حديث الجمعة 594: خيارات العطلة الصَّيفيَّة – مقطعٌ من عهد أمير المؤمنين (ع) إلى مالك الأشتر يعالج غلاء الأسعارِ في الأسواق – استمرار الإساءة إلى النَّبيِّ الأكرم (ص)
حديث الجمعة 594 | تاريخ: 09 ذو القعدة 1443هـ | الموافق: 09 يونيو 2022 م | مسجد الإمام الصادق (ع) بالقفول - البحرين
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلواتِ على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ المعصومين.
السَّلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
حديث اللَّيلة يتناول إنْ شاء الله العناوين التَّالية:
– استمرار الكلام حول خيارات العطلة الصَّيفيَّة.
– مقطعٌ من عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) إلى مالكٍ الأشتر
– كلمة أخيرة.
العنوان الأوَّل: خيارات العطلة الصَّيفيَّة
الحديث لا زال مستمرًّا حولَ (خياراتِ العُطلةِ الصَّيفيَّة)، وحسب ما تقدَّمَ في حديثِ الجمعةِ الماضيةِ أنَّ الخيارات ثلاثة:
1- الخيار المحرَّم.
2- الخيار الاستهلاكي.
3- الخيار الهادف.
تقدَّم الحديثُ عن الخيار الأوَّل وهو خيارٌ يدفعُ بالطُّلَّابِ والطَّالباتِ في اتِّجاه العبثِ والفَسادِ، خاصَّة ونحنُ في عَصْرٍ استنفر الشَّيَطانُ فيه كلَّ وَسَائلِهِ من أجلِ سَرِقةِ أجيالِ هذه الأمَّةِ، وبالأمسِ القريبِ سَمِعنا الدَّعواتِ المتجرِّئةَ على الدّينِ والقِيَم من بعض السَّفارات وهي تجهر بالتَّرويج للشُّذوذِ الجنسي في ما يُسمَّى بالمثليَّة علاقة الذَّكر بالذَّكر، وعلاقة الأنثى بالأنثى وهكذا وبكلِّ وقاحةٍ تُطلَقُ هذه الدَّعواتُ في أوطاننا الإسلاميَّة، ودينُنا المقدَّسُ يتشدَّد في مواجهةِ هذا اللَّونِ من العبث اللَّا أخلاقي.
وهنا أثمِّن كلَّ الصَّرخاتِ الغاضبةِ التي عبَّرت عن رفضها لهذه الدَّعواتِ الفاسقةِ، سواء صدرت من مواقعَ شعبيَّةٍ أو من مواقعَ رسميَّةٍ.
إنَّها مسؤوليَّةُ أنظمةٍ ومسؤوليَّةُ شُعُوب.
وإلَّا سقطتْ أوطانُنا وشعوبُنا في مآلاتٍ مُدمِّرةٍ مرعبة.
وهذا ما حذَّر به نبيُّنا الأعظم (صلَّى الله عليهِ وآلِهِ وسلَّم) في كلمتِهِ المشهورة:
- «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟».(1)
حينما تكون المواقفُ صامتةً، وحينما تكونُ المواقفُ مداهنةً تنتشر الظَّواهر الفاسدة والفاسقة والمنحرفة، وتتجذَّر في أوساط الأمَّة.
سمع الصَّحابة الكرام هذه الكلمة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) فقالوا في استغرابٍ واندهاشٍ:
“وَيَكُونُ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟”.
فقال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم):
«نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ، وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟!».
هنا تصل الأمَّة إلى مرحلة أشدُّ خطورة.
لا تصمت فقط، بل تُروِّج للعبث والفساد والانحراف.
ويتساءل الصحابة مرَّة ثانية وفي اندهاش أكبر:
“يَا رَسُولَ اللهِ وَيَكُونُ ذلِكَ؟”.
ويأتي الجوابُ الصَّاعقُ من رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): «نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟!».
وهذه أخطر المراحل التي تصلُ إليها الأمَّة (انقلاب المفاهيم والمعايير).
وهنا تنمسِخ هُويَّةُ الأمَّة، وتفقدُ أصالتها، وتضيعُ قِيَمُها، وتزحفُ إليها (المفاهيم والقِيَم والمعايير الدَّخيلة والمنافية للدِّين والإسلام والقرآن).
فلكي لا تصلُ أوطانُنا وشعوبُنا إلى هذه المرحلة المدمِّرة مطلوبٌ أنْ نقول الكلمةَ الرَّافضة للعبث، ولا عبث أخطر من ترويج (الفسق والفجور)، هذا التَّرويج الَّذي يستهدف في الدَّرجة الأولى (سرقة أجيال الأمَّة من الشَّباب والشَّابات).
هنا مسؤوليَّةُ الخطابِ الدِّيني.
ومسؤوليَّةُ الخِطابِ الثَّقافي.
ومسؤوليَّة الخِطابِ الإعلامي.
أجيالُنا أمانة في أعناق الأنظمةِ، وفي أعناقِ حرَّاسِ الوعي والمُثُلِ والقِيَمِ، وفي أعناقِ كلِّ المؤسَّسات الاجتماعيَّةِ والثَّقافيَّةِ، فمطلوبٌ من هذه المواقع أنْ تتصدَّى لكلِّ الأفكارِ والقِيَمِ الدَّخيلةِ التي تستهدفُ النَّيلَ من أصالةِ شعوبِنا الإسلاميَّة من أيِّ موقعٍ جاءتْ هذه الأفكارُ والقِيَم، فالدَّعوة إلى الشُّذوذِ الجنسي وإلى المثليَّةِ من أيِّ موقعٍ صَدَرتْ هي دعوةٌ مرفوضةٌ كلَّ الرَّفضِ لا تسمح بها قِيَمُنا الدِّينيَّةُ ومُثُلُنَا الإيمانيَّةُ.
وهنا نُطالب مؤسَّساتِنا الرَّسميَّة سواءً أكانت مؤسَّساتِ دينٍ، أم مؤسَّساتِ إعلامٍ، أم مؤسَّساتِ رياضةٍ، أم مؤسَّساتِ اجتماع، أم مؤسَّساتِ سياحةٍ، أم مؤسَّساتِ فنٍّ أنْ تُعلن موقِفها الرَّافضَ لتلك الدَّعواتِ الشَّاذَّةِ، وهنا تتلاقى الإرادةُ الرَّسميَّةُ مع إرادةِ هذا الشَّعبِ في الدِّفاعِ عن قِيَمنا الأخلاقيَّةِ، وعن مُثُلِنا الإيمانيَّة، وما أعظم الأوطان حينما تتلاقى إراداتُ الأنظمةِ مع إراداتِ الشُّعوبِ، وحينما تتشكَّل المناخاتُ الصَّالحة، وحينما تتجذَّرُ الثِّقة، وحينما تتحرَّك المَساراتُ الطيِّبة.
الخيار الثَّاني – مِن خيارات العطلة الصَّيفيَّةِ – وهو: الخيارُ الاستهلاكيُّ
وهنا ينطلق الأبناءُ والبناتُ في ممارساتٍ تقتلُ الأوقاتُ بِلا فائدة تُذكر، وربَّما تحوَّلت بعناوين ثانويَّة إلى خياراتٍ محرَّمة، وأسوق هنا بعضَ أمثلة:
1- جلساتٌ فارغةٌ في المقاهي، والتي تُملأ بالثَّرثرات، وربَّما بممارساتٍ ضارَّةٍ كالتَّدخين وشرب الشِّيشة.
2- سهراتٌ ضائعةٌ في بعض البيوت والمجالس.
3- ساعاتٌ طويلةٌ مع برامج التِّلفاز أو الإنترنت.
4- التِّجوال في الشَّوارع بلا هدف.
5- الإسرافُ في ألعابِ التَّسلية.
6- الالتحاق بالنَّوادي بلا هدف سوى ملء الفراغ.
7- الارتباط بالفِرَق الرِّياضيَّة بشكلٍ مسرفٍ.
8- النَّومُ والكسلُ والخمول.
9- الفراغ القاتل.
ربَّما كلُّ هذه الممارسات في عناوينها الأوليَّة مباحة، ولكنَّها بالعناوين الثَّانويَّة تتحوَّل إلى أعمالٍ محرَّمةٍ.
أنْ يمارس الشَّباب (لعبة كرة القدم) عملٌ مباحٌ ولكن لو استوعب الارتباط بهذه اللُّعبة كلَّ جهودِ وأوقاتِ الشَّبابِ، وأدَّى إلى التَّفريطِ في بعضِ التَّكاليف الواجبةِ أو المستحبَّةِ شرعًا تحوَّلت هذه الممارسة إلى عملٍ محرَّم.
أوضِّح الفكرة من خلال أمثلة:
المثال الأوَّل: التَّفريط في الصَّلوات الواجبة.
المثال الثَّاني: التَّفريط في حضور المساجد والمجالس الحسينيَّة.
المثال الثَّالث: التَّفريط في البرامج الدِّينيَّة النافعة.
المثال الرَّابع: التَّفريط في الاهتمامات الأسريَّة والدِّراسيَّة والمعيشيَّة.
هناك مواقع كثيرة تُبرمج لسرقة أوقات الأبناء والبنات:
– مؤسَّسات عالميَّة وإقليميَّة ومحليَّة تُهندس لسرقة عقول الشَّباب.
– جمعيَّات ونوادي وفِرق غير ملتزمة.
– أقلام وكتابات تغريبيَّة.
هنا الضَّرورة أن تنشط برامج التَّحصين لشبابنا وشابَّاتنا في مواجهة مشاريع الفساد والإفساد ومشاريع الاستهلاك.
وهذا يفرضُ أنْ نتحدَّث عن (الخيار الثَّالث) من خيارات العطلة الصَّيفيَّة وهو الخيار المقبول الهادف.
وهذا ما سوف أتحدَّث عنه – إن شاء الله – في كلمة الأسبوع القادم.
العنوان الثَّاني: مقطعٌ من عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) إلى مالك الأشتر
هذا المقطع يعالج ظاهرة تُعتبَر في عصرِنا الحاضر من أخطرِ الظَّواهرِ في حياة الشُّعوب، هذه الظَّاهرة هي: (غلاءُ الأسعارِ في الأسواق)، وقد شدَّد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) على واليه (مالك الأشتر) أنْ يراقبَ هذه الأسعارَ؛ حمايةً لمصالحِ عامَّةِ النَّاسِ (عامَّة الشَّعب) ممَّن يُرهِقُهم هذا الغلاءُ بسبب ضعف أوضاعهم المعيشيَّة.
يقول أمير المؤمنين (عليه السَّلام) مخاطبًا مالكًا، ومتحدِّثا عمَّن بيدهم الأسواق؛ والمتحكِّمين في الأسعار من التُّجَّار، وذوي الصِّناعاتِ، وأصحاب رؤوس الأموال، والَّذين يُمثِّلون أعمدة الاقتصاد والثَّروة:
«واعلم مع ذلك أنَّ في كثيرٍ منهم».(2)
مِنْ هؤلاء الَّذين بيدهم الأسواق، صفاتٍ ضارَّة جدًّا بأوضاع النَّاس.
وأشار أمير المؤمنين (عليه السَّلام) إلى بعض هذه الصِّفات:
1- «ضِيقًا فَاحِشًا»
يعني حرصًا شديدًا على المال والثَّروة.
2- «وشُحًّا قَبِيحًا»
يعني بُخلًا يُمثِّل درجةً عاليةً من القُبح، ولا أقبح من البخلِ خاصَّة لدى أصحاب الأموال.
3- «واحْتِكَارًا لِلْمَنَافِعِ»
الاحتكار يعني جمع السِّلع مِن أجل الانفرادِ في التَّصرُّفِ بها وتسويقها.
4- «وتَحَكُّمًا فِي الْبِيَاعَاتِ»
أي في الأسعار.
ولهذا الاحتكارِ والتحكُّمِ في الأسعارِ أثارٌ خطيرة، ذكر أمير المؤمنين (عليه السَّلام) منها هذين الأثرين: الأوَّل: الإضرار بأوضاع عامَّة النَّاس.
الثَّاني: وجود السَّخط تِجاه ولاة الأمر.
حيث يقول (عليه السَّلام): «وَذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ».
ثمَّ يُحدِّد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) مسؤوليَّة الوالي [الحاكم] في مواجهة ظاهرة العبث في الأسعار:
المسؤوليَّة الأولى: مراقبة الأسعار.
المسؤوليَّة الثَّانية: منع الاحتكار.
المسؤوليَّة الثَّالثة: اتِّخاذُ إجراءاتٍ رادعةٍ ضدَّ مَنْ يُمارسُ الاحتكار، ويعبثُ بالأسعارِ.
يقول (عليه السَّلام): «فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ الله (صلَّى الله عليه وآله) مَنَعَ مِنْه، ولْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعًا سَمْحًا بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ والْمُبْتَاعِ، فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاه فَنَكِّلْ بِه، وعَاقِبْه فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ».
العنوان الثَّالث: كلمة أخيرة
(استمرار الإساءة إلى النَّبيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
بكلِّ حقدٍ تستمرُّ الإساءاتُ إلى نبيِّنا الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فها هي كلماتٌ مشحونةٌ لُؤْمًا تصدرُ من مسؤولةٍ كبيرةٍ في الحزب الحاكم في الهند، فهل أصبحنا بهذه المهانةِ والمذلَّةِ ليتجرَّأ كلُّ عابثٍ وفاسدٍ على مقدَّساتِنا وكراماتِنا وعلى أعظم نبيٍّ من أنبياء اللهِ، وأشرفِ إنسانٍ شهدَتْهُ الدُّينا الحبيب المصطفى (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟!
مطلوبٌ أن تكونَ هناكَ مواقفُ جريئةٌ من المسلمينَ أنظمةً وشعوبًا لكي لا يتجرَّأ الحاقِدون وصُنَّاعُ الفتن والعابثونَ بالمقدَّساتِ ومنتجو الصِّراعات في هذا العالم، ومُهندسو الحروب بين الأديانِ والطَّوائفِ.
إنَّنا نُثَّمنُ كلَّ الاحتجاجاتِ الرَّسميَّةِ والشَّعبيَّةِ التي عبَّرتْ عن رفضها لهذه الإساءاتِ الوقحةِ، إلَّا أنَّ أنظمة المسلمين مطلوبٌ منها مواقف تتجاوز الاستنكاراتِ رغم قيمةِ هذه الاستنكاراتِ فقداسة الدِّين أكبرُ، وقِيَم الدِّينِ أشرفُ، ورموز الدِّين أعظمُ من أيَّةِ مجاملاتٍ سياسيَّة، وعلاقاتٍ دبلوماسيَّةٍ، ومصالح دنيويَّة.
ولو توحدَّت كلمةُ المسلمين أنظمةً وشُعوبًا لكانوا قوَّةً عُظمى في هذا العالم من أجلِ إنتاج السَّلامِ والأمنِ، ومن أجل إنتاج المحبَّةِ والتَّسامح، ومن أجلِ إنتاج العدل والإنصافِ، ومن أجلِ بناء الأوطان، ومن أجلِ رفاهِ الشُّعوب.
إنَّها أوَّلًا مسؤوليَّة أنظمة.
ثمَّ هي مسؤوليَّة شعوب.
ومتى تزاوجت هاتان المسؤوليَّتان كان الطَّريقُ رحبًا أمامَ الإنتاجات العظمى، إلَّا أنَّ هذا التَّزاوجَ مرهونٌ بمساراتٍ جادَّةٍ، وحكيمةٍ، ومعبَّأة بالثِّقة، والتَّوافق، والاطمئنان، وبكلِّ ما يؤسِّس لخير الأوطان والشُّعوب.
وآخر دعوانا أنْ الحمد للهِ ربِّ العالمين.
——————
الهوامش:
1- الكليني: الكافي 9/439، ك: الجهاد، ب 28 (باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر)، ح 8332/14.
2- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السَّلام)، (تحقيق صالح)، ص 438.