حديث الجمعة 617: نظرة تقويميَّة لموسمي عاشوراء والأربعين – من أهداف الموسم العاشورائي والأربعيني – الموسم النَّبويُّ – الاشتراطات الأخيرة المعقِّدة لبناء الصُّروح الدِّينيَّة أمرٌ مقلقٌ جدًّا
حديث الجمعة 617 | الموافق 22 سبتمبر 2023 - الموافق 5 ربيع الأول 1445 | مسجد الإمام الصادق بالقفول - البحرين
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
في هذين الشَّهرين محرَّم وصفر التقينا بموسمين استثنائيَّين (عاشوراء) و(الأربعين).
ولا أعتقد أنَّ موسمًا يملك حضورًا جماهيريًّا كما يملك هذانِ الموسمان، وها هو العالم قد شهد الزَّحفَ المليوني إلى كربلاء الحسين (عليه السَّلام).
عشنا موسمين إيمانيَّين كبيرين؛ موسم عاشوراء وموسم الأربعين.
ونعيش الآن موسمين كبيرين من مواسم الإيمان:
1- موسم النَّبيِّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): والذي يمتدُّ من يوم الشَّهادة حتى يوم الولادة.
2- موسم الانتظار: ففي التَّاسع من ربيع الأوَّل كانت البداية لإمامة المهدى المنتظر (عجَّل الله فرجه الشَّريف).
وأبدأ الحديثَ بنظرةٍ تقويميَّةٍ لموسمي عاشوراء والأربعين.
نظرة تقويميَّة لموسمي عاشوراء والأربعين
إنَّ هذين الموسمين (العاشورائي والأربعيني) يملكان شكلًا ومضمونًا، الشَّكل يُعبِّر عن المظهر والممارسة، والمضمون يعبِّر عن الأهداف والمعطيات، غيابُ الشَّكلِ يُعطِّلُ الأهدافَ، وغيابُ المضمونِ ينحرفُ بالأهداف.
وهذا ينطبق على كلِّ الممارسات الدِّينيَّة والعباديَّة، فلو أخذنا الصَّلاة نموذجًا، فلها شكلٌ ولها مضمون، فغياب أحدهما يضرُّ بأداء هذه الفريضة، فماذا لو صلَّى الإنسان بلا وضوء، بلا استقبال، بلا أركان وواجبات، فصلاته فاقدة لشكلها.
وأمَّا مضمون الصَّلاة فهذا ما تحدِّده الآيات والرِّوايات:
- {… وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (سورة طه: الآية14)
- {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ …} (سورة الأنعام: الآية 72)
- {… إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ…} (سورة العنكبوت: الآية 45)
- قال رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): «مَن لم تَنهَهُ صلاتُهُ عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ لَم يَزدَدْ مِنَ اللهِ إلَّا بُعدًا». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 6/277، ح 10705).
- وقال (صلَّى الله عليه وآله): «لا صَلاةَ لِمَن لم يُطِعِ الصَّلاةَ، وطاعَةُ الصَّلاةِ أن تَنهى عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 6/277، ح 10706)
وإذا عُدنا إلى موسم عاشوراء، وموسم الأربعين فلهما شكلٌ ولهما مضمون.
فالشَّكل: إقامة مجالس العزاء، المواكب الحسينيَّة، المسيرات الزَّاحفة إلى كربلاء، الحضور الجماهيري في المآتم والمواكب، وهكذا بقية الفعَّاليات العاشورائيَّة والأربعينيَّة.
وماذا عن ظاهرة الإطعام؟
ظاهرة طيِّبة ولها ثوابها الكبير، إلَّا أنَّ هذه الظاهرة في حاجة إلى ترشيد.
وهنا مسألة في غاية الأهمِّية:
مطلوبٌ جدًّا أنْ تكون المظاهر العاشورائيَّة ومظاهر الأربعين منسجمة كلَّ الانسجام مع الأهداف الحسينيَّة، فيجب تنقية الممارسات الشَّعائريَّة من كلِّ ما يُسيئ إلى سمعة هذه الشَّعائر وإلى سمعة المذهب، فكم هي الكارثة الكبرى حينما تقتحم هذه المواسم الإيمانيَّة ممارسات متنافية مع أهداف عاشوراء وأهداف الأربعين، فها هي مواقع التَّواصل تنقل بعض مظاهر تتنافى مع قدسيَّة الشَّعائر، فيما هي الأنغام وفيما هي الحركات.
وأمَّا الحديث عن المضمون العاشورائي والأربعيني فهو حديث عن (الأهداف)، وإذا غابت الأهداف بقيت (المظاهر) فارغة.
هنا أؤكِّد على هدفين:
الهدف الأوَّل: إحياء مأساة عاشوراء
هذا الهدف مطلوبٌ جدًّا.
ولكن يجب الحذر من الانزلاق في (مرويَّات) لا صحَّة لها بدواعي إنتاج الدَّمعة.
إنتاج الدَّمعة وإنتاج الحزن أمرٌ مطلوب جدًّا، وفي غاية الأهمِّية، فمن خلاله تتجذَّر العلاقة الوجدانيَّة، ويتجذَّر الغضب ضدَّ (صُنَّاع المأساة).
إلَّا أنَّ الطَّرح العاشورائي يصنَّف إلى ثلاثة ألوان:
اللَّون الأوَّل: الطَّرح الموثَّق
هنا يتحدَّث الخطاب العاشورائي عن واقعة كربلاء كما دوَّنتها المصادر المعتمدة، وكما أكَّدتها الرِّوايات الموثَّقة، وكما جاء في الكلمات الصَّادرة عن الإمام الحسين (عليه السَّلام) وعن أهل بيته، وأنصاره.
اللَّون الثَّاني: الطَّرح الذي يعتمد الاستيحاءات
كأن يقول الخطاب: كأنِّي بالحسين، كأنِّي بالعباس، كأنِّي بالأكبر، كأنِّي بالحوراء زينب هذا أمر سائغ، ما دامت هذه الاحتمالات مشروعة، ولا تسيئ إلى الإمام الحسين (عليه السَّلام)، وأهل بيته، وأصحابه، ولا تشكِّل كذبًا.
اللَّون الثَّالث: الطَّرح الذي لا يملك الصِّحة، أو يمثِّل إساءة إلى شخوص عاشوراء (الحسين عليه السَّلام، وأهل بيته وأنصاره)
ولا يبرِّر لهذا الطَّرح أنْ يكون الهدف (إنتاج الدَّمعة)؛ فإنَّ أحداث عاشوراء الثَّابتة قادرة أنْ تنشِّط العَبرة، ولا يسوغ اعتماد وسائل مخدوشة.
الهدف الثَّاني: إحياء مبادئ وقِيَم عاشوراء
هنا مسؤوليَّة الخطاب العاشورائي، فخطابٌ لا ينهض بهذه المسؤوليَّة خطابٌ قاصرٌ أو مُقصِّر، فالإمام الحسين (عليه السَّلام) بنهضته المقدَّسة إنَّما أراد أن يحيي مبادئ وقِيَم الإسلام وهو امتداد لخطِّ النُّبوَّة، وهذا ما تحمله كلمة النَّبيُّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله): «…، وأنا من حسين».
الموسم النَّبويُّ
عشنا ذكرى رحيل النَّبيِّ الكريم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونستقبل المولد الشَّريف، وهكذا تتعانق عاشوراء مع الموسم النَّبويِّ، ليتشكَّل التَّصدِّي لكلِّ مشاريع الضَّلالِ والانحراف في هذا العصر.
مشاريع الفساد والعبث أصبحت تُغرِق أوطانَ وشعوبَ المسلمين، فالدَّعارة، والعهر، والمثليَّة القذرة، والشُّذوذ الفاسق هذا الموج المدمِّر لم يُعد سلوكًا فرديًّا، إنَّه صناعة قوى كبرى، ومشاريع أنظمة حاكمة،
هنا تكون مسؤوليَّة التَّصدِّي لهذه المشاريع الفاسقة في غاية التعقيد والصُّعوبة.
إنَّها مسؤوليَّة الخطاب الدِّيني، خطاب عاشوراء، خطاب الأربعين، خطاب الموسم النَّبوي، خطاب كلِّ المناسبات الدِّينيَّة.
إنَّها مسؤوليَّة كلِّ المواقع الواعية.
إنَّها مسؤوليَّة كلِّ الجماهير الغيورة على دينها وقِيَمها.
ليس عنفًا ولا تطرُّفًا أنْ نُعلنَ الرَّفضَ والتَّصدِّي لهذه المشاريع المدمِّرة، ما دام الرَّفض واعيًا ورشيدًا، وما دام التَّصدِّي بصيرًا وحكيمًا.
أنترك أجيالَنا تغرق في هذا الطُّوفان المدمِّر؟!
أنترك أبناءَنا وبناتنا يُسرَقون من خلالِ ثقافاتٍ فاسقةٍ اخترقت المناهجَ والإعلامَ وكلَّ المواقع؟!
فلیس عداءً للأوطانِ حينما يقولُ خطابُ الدِّينِ كلمته الرَّافضةَ لمشاريعِ الفسادِ، إنَّها الكلمةُ الأمينةُ على حراسةِ الأوطانِ.
ليسوا أمناءَ على الأوطانِ مَنْ ينشرونَ الفُسْقَ والدَّعارةَ والعبثَ بقيم الدِّين، وليسوا أمناءَ على الأوطانِ مَنْ يبقونَ صامتينَ وهم يرونَ هذا الفُسقَ والدَّعارة والعبثَ بقِيَم الدِّينِ يقتحم كلَّ المواقعِ حتى المواقع التي يُفترضُ أنْ تكونَ مواقعَ بناءٍ، ومواقعَ تحصينٍ، ومواقع تربيةٍ، ورعايةٍ، وترشيدٍ.
فأيَّةُ أجيالٍ تلك التي سوفَ تُنتجها هذه المواقع؟!
هكذا يتشكَّلُ معتركٌ صعبٌ بين مشروعين:
مشروعٍ أمينٍ على أجيالِ أمَّتنا، وصادقٍ في الدِّفاعِ عن هُويَّتِنا ومبادئِنا، وقِيَمِنا، وأصالَتِنا، وعزَّتِنا، وكرامتِنا.
هذا المشروعُ ذائبٌ في خطِّ اللهِ، وخطِّ أنبيائِهِ، وخطِّ أوليائِهِ، هذا الخطُّ هو الخطُّ الذي يحمله (موسمُ عاشوراء) و(موسمُ الأربعين) و(موسمُ النَّبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، هذا الموسم الذي يمتدُّ من 28 صفر حتى 17 ربيع الأوَّل).
والمشروعُ الآخر مشروعٌ مُدَمِّرٌ للأوطانِ، وللأجيالِ، وعابثٌ بهُويَّة هذه الأمَّةِ، وبمبادئها وقِيَمِها، وأصالتِها، وعزَّتِها، وكرامتِها…
هذا المشروعُ ذائب في خطِّ الشَّيطان، وخطِّ الضَّلالِ، وخطِّ الفسادِ، وخطِّ الانحرافِ.
وفي كلِّ الأعصرِ والأزمانِ هناك صراعٌ بين المشروعين، المشروع الذَّائب في خطِّ اللهِ وخطِّ الأنبياء والأولياء، وهنا تتمركز عاشوراء الحسين (عليه السَّلام)، وهنا يتمركز موسم النَّبيُّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
ومشروعٌ مضادٌّ، وينتمي إليه صُنَّاعُ الشَّرِّ والضَّلال، والانحرافِ، والعبثِ، والفَسَادِ.
هكذا تتشكَّل الانتماءات.
وهكذا تتشكَّل المسارات.
انتماءات ومسارات تحملُ نداء الله.
وانتماءات ومسارات تحملُ نداء الشَّيطان.
ولا أتحدَّث هنا عن انتماءات ومسارات مذهبيَّة وطائفيَّة.
فمن اصطفَّ مع الدِّين ومبادئه وقِيَمه فهو في خطِّ الأنبياء والأولياء.
ومَنْ اصطفَّ ضدَّ الدِّين ومبادئه وقِيَمه فهو في الخطِّ الآخر.
فالإمام الحسين (عليه السَّلام) حينما أطلق في يوم عاشوراء (شعار الإصلاح) أراد أنْ يواجه كلَّ ألوانِ الفسادِ، فسادِ الاعتقاد، فسادِ الثَّقافةِ، فسادِ الأخلاق، فسادِ السُّلوك، فسادِ الاجتماع، فسادِ الاقتصاد، فسادِ السِّياسةِ، فسادِ الأمن.
لماذا تقوى مسارات الفساد؟
لأنَّها تُواجَه بالصَّمت.
تُمارَسُ المنكراتُ فنصمت، يُرَوَّج للدَّعارة والشُّذوذ فنصمت، تُطَبَّع العلاقات مع أعداء الدِّین فنصمت، تُكرَّس الأزمات فنصمت، تزدحم الأوطان بالغرباء فنصمت، يجوع المواطنون فنصمت، يستغيث نزلاء السُّجون فنصمت.
إنَّنا عُشَّاق هذا الوطنِ، نريد له الخير والصَّلاح، نريد له الأمن والأمان، نريد له التَّآلف والتَّقارب، نريد له المحبَّة والتَّسامح.
هكذا يكون الوطن عزيزًا، وهكذا يكون الوطن قويًّا، وهكذا يكون الوطن آمنًا، وهكذا يكون الوطن صالحًا، وهكذا يكون الوطن جميلًا، وهكذا يكون الوطن كبيرًا.
كلمة أخيرة
منذ تشرَّف هذا الوطن بانتمائه للإسلام كانت المساجد وصروح العبادة، ومواقع الشَّعائر الدِّينيَّة تمثِّل معالم بارزة، ومظاهر إيمانيَّة كبيرة، ويجب أن يبقى هذا العنوان النَّاصع لتبقى البحرين عنوان دین وإيمان.
ما برز أخيرًا من تعقيدات لبناء المساجد والمآتم ومواقع العبادة أمرٌ مقلقٌ جدًّا، ومؤشِّر غير سليم، خاصَّة وأنَّ الكثير من هذه المواقع العباديَّة والتي تملك عمقًا تاريخيًّا يمتدُّ إلى مئات السِّنين قد لا تملك وثائق رسميَّة، فهل يُبرِّر هذا أنْ ينتهي هذا التَّاريخ الإيماني والعبادي؟!
مطلوب أنْ يَعتزَّ الوطن بهذا التُّراث العبادي، وبهذه الهُويَّة الإيمانيَّة المتجذِّرة في التَّاريخ.
إنَّ وضع الاشتراطات المعقِّدة لبناء الصُّروح الدِّينيَّة والتي تملك امتدادًا زمنيًّا طويلًا سوف يُصادر الكثير من المعالم والتي تشكِّل معالم هُويَّة، ومعالم تاريخ، ومعالم انتماء.
لا مشكلة في وضع ضوابط سليمة تحفظ هذه الهُويَّة الدِّينيَّة لهذا الوطن، فلتُأَسَّس القوانين والإجراءات الرَّسميَّة في اتِّجاه المحافظة على هذا التَّاريخ الإيماني والرُّوحي والعبادي، والحذر كلُّ الحذر من أيَّة قوانين وإجراءات تُصادر الهُويَّة الإيمانيَّة، وتطمس معالمها الكبيرة.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.
وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطَّاهرين.