حديث الجمعة 607: في رحاب سورة الأعراف (2) عقدة التكبُّر والتَّعالي – ذكرى رحيل السَّيِّد أحمد الغريفي
حديث الجمعة607 | الموافق1 يونيو 2023م | التاريخ 12 ذو القعدة 1444ه | مسجد الإمام الصادق(ع) القفول - البحرين
في رحاب سورة الأعراف (2)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيّدِ الأنبياء والمرسلين، محمّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
لا زلنا مع آياتٍ من سورة الأعراف تحدَّثت عن سجود الملائكة لآدم بأمرٍ من الله سبحانه، حيث قال: ﴿… اسْجُدُواْ لآدَمَ …﴾. (الأعراف/11)
عقدة التكبُّر والتَّعالي
واستجاب الملائكة طائعين لأمر الله، وتكريمًا وتعظيمًا لآدم، إلَّا إبليس اللَّعين تمرَّد وأبى أن يسجد، زاعمًا أنَّه خير من آدم؛ حيث خُلِق من نار، وآدم خُلِق من طين: ﴿… قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾. (الأعراف/12)
وهنا صدر الأمر الإلهي بطرد إبليس:
• ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا …﴾. (الأعراف/13)
قيل: طُرِد من الجنَّة.
وقيل: من السَّماء.
وقيل: من المنزلة الرفيعة التي كان يملكها.
﴿… فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾. (الأعراف/13)
من الصَّاغرين: الأذلَّاء الحقراء.
كان إبليس يحمل (عقدة التكبُّر والتَّعالي)، فأذلَّه الله وأخزاه وطرده.
وهكذا أسَّسَ إبليس لمشروع التكبُّر، فكلُّ المتكبِّرين هم صناعة المشروع الإبليسي، وهذا ما أكَّدت عليه الرِّوايات:
• عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ) قال: «إيّاكُم والكِبرَ؛ فإنَّ إبليسَ حَمَلَهُ الكِبرُ على أن لا يَسجُدَ لآدمَ». (1)
• وعن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) قال: «إيَّاكَ والكِبرَ؛ فإنَّهُ أعظَمُ الذُّنوبِ وألأَمُ العُيوبِ، وهُو حِليَةُ إبليسَ». (2)
• وعنه (عليه السَّلام) قال: «فاعتَبِرُوا بما كانَ مِن فِعلِ اللهِ بإبليسَ، إذ أحبَطَ عَمَلَهُ الطَّويلَ وجَهدَهُ الجَهيدَ، وكانَ قد عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلافِ سَنَةٍ، لا يُدرى أمِن سِنيِّ الدُّنيا أم مِن سِنيِّ الآخِرَةِ عن كِبْرِ ساعَةٍ واحِدَةٍ! فمَن ذا بَعدَ إبليسَ يَسلَمُ علَى اللهِ بمثلِ مَعصيَتِهِ؟!». (3)
مستويات التكبُّر
والتكبُّر على ثلاثة مستويات:
(1) التكبُّر على الله سبحانه.
(2) التكبُّر على رُسُلِ الله.
(۳) التكبُّر على عباد الله.
التكبُّر على عباد الله
ما يعنيني هنا الحديث عن المستوى الثَّالث وهو: (التكبُّر على عباد الله).
وهو شائع في أوساطِ النَّاس، وحتى في أوساط المنتمين الى الدِّين رغم التحذيرات المغلَّظة في القرآن والسُّنَّة.
أطرح بعض تطبيقات للتكبُّر شائعة:
1- التعالي واستعظام النَّفسِ، واستصغار الآخرين.
(يرى نفسه دائما هو الأعظم والأفضل من كلِّ النّاس).
2- البحث عن الوجاهة في المجالس.
3- مشي الخُيَلاء، وتصعير الخدِّ للنَّاس.
4- النَّظر للآخرين باكفهرار وعبوس وتعالى.
5- البحث عن الثَّناء والإطراء دائمًا.
6- التَّفاخر والتَّباهي باستمرار.
7- تزكية النَّفس، وعدم قبول النَّقد.
8- عدم الاعتراف بالخطأ.
9- لا يسمح لنفسه بالانكسار في أيِّ حوار.
10- يبحث عن المظاهر، ولا تعنيه سلامة الباطن.
11- لا يُجالس الفقراء والبسطاء والمستضعفين.
12- يرائي في الكثير من أعماله وخدماته.
(الأمور التوصُّليَّة لا يُشترط فيها نيَّة القربة إلى الله، إلَّا أنَّ الثواب متوقِّف على هذه النيَّة).
أ- الأمور العباديَّة
ب- الأمور التوصُّليَّة (الخدمات الاجتماعيَّة/ مساعدة الفقراء/ الدَّعوة والتَّبليغ ….)
عقاب المتكبِّرين
أشدُّ عقابٍ هو عقابُ المتكبِّرين على الله:
– الشِّرك والكفر
– التمرُّد على أوامر الله.
ويليه عقاب المتكبِّرين على رسلِ الله.
ويليه عقاب المتكبِّرين على عباد الله.
وكل مراتب هذا العقاب شديدة وصعبة وقاسية.
ورد في القرآن التَّهديد الشَّديد للمتكبِّرين:
• قال الله تعالى: ﴿… أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ (الزُّمر/60)
• وقال تعالى: ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾. (الزُّمر/72)
الآية الأولى تتحدَّث عن (الذين كَذبُوا على الله).
والآية الثَّانية تتحدَّث عن (الكافرين).
فهما لا تشملان المرتبة الثَّالثة من مراتب التكبُّر وهي (التكبُّر على عباد الله)، رغم خطورة هذه المرتبة، وورد التَّشديد في النَّهي عنها.
• قال رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): «اجتَنِبُوا الكِبرَ، فإنَّ العَبدَ لا يَزالُ يَتكَبَّرُ حتّى يقولَ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكتُبُوا عَبدي هذا في الجَبَّارِينَ». (4)
• وقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ): «لا يَزالُ الرجُلُ يَتكَبَّرُ ويَذهَبُ بنَفسِهِ حتّى يُكتَبَ في الجَبَّارِينَ، فَيُصِيبُهُ ما أصابَهُم».(5)
• وفي الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «احذروا الكِبْرَ فإنَّهُ رأسُ الطغيانِ، ومعصيةُ الرَّحمن». (6)
• وقال رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم): «لا يدخل الجنَّةَ مَنْ كان في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْر.
فقال رجل: إِنَّ الرَّجلِ يُحُبُّ أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونَعلَهُ حَسَنة …
قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ]: «إِنَّ الله جميلٌ يُحِبُّ الجمال، الكِبر بطر الحقِّ وغمط النَّاس». (7)
أنْ يتنعَّم الإنسان بفيوضات النِّعم المباحة، وبالطرق المباحة أمر مشروع، ما دام يؤدِّي حقوقَ اللهِ، وما دام يتحسَّس همومَ البؤساءِ والمحرومين، وما دام يُوظِّف مالَهُ في خدمةِ الأهدافِ الصَّالحة.
• قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ): «… وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَظَرَ الله إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ فَنَالَ بِهَا الْجَنَّةَ، وَفَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرَبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ». (8)
• قال الإمام الباقر (عليه السَّلام): «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ لَجَأَ إِلَيْهِ مَكْرُوبٌ فَقَضَى حَاجَتَهُ قَضَى اللهُ لَهُ ثَلاَثًا وَسَبْعِينَ حَاجَةً اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَاجَةً في الآخِرَةِ وَوَاحِدَةً في الدُّنْيَا، وإِنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ وَوُلْدِهِ، وَإِنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنَ الآخِرَةِ أَنْ تُفَتَّحَ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَيُقَالَ لَهُ اُدْخُلْ مِنْ أَيِّهَا شِئْتَ». (9)
كلمة أخيرة (ذكرى رحيل السَّيِّد أحمد الغريفي)
تمرُّ بنا ذكرى أحدِ أعلام هذا الوطن: السَّيِّد أحمد الغريفي.
كان عنوانًا كبيرًا، اتَّسع لمساحاتٍ من العلم، والثَّقافة، والفقه، والأخلاق، والصَّلاحِ، والتَّقوى،
والحركيَّةِ، والرَّساليَّةِ، والعطاء.
كان رِسَاليَّا من الطَّرازِ الأوَّلِ.
زَاوَجَ بين ثقافةِ الدَّينِ وثقافةِ العصرِ.
استطاع أنْ يقتحم عقول الشَّباب بكفاءةٍ واقتدارٍ، رغم كلِّ المعوِّقات التي صنعتها تيارات الانحراف.
ورغم كلِّ التحدِّيات التي فرضتها ثقافة الضَّلالِ.
استطاع السَّيد أحمد الغريفي بما يملك من كفاءة علميَّةٍ متميَّزة.
وبما يملكُ من رصيد ثقافي متطوِّر.
وبما يملكُ من قدراتٍ تبليغيَّةٍ كفوءة.
وبما يملكُ من أداء خطابيٍّ مؤثِّر.
وبما يملكُ من أخلاقيَّة كبيرة.
وبما يملكُ من تقوى بارزة، ورساليَّةٍ فاعلة.
استطاع أن يكون له حضورُه الفاعلُ جدًّا.
عشقته القلوب.
انجذبت إليه النُّفوس، انفتحت عليه العقول.
تفاعلت معه كلُّ المستويات.
وكان حقًّا أحدَ مفاخِر هذا الوطن.
من الظُّلم أنْ تغيب هذا المفاخر عن ذاكرة الأجيال.
عن وعي الأجيال.
عن وجدانِ الأجيالِ.
عن سلوكِ الأجيالِ.
عن جهادِ الأجيالِ.
مسؤوليَّةُ خطابِنا الدِّيني أن يُبقي هذه الرُّموز، رموز الدِّين والعلم والفضيلة في كلِّ مسارات الأجيال. أخشى ما نخشى على أجيالنا حينما تنفصل عن هذه الرُّموز.
ومتى ما انفصلت اقتحم عقولها، واقتحم وجدانها، واقتحم سلوكها، واقتحم كلَّ حراكها وُجُودات دخيلة.
وهكذا تُسْرَقُ أجيالُ أمَّتِنا.
وهكذا يُسْرقُ شبابُ أمَّتِنا.
وهكذا تُسْرَقُ نساءُ وبناتُ أمَّتِنا.
مطلوبٌ أنْ تتشكَّل في واقع الأمَّة وفي كلِّ مسيرتها (المواقع الصَّالحة)، وهذه المواقع هي التي تحمي المسيرة، وهي التي تحصِّن كلَّ خياراتها.
الصَّالحون هم النَّماذج.
هم المُثُل الخيِّرة.
هم الرُّموز الطيّبة.
نسأله تعالى أنْ يجعلنا من عبادِهِ الصَّالحين، والسَّائرين في خُطى المتَّقين، فهو سبحانه نعم المولى ونعم المُعين، وآخر دعوانا الحمد لله ربِّ العالمين.
وأفضلُ الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الطيِّبين الطَّاهرين.
————————————————————-
الهوامش:
1- المتَّقي الهندي: كنز العمَّال 3/210، (حرف الكاف: الكبر والخيلاء)، ح 7731.
2- الآمدي التَّميمي: غرر الحكم ودرر الكلم، ص 166، (ف 5: ممَّا ورد من حكم أمير المؤمنين (ع) في حرف الألف بلفظ إياك)، ح 22.
3- الإمام عليّ (ع): نهج البلاغة (تحقيق: صالح)، ص 287، (خطبة 192: ومن خطبة له (ع) تسمى القاصعة).
4- المتَّقي الهندي: كنز العمَّال 3/210، (حرف الكاف: الكبر والخيلاء)، ح 7726.
5- المصدر السَّابق، ص 211، ح 7746.
6- الواسطي: عيون الحكم والمواعظ، ص 103، (ف 7: بلفظ احذر وهو داخل في ألف الأمر …)، ح 2321.
7- مسلم النِّيسابوري: صحيح مسلم 1/93، (ك: الإيمان، ب 39: تحريم الكبر وبيانه)، ح 147-91.
8- الصَّدوق: ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص 338، (باب يجمع عقوبات الأعمال).
9- الفتال النِّيسابوري: روضة الواعظين، ص 425، (مجلس في ذكر حقوق الإخوان والأقرباء والجار).