرخاتُ النِّساء.
إذا لم تُوحِّدنا دماءُ الشُّهداء.
إذا لم تُوحِّدنا كلُّ الجراحات.
إذا لم تُوحِّدنا كلُّ الدُّموع.
إذا لم تُوحِّدنا كلُّ المآسي والآهات.
فماذا يُوحِّدنا؟!!
وحينما نؤكِّد على ضرورة أن تلتحم المواقف الرَّسميَّة والشَّعبيَّة في الدِّفاع عن قضايا شعبنا في فلسطين، مطلوبٌ جدًّا أن تتخفَّف أوطاننا مِن كلِّ الملفَّات العاجلة لكي يتعمَّق التَّلاحم بين الأنظمة والشُّعوب، وإلَّا تعقَّد التَّواصل ممَّا يشكِّل فجوات كبيرة مضرَّة بتلاحم المواقف الوطنيَّة.
دعاؤنا بالنَّصر لإخوتنا في فلسطين، ثبَّت الله أقدامهم في الدِّفاع عن كلِّ شبرٍ مِن أرضهم، والخزي والعار للغزاة الغاصبين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّدنا مُحمَّد وآلهِ الطَّاهرين.