حديث الجمعة 599: 1- دروس من قصَّة أصحاب السَّبت | 2- في استقبال موسمَ عاشوراء
حديث الجمعة 599 | تاريخ: 21 ذو الحجَّة 1443هـ | الموافق: 21 يوليو 2022 م | مسجد الإمام الصَّادق (ع) بالقفول - البحرين
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
◊ دروس من قصَّة أصحاب السَّبت
جاء في سورة الأعراف: الآية (163) قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ:
﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ …﴾. (1)
هنا يَضعُ القرآن بين أيدينا قصَّةَ قريةٍ من قُرى بني إسرائيل، هذه القرية كانت مجاروةً للبحر، ومن الطَّبيعي أنَّها تمتهنُ صيدَ الأسماكِ.
أراد الله سبحانه أنْ يضعَ القريةَ أمامَ تجربةِ امتحانٍ صعبة جدًّا، فأصدر تعالى أمرًا حرَّم فيه صيدَ الأسماكِ في يومٍ معيَّنٍ، هذا اليومُ هو يوم السَّبت.
وشاءت إرادةُ اللهِ تعالى أنْ لا تسمح للسَّمكِ بالظُّهور إلَّا في يوم السَّبتِ فقط، وهو اليوم المحرَّم فيه صيد الأسماك، وفي غير هذا اليوم من أيام الأسبوع تختفي الأسماكُ اختفاءً كاملًا.
﴿… إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾.(2)
هكذا كان الامتحان الإلهي لأصحاب هذه القرية التي عُرفت بالتَّمرُّد على أوامر الله، وكان الله يُمهلهم المرَّة تلو الأخرى إلى أنْ جاء هذا الامتحان الأخير.
كيف تعاملوا مع هذا الامتحان الصَّعب؟
انقسَم أصحابُ القريةِ إلى ثلاثِ جماعات:
الجماعة الأولى: وهم الَّذين تمرَّدُوا على أوامرِ اللهِ سبحانه واصطادوا الأسماك.
أمَّا كيفَ اصطادُوا الأسماك؟
هناك ثلاثة أقوال:
القول الأوَّل: إنَّهم اصطادوا الأسماك بأيديهم في يوم السَّبت متحدِّين للأمر الإلهي.
القول الثَّاني: إنَّهم كانوا يضعون الشَّبكة في الماء يوم السَّبت، فيدخل فيها السَّمك، ثمَّ لا يُخرجون الشَّبكة من الماءِ إلَّا يوم الأحد في مغالطةٍ مكشوفة وهي من إيحاء الشَّيطان اللَّعين.
القول الثَّالث: إنَّهم كانون يتَّخذون الحياض ويسوقون الأسماكَ إليها في يوم السَّبت ثمَّ يجمعونها في يوم الأحد، وبهذا الأسلوب الخادع يوهمون النَّاس أنَّهم التزموا الأمر الإلهي فلم يصطادوا في يوم السَّبت.
الجماعة الثَّانية: هؤلاء لم يُمارسوا الصَّيد والتزموا الأمر الإلهي؛ والَّذي حرَّم عليهم الصَّيد في يوم السَّبت إلَّا أنَّهم بقوا صامتين، ولم يمارسوا مسؤوليَّتهم في ردع المتمرِّدين على أوامر الله تعالى، بل وقفوا موقفًا مُخذِّلًا ومثبِّطًا وواجهوا الجماعة الثَّالثة التي تصدَّت للانحراف والتَّمرُّد.
الجماعة الثَّالثة: وهم الَّذين التزموا الأمر الإلهي فامتنعوا عن الصَّيد في يوم السَّبت، ومارسوا دورهم في مواجهة الجماعة الأولى التي تمرَّدت على أوامر الله تعالى، وأصرُّوا على ممارسة هذا الدَّور.
وحينما اعترض المُخذِّلون والمُثبِّطُونَ بقولهم:
﴿… لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا…﴾.(3)
أجابوهم بكلِّ ايمانٍ وصَلابةٍ:
﴿… قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.(4)
إنَّها مسؤوليَّة الكلمة الدَّاعيةِ إلى اللهِ، الآمرةِ بالمعروفِ، النَّاهيةِ عن المنكر، الكلمةِ التي لا تعرف اليأس مهما كانت التَّحدِّيات.
كيف جاء الرَّدُّ الإلهي على ما حدث؟
أمَّا الَّذين تمرَّدوا على أوامر الله تعالى ومارسوا الصَّيدَ في يوم السَّبت فأنزل الله عليهم عذابًا شديدًا ومسخهم قِردةً.
﴿… وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾.(5)
وأمّا الطَّائفة الثَّالثة وهم الَذين التزموا الأمر الإلهي فامتنعوا عن الصَّيد، ومارسوا دورهم في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فقد أنجاهم الله تعالى.
﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ …﴾.(6)
بقي السُّؤال عن الطَّائفة الثَّانية وهم الَّذين لم يُمارسوا الصَّيد في يوم السَّبت، ولكنَّهم لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر بل مارسوا دور التَّخدير والتَّثبيط؟
هنا أقوال:
القول الأوَّل: إنَّها من النَّاجين؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿… وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ …﴾(7)، وهم الطَّائفة الأولى.
القول الثَّاني: إنَّها من الهالكين؛ لأنَّ الآية تقول: ﴿… أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ …﴾(8).
القول الثَّالث: التَّوقُّف؛ حيث لا يعلم مصير هذه الطَّائفة، فهم غير مشمولين للنَّاجين ولا للهالكين.
- رُوي عن عكرمة قال: “دخلت على ابن عبَّاس وبين يديه المصحف وهو يبكي ويقرأ هذه الآية، ثمَّ قال: قد علمتُ أنَّ الله تعالى أهلك الَّذين أخذوا الحيتان، وأنجى الَّذينَ نَهَوهُم، ولم أدر ما صُنَع بالَّذين لم يَنهوهم ولم يُواقعوا المعصية، وهذا حالُنا”.(9)
◊ من دروسِ هذه القصَّة القرآنيَّة
الدَّرس الأوَّل: مسؤوليَّة التَّصدِّي للأوضاعِ الفاسِدةِ هي مسؤوليَّة عامَّةٌ ومشتركةٌ.
هي مسؤوليَّة أنظمة حاكمة، ومسؤوليَّة شعوب.
هي مسؤوليَّة مؤسَّساتٍ دينيَّة (مساجد، منابر، حوزات، جمعيَّات، برامج وأنشطة).
هي مسؤوليَّةُ مؤسَّساتِ تربيةٍ وتعليم.
هي مسؤوليَّةُ مؤسَّساتِ ثقافة ومجتمع ورياضةٍ.
هي مسؤوليَّةُ كفاءاتٍ وقُدرات.
مطلوبٌ جدًّا أن تتعاونَ جميع هذه المواقع من أجل حماية الواقع الإيماني، ومن أجلِ إصلاحِ الأوطانِ والشُّعوبِ، وفي مواجهة كلِّ التَّحدِّيات، تحدِّيات العقيدة، تحدِّيات الثَّقافة، تحدِّيات الأخلاق والقِيَم والعادات، والأعراف والعلاقات.
هذه التَّحدِّيات التي تُحاصر كلَّ واقعنا، وتُحاصر كلَّ أجيالنا من خلال برامجَ فاسقةٍ، وفنٍّ هابط، ولهوٍ محرَّم، ومؤسَّساتٍ عابثةٍ بالقِيَم، واستخدامات منفلتةٍ لمواقع التَّواصل والإنترنت.
الدَّرس الثَّاني: الصَّمت في مواجهة المعاصي والذُّنوب هو الَّذي يُمركز الفساد والانحرافِ، وهو الَّذي يُجذِّر المفاهيم الفاسقة.
وهكذا تنمسخ القِيَم والمُثُل، وتُصاغ الأوضاع وِفقَ معايير منفلتة.
- في الكلمة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟
فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَقَالَ [صلَّى الله عليه وآله]: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟
فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَيَكُونُ ذلِكَ؟
قَالَ [صلَّى الله عليه وآله]: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟».(10)
الدَّرس الثَّالث: الصَّامتون في مواجهة المعاصي والذُّنوب هم شركاء في هذه الأعمال.
الصَّامتون المنكرون بقلوبهم لا يُعتبرون شركاء.
ما معنى الانكار بالقلب؟
ربما تتعذَّر الكلمة ويتعذَّر الفعل، فيبقى الانكار بالقلب وهو:
– أن يحمل في داخله كراهية المعاصي والعُصاة.
– الإعراض عن العُصاة.
– المقاطعة والهجران إذا كان ذلك يشكِّل ردعًا عن فعل المعصية.
أمَّا الصَّامتون الرَّاضون بفعل المعاصي.
وأمَّا الصَّامتون المتفاعلون مع العصاة.
فهؤلاء شركاء في المعاصي، وتُسمِّيهم الرِّوايات (المُداهنين).
- قَالَ الإمام الباقر (عليه السَّلام): «… أَوْحَى اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ – إِلى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «أَنِّي مُعَذِّبٌ مِنْ قَوْمِكَ مِائَةَ أَلْفٍ، أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ شِرَارِهِمْ، وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ.
فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): يَا رَبِّ، هؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ، فَمَا بَالُ الْأَخْيَارِ؟
فَأَوْحَى اللهُ – عَزَّ وَجَلَّ – إِلَيْهِ: [إنَّهم] دَاهَنُوا أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَلَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي».(11)
الدَّرس الرَّابع: الكلمة الواعظة والنَّاصحة يجب أن تكون كلمةً حكيمةً وبصيرة ورشيدة وإلَّا كان ضررُها أكبرَ من نفعها، وسلبيَّاتُها أكبرَ من إيجابيَّاتها.
وهنا يجب أنْ يتحمَّل صُنَّاعُ الخِطابِ الدِّيني، وصُنَّاعُ الخطابِ الثَّقافي، وصُنَّاعُ الخِطابِ السِّياسي، وصُنَّاعُ الخِطاب الإعلامي، وصُنَّاعُ الخِطابِ التَّربوي، وصُنَّاعُ أيَّ خطابٍ يهدف إلى الإصلاحِ والتَّصحيح أنْ يتحمَّل هؤلاءِ مسؤوليَّتهم في كيفيَّة إنتاجِ الخِطابِ، وفي لغة الخِطاب، وفي مضامينِ الخِطابِ.
وكذلك مطلوبٌ أنْ يُقرأ أيُّ خِطابٍ قراءةً واعيةً بصيرةً؛ خشية أنْ ينزلق هذا الفهمُ، وخشيةَ أنْ ينزلقَ التَّطبيق، فما أكثر ما تحدثُ ارتباكات خطيرة نتيجة انزلاقات في الفهم، ونتيجة انزلاقاتٍ في التَّطبيق.
وكم أَحَدَثَ خللٌ في إنتاجِ الخِطابِ.
وكم أنتج خللٌ في فهم الخطابِ.
كم أحدث هذا الإنتاج، وكم أحدث هذا الفهم من معطياتٍ ضارَّة لها آثارُها الكبيرة على الأوطانِ وعلى الشُّعوب.
هكذا تصنعُ الكلمة
وهكذا يصنعُ التَّعاطي مع الكلمة.
في هذا العصر يحكم العالم إعلامٌ، وهل الإعلام إلَّا كلام؟
فالكلام يصنع ثقافة الشُّعوب.
والكلام يصنع أخلاق الشُّعوب.
والكلام يصنع سلوك الشُّعوب.
والكلام يصنع خيارات الشُّعوب.
- نقرأ في كتاب الله قول الله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا …﴾.(12)
﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾.(13)
◊ كلمة أخيرة: في استقبال موسمَ عاشوراء
نستقبل موسمَ عاشوراء.
موسمَ الكلمةِ الهاديةِ، موسمَ الوعي والبصيرة، موسمَ المثلِ والقيم، موسمَ الخيرِ والعطاء، موسمَ الحبِّ والتَّسامح، موسمَ التَّآلفِ والتَّقارب.
لا يخدمُ الأوطانَ موسمٌ كموسمِ عاشوراء.
ولا يزرعُ الخيرَ موسمٌ كموسمِ عاشوراء.
ولا يدفعُ للإصلاحِ صوتٌ كصوتِ عاشوراء.
ولا يؤسِّسُ للسَّلام خطابٌ كخطاب عاشوراء.
ولا يُحصِّن الشُّعوبَ نهجٌ كنهجِ عاشوراء.
ولا يحرسُ الأمنَ خيارٌ كخيار عاشوراء.
ولا تكرِّسُ العدلَ لغةٌ كلغةِ عاشوراء.
ولا يصنعُ الأملَ شعارٌ كشعارِ عاشوراء.
ولا يُنتج التَّسامُح مسارٌ كمسارِ عاشوراء.
ولا تهدي إلى الرُّشدِ كلمةٌ ككلمةِ عاشوراء.
فمطلوبٌ من الأنظمة..
ومطلوبٌ من الشُّعوب..
ومطلوبٌ من كلِّ المواقع..
ومطلوبٌ من كلِّ الكفاءاتِ والقدراتِ..
أنْ تتعاونَ وأن تتآزرَ لتكريس كلِّ الأهدافِ الكبرى لهذا الموسم الكبير.
كلمة الجمعة القادمة – إن شاء الله تعالى – بعنوانِ (كيف نحي موسمَ عاشوراء؟).
وآخر دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
————————
الهوامش:
- سورة الأعراف: الآية 163.
- سورة الأعراف: الآية 163.
- سورة الأعراف: الآية 164.
- سورة الأعراف: الآية 164.
- سورة الأعراف: الآيتان 165 – 166.
- سورة الأعراف: الآية 165.
- سورة الأعراف: الآية 165.
- سورة الأعراف: الآية 165.
- المجلسي: بحار الأنوار 5/ 504، (ك: النُّبوة، أبواب قصص داوود (عليه السَّلام)، ب 4، قصَّة أصحاب السَّبت)، ح 13.
- الكليني: الكافي 5/ 56، (ك: الجهاد، ب: الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ)، ح 14.
- الكليني: الكافي 5/ 56، (ك: الجهاد، ب: الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ)، ح 1.
- سورة إبراهيم: الآيتان 24 – 25.
- سورة إبراهيم: الآية 26.