حديث الجمعة 598: ذكرى الغدير – دلالات حديث الغدير – في ذكرى الغدير نستحضر (عنوان التَّسامح)
حديث الجمعة 598 | تاريخ: 14 ذو الحجَّة 1443هـ | الموافق: 14 يوليو 2022 م | مسجد الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) بالقفول - البحرين
بسم الله الرحمن الرّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
ذكرى الغدير
أهنئكم بالذِّكرى الميمونةِ ذكرى الغدير سائلًا المولى القدير أنْ يجعلها ذكرى خيرٍ وهناءٍ، ومحبَّةٍ وصفاءٍ، ومودَّةٍ وإخاء، وبركةٍ وعطاء.
أنهى النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) حجَّة الوَداع في أواخِر السَّنةِ العاشرة للهجرة.
وفي طريق العودةِ إلى المدينة المنوَّرة وفي منطقةٍ تسمَّى (غدير خم) بالقرب من (الجُحفة)، وكان اليوم هو (الثَّامن عشر من ذي الحجَّة) نزل عليه (جبرئيل الأمين) بقولِ الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ …﴾.(1) ([1])
فأمر النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) جميع المسلمين العائدين من الحجِّ أن يقفوا، وكان عددهم يتجاوز المائة ألف.
نودي بالصَّلاةِ وكانت صَلاة الظُّهر.
صلَّى بهم النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكان الوقت هاجرًا حتى أنَّ الرَّجل يضع بعض ردائِهِ على رأسِهِ وبعضه تحت قدميه من شدَّة الرَّمضاء.
وظُلِّل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بثوبٍ على شجرةٍ.
أنهى النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) صلاته فقام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه.
ثمَّ نعى نفسه قائلًا:
«…، أيُّها النَّاس قد نبَّأني اللَّطيفُ الخبيرُ: أنَّه لم يُعمِّر نبيٌّ إلَّا مثل نصف عمر الذي قبله وأنِّي أوشك أنْ أُدعَى فأُجيب، …».(2) ([2])
واستمرَّ في خطابه التَّاريخي وأكَّد على التَّمسُّك بالثَّقلين الكتاب والعِترَة.
وفي لقطةٍ بقيت في ذاكرة التَّاريخ:
أخذ (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم) بيد عليٍّ بن أبي طالب فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما فقال:
«أيُّها النَّاسُ مَنْ أولى النَّاسِ بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: الله ورسولُه أعلم.
قال (صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم):
«إنَّ اللهَ مولايَ، وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه» – يقولها ثلاث مرَّات أو أربع مرات -.
ثمَّ قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه
وعادِ مَنْ عداه
وأحبَّ مَنْ أحبَّه
وأبغض مَنْ أبغضه
وانصر مَنْ نصره
واخذل مَنْ خذله
وأدر الحقَّ معه حيث دار
ألا فليبلِّغ الشَّاهد الغائب».(3) ([3])
وفي هذه اللَّحظة التَّاريخيَّة الحاسمة نزل جبرئيل الأمين بقول الله تعالى:
﴿… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا…﴾.(4) ([4])
فقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
«الله أكبر على إكمال الدِّين واتمام النِّعمةِ، ورضا الرَّب برسالتي، والولاية لعليٍّ من بعدي».
وهنا امتدت أيدي الصَّحابة الكرام مُهنِّئين أمير المؤمنين (عليه السَّلام).
وكانت لحظة بقيت متجذِّرةً في ذاكرة التَّاريخ.
وانطلق الشِّعرُ يُدوِّنَها:
وقف حسَّان بن ثابت فقال: ائذن لي يا رسول الله أنْ أقول في عليٍّ أبياتا.
فقال له النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «قُل على بركة الله».
فأنشد حسَّان قصيدته المشهورة:
يُنَاديهُمُ يومَ الغدير نبيُّهم بخُمٍّ فأَسمِعْ بالرَسُولِ مُنَاديًا(5) ([5])
هذه خلاصة عاجلة لقضيَّة الغدير.
مصادر التَّاريخ والحديث دوَّنتها
ما وُجدت قضيَّة تملك من المصادر ما تملكه قضيَّة الغدير.
روى قضيَّة الغدير من الصَّحابة مائة وعشرون صحابيًّا.
ومن التَّابعين أكثر من ثمانين تابعيًّا.
ومن الرُّواة مئات العلماء.
فلا خلاف بين المسلمين في وقوع هذه الحادثة التَّاريخيَّة (حادثة الغدير)، ولا خلاف بين المسلمين في صدور هذا الحديث (حديث الغدير).
فأين وقع الخلاف والاختلاف؟
وقع ذلك في دلالة هذا الحدث، وفي دلالة هذا الحديث.
فاتَّجه قسمٌ من المسلمين إلى أنَّه لا دلالة في هذا الحدث وفي هذا الحديث على تعيين القيادة أو تعيين الخليفة بعد النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لأنَّ كلمة (الولي) في اللُّغة تحمل عدَّة معاني: النَّاصر، المحب، الصَّديق، الحليف، الوارث.
ومن هذه المعاني: وليُّ الأمر أي الحاكم والمتصدِّي للزَّعامة.
ولا دلالة في هذا الحديث على تعيين المعنى الأخير (الحاكم والخليفة)، وإنَّما يُحمل على بعض المعاني الأخرى.
واتَّجه فريقٌ آخر من المسلمين إلى أنَّ هذا الحدث وهذا الحديث يحمل دلالة صريحة على تعيين القيادة أو تعيين الخليفة بعد النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهذا ما يذهب إليه أتباع مدرسة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
ويعتمدون في ذلك على مجموعة دلالات:
دلالات حديث الغدير
الدَّلالة الأولى: الأجواء التي تحرَّك فيها الحدث
(1) المكان: غدير خم على مقربة من الجُحفة بين مكَّة والمدينة في صحراء يلفحها الهجير، وتلتهب رمالها بوهج الظَّهيرة.
(2) الزَّمان: أثناء العودةِ من حجَّة الوَداع، في مرحلةٍ تمثِّل المقطع الأخير من حياة الرَّسولِ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
(3) الاجتماع: لقاء جماهيريٌّ حاشد ضمَّ ما يزيد على (مائة ألف) إنسان من المسلمين.
(4) الخطاب: حديث تاريخيٌّ خطير ألقاه الرَّسولُ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم الغدير.
(5) الأسلوب: أخذ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بيد عليّ (عليه السَّلام) ورفعها أمام النَّاس حتى بان بياض إبطيهما.
الدَّلالة الثَّانية: لغة الخطاب وأسلوب الخطاب
(1) التَّمهيدات التي طرحها الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
– «ألستم تعلمون أنَّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم».
– «فمن وليُّكم».
(2) الدُّعاء لعليٍّ (عليه السَّلام):
«اللَّهمَّ والِ مَنْ ولاه وعادِ مَنْ عاداه وانصر مَنْ نصره واخذل مَنْ خذله».
(3) الحديث عن الثَّقلين.
(4) التَّصريح الواضح في خطاب الرَّسول (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بأنَّها الأيام الأخيرة في حياته المباركة.
(5) التَّأكيد في آخر الخطبة أنْ يُبلِّغ الشَّاهد الغائب.
(6) التَّصريحات التي صدرت من بعض الصَّحابة.
الدَّلالة الثَّالثة: آية التَّبليغ تحدِّد المضمون الكبير لحادث الغدير
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ…﴾.(6) ([6])
أكَّدت الكثير من المصادر على نزول هذه الآية على الرَّسول (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) حينما كان في طريق العودة من حجَّة الوداع في مكان يُقال له (غدير خم).
1- السَّيوطي في الدُّر المنثور.
2- الحاكم الحسكاني في شواهد التَّنزيل.
3- الواحدي في أسباب النُّزول.
4- الفخر الرَّازي في التَّفسير الكبير.
5- ابن كثير في تفسيره.
6- الألوسي في روح المعاني.
7- ابن الصَّباغ المالكي في الفصول المهمَّة.
8- الشَّوكاني في الفتح القدير.
9- العيني في عمدة القاري.
10- محمد رشيد رضا في تفسير المنار.
فآية التَّبليغ تحمل مجموعة مؤشرات تعبّر عن خطورة المسألة المطروحة:
أ- الصِّيغة الصَّارمة:
- ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ…﴾.(7) ([7])
- ﴿… وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ…﴾.(8) ([8])
ب- التَّوقيت الإلهي للنَّص حيث نزل في أثناء العودة من حجَّة الوداع (المرحلة الأخيرة من حياة الرَّسول (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)).
- ﴿… وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ…﴾.(9) ([9])
وهناك دَلالات كثيرة لقضيَّة الغدير لا يتَّسع هذا الوقت المحدود لذكرها.
مدرسة التَّسامح
ونحن نقرأ عليًّا (عليه السَّلام) في ذكرى الغدير يجب أنْ نستحضر (عنوان التَّسامح)، فقد مارس (عليه السَّلام) دورًا كبيرًا في تكريس هذا العنوان.
ألم نقرأ في التَّاريخ أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) سمع قومًا من أصحابه يسبُّون أهل الشَّام أيام حرب صفِّين، فتصدَّى لهم بقوَّة قائلًا: «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ».(10) ([10])
كان بإمكان أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنْ يغذِّي عند أصحابه (روح الكراهية والانتقام) ضدَّ أهل الشَّام الذي احتشدوا لقتاله.
وكان بإمكانه أنْ يوظِّف هذه الأجواء الانفعاليَّة.
إلَّا أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) رجل المبادئ والقِيَم أراد لأصحابه أن يكونوا (نماذج راقية) في تجسيد مُثُل الدِّين وأخلاق الإسلام.
هكذا يجب أنْ يكون الخطاب الدِّيني والخطاب الثَّقافي، والخطاب السِّياسي.
لا مشكلة أنْ نختلف دينيًّا أو ثقافيًّا أو سياسيًّا.
ولا مشكلة في أنْ يعبِّر كلُّ إنسان عن قناعاته الدِّينيَّة أو الثَّقافيَّة أو السِّياسيَّة.
ولكنَّ المشكلةَ حينما يتطرَّفُ الخطاب.
ولكنَّ المشكلةَ حينما تنفلت اللُّغة.
ولكنَّ المشكلةَ حينما يكون التَّعصب.
ولكنَّ المشكلةَ حينما يموت التَّسامح.
ولكنَّ المشكلةَ حينما تغيبُ الحكمة.
ولكنَّ المشكلةَ حينما يُقتل الحوار.
وحينما تحكم أوضاع الأوطان هذه المسارات، فما أسوء المآلات، وما أسوء الخيارات.
إنَّها مسؤوليَّة أنظمة حاكمة.
وإنَّها مسؤوليَّة نخب دينيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة.
وإنَّها مسؤوليَّة جماهير.
ولا شكَّ أنَّ القدرات والإمكانات متفاوتة، ولذلك تتفاوت المسؤوليَّات.
فأي موقع يتخلَّف عن مسؤوليَّاته يحدث إرباكًا في أوضاع الأوطان، وبقدر المواقع يكون الإرباك، وبقدر المواقع تكون التَّأزُّمات والمآلات.
أخلصُ إلى القول أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) حدَّد في كلمتِهِ ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأوَّل: اعتماد اللُّغة النَّظيفة في الخطاب والحوار.
المبدأ الثَّاني: ممارسة النَّقد الهادف والبنَّاء.
- «ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ».(11) ([11])
المبدأ الثَّالث: التَّأكيد على شعار الصُّلح والوحدة والتَّقارب.
- «وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ، واهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ …».(12) ([12])
وآخر دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]– سورة المائدة: الآية 67.
[2]– الأميني: الغدير 10/1، (واقعة الغدير).
[3]– انظر: الأميني: 11/1، (واقعة الغدير).
[4]– سورة المائدة: الآية 3.
[5]– انظر: الأميني: 11/1، (واقعة الغدير).
[6]– سورة المائدة: الآية 67.
[7]– سورة المائدة: الآية 67.
[8]– سورة المائدة: الآية 67.
[9]– سورة المائدة: الآية 67.
[10]– نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، ص 323، ح 206.
[11]– نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، ص 323، ح 206.
[12]– نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، ص 323، ح 206.