حديث الجمعة 592: تنوُّعُ أدوار الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) – 2
حديث الجمعة 592 | 24 شوال 1443 | الموافق 26.5.2022 | مسجد الإمام الصادق (ع) بالقفول - البحرين
تنوُّعُ أدوار الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) – 2
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين.
السَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.
أيُّها الأحبَّة الكرام.
عظَّم الله أجوركم بشهادة مولانا الإمام الصَّادق عليه أفضل الصَّلوات.
◊ مدرسة الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) عنوان كبير في تاريخ الإسلام
أكَّدت الكلمةُ في الجمعة الماضية على اعتماد مناسبة الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) لتكون موسمًا يُعرِّف بمدرسة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
إنَّ مدرسة الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) تمثِّل عنوانًا كبيرًا في تاريخ الإسلام، المدرسة التي خرَّجت آلاف الرُّواة والفقهاء والمحدِّثين، فالإمام أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي انقطع إلى مجلس الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) طوال عامين، وكذلك الإمام مالك إمام المذهب المالكي، ويُعدُّ الإمام الشافعي من تلامذة الإمام مالك، كما أنَّ الإمام أحمد بن حنبل يُعدُّ من تلامذة الإمام الشَّافعي، وبناء على ذلك يُعتَبر الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) أستاذًا معتمدًا لدى كلِّ المذاهب.
الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) لهم أدوارهم الكبيرة جدًّا في خدمةِ أهدافِ الرِّسالة، وبناءِ الأمَّةِ الصَّالحةِ، والدَّعوةِ إلى الوحدة والتَّقاربِ والتَّآلفِ، ونبذِ الصِّراعاتِ والخلافاتِ والعصبيَّاتِ.
◊ تنوُّعُ أدوار الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام)
وقَفت الكلمةُ في الأسبوعِ الماضي عند هذا العنوان (تنوُّعُ أدوار الأئمَّة من أهلِ البيت عليهم السَّلام).
ونعني بالتنوُّع: تغاير الأساليب عند الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
فإمام يُسالِم ويُصالِح.
وإمامٌ يقاوِمُ ويواجِه.
وإمامٌ يُمارس أسلوبَ الدُّعاء.
وإمامٌ يُؤسِّس مدرسة علمٍ وثقافة.
وإمامٌ ينشرُ الأحاديثَ والرِّوايات.
وإمامٌ يُغيَّب عن الأنظار.
◊ لماذا تنوَّعت أساليبُ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)؟
قد طُرحت مجموعةُ رؤى خاطئةٍ في تفسيرِ هذا التَّنوُّعِ مِن هذه الرُّؤى:
الرُّؤية الأولى: تعدُّدُ الاجتهادات
وهذه رؤية مرفوضةٌ؛ كون الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) ليسوا مجتهدين وإنَّما هم أئمَّة هداة معصومون «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ إِمَامَانِ قَامَا أَوْ قَعَدَا».(1)
وهكذا بقيَّة الأئمَّة (عليهم السَّلام).
الرُّؤية الثَّانية: تعدُّد القُدرات والكفاءات
وهذه رؤية مرفوضة؛ كون الأئمَّة جميعًا مؤهَّلين بكلِّ القُدرات والكفاءات التي تتطلَّبها مواقع الإمامة والقيادة.
الرُّؤية الثَّالثة: تعدُّد المزاجات النَّفسيَّة
(مزاجٌ مسالم، مزاجٌ ثوري، مزاجٌ رَوحاني، مزاجٌ علمي وثقافي…)
وهذه رؤيةٌ مرفوضةٌ فالأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام) لا تحكم مواقفَهم (الحالات المزاجيَّة والانفعاليَّة)، وإنَّما ينطلقون من رؤى معصومة تُحدِّد مواقفهم الشَّرعيَّة.
الرُّؤية الرَّابعة: التَّناقضُ في الأساليب
وهذه رؤية من أسفهِ الرُّؤى، وتحمل تجنِّيًا كبيرًا على الأئمَّةِ من أهل البيت (عليهم السَّلام).
فالتَّعدُّد في الأساليب ليس تناقضًا وإنَّما فرضته أسبابٌ ومُبرِّرات نعرض لها إنْ شاء الله تعالى.
وهناك رؤى أخرى لا يتَّسع المقام لذكرها في هذه العجالة.
وبعد هذا العرض لهذا الرُّؤى الخاطئة يبقى التَّساؤل مطروحًا (لماذا هذا التَّنوُّع)؟
♦ رؤيةُ الشَّهيد الصَّدر
الشَّهيد السَّيد الصَّدر عالج ظاهرة التَّنوُّع في أساليب الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) معالجة علميَّة في كتاب له بعنوان (أهل البيت تنوُّعُ أدوار ووحدة هدف).
وكما قلتُ في حديث الجمعة الماضية أنَّ كتابات الشَّهيد الصَّدر من أغنى الكتابات في تقديمِ رُؤى الإسلام وطُروحاتِ الدِّين والتَّعريف بمدرسةِ الأئمَّةِ من أهلِ البيتِ (عليهم السَّلام)، فهي كتابات صادرةٌ عن فقيهٍ متميِّز كلَّ التَّميُّز، ومفكِّرٍ كبيرٍ من مفكِّري الإسلام، عمل بكلِّ صدقٍ وإخلاص في صناعةِ أجيال الأمَّة.
فأجيالُنَا في هذا العصر يجب أنْ تحصَّن عقائديًّا، وثقافيًّا، وروحيًّا، وأخلاقيَّا، وسلوكيًّا، وفي كلِّ المجالات.
وبقدرِ ما يقوى هذا التَّحصينُ نحمي الأجيالَ في مواجهةِ كلِّ الانزلاقات والتَّأزُّمات، وهكذا تُحمَى الأوطان، وهكذا يُؤسَّس لبناءِ شُعوبٍ واعيةٍ رشيدة مُعطيةٍ، متمثِّلةٍ لقيمِ الخير والهُدى، والصَّلاحِ، والمحبَّةِ والصَّفاءِ، والتَّقارب والتَّآلفِ، والتَّسامحِ والاعتدالِ، والسَّلام والأمان، وهكذا تتشكَّل الأمَّةُ المعتصمةُ بحبل الله، المتمثِّلة لقول الله تعالى:
- {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ…}.(2)
ومن أجل إنتاج الأجيال الصَّالحة المعتدلة البعيدة عن التَّطرُّف والتَّعصُّب؛ كان للشَّهيد الصَّدر كتاباته ومحاضراته التي تعرِّف بالإسلام، وبمنهج الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
هنا نُشير إلى كتاب (أهل البيت تنوُّع أدوار ووحدة هدف).
وهذا الكتاب مطبوع ومتوفِّر، وبإمكانِ الشَّباب أنْ يقرأوه.
في هذه الدِّراسة يحاول الشَّهيد الصَّدر أنْ يُعالج (ظاهرة التَّعدُّد في أدوار الأئمَّة عليهم السَّلام)، حيث يقول بأنَّ هناك منهجين في دراسة حياة الأئمَّة من أهلِ البيت (عليهم السَّلام).
المنهج الأوَّل: المنهج الَّذي يعتمد النَّظرة التَّجزيئيَّة
وهو منهج يدرسُ كلَّ إمامٍ بصورةٍ مستقلَّةٍ.
المنهج الثَّاني: المنهج الذي يعتمد النَّظرة الشُّموليَّة
وهو منهج يدرس الأئمَّة ككيان واحد.
من خلال المنهج الأوَّل نكتشف الأدوار المتنوِّعة، ومن خلال المنهج الثَّاني نكتشف الأهداف المشتركة.
إنَّ قراءة حياة الأئمَّة (عليهم السَّلام) في حاجة إلى المنهجين معًا.
الهدف العام الذي ينتظم أدوار الأئمَّة (عليهم السَّلام) في كلِّ المراحل هو: (حماية الإسلام، وتحصين الأمَّة في مواجهة الانحرافات العقائديَّة، والفكريَّة، والرُّوحيَّة، والأخلاقيَّة، والسُّلوكيَّة، والاجتماعيَّة، وبقيَّة الانحرافات).
وأمَّا تعدُّد الأساليب فأمرٌ تفرضه اختلافات الظُّروف الموضوعيَّة، وضرورات كلِّ مرحلة، وطبيعة التَّحدِّيات.
♦ نموذج من مواقف الإمام الصَّادق (عليه السَّلام)
مارس الإمام الصّادق (عليه السَّلام) دورًا كبيرًا في مواجهة (تيَّار الإلحاد والزَّندقة) الذي حاول أنْ يتحرَّك بقوَّة في تلك المرحلة.
أستعينُ بهذا المثال:
دخل أبو شاكر الدَّيصاني – أحد الزَّنادقة – على الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) وقال: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلى مَعْبُودِي.
فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ [الإمام الصَّادق] (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «اجْلِسْ».
وَإِذَا غُلَامٌ لَهُ صَغِيرٌ، فِي كَفِّهِ بَيْضَةٌ يَلْعَبُ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ [الإمام الصَّادق] (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «نَاوِلْنِي يَا غُلَامُ الْبَيْضَةَ»، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا.
فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ [الإمام الصَّادق] (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «يَا دَيَصَانِيُّ، هذَا حِصْنٌ مَكْنُونٌ، لَهُ جِلْدٌ غَلِيظٌ، وَتَحْتَ الْجِلْدِ الْغَلِيظِ جِلْدٌ رَقِيقٌ، وَتَحْتَ الْجِلْدِ الرَّقِيقِ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ، وَفِضَّةٌ ذَائِبَةٌ، فَلَا الذَّهَبَةُ الْمَائِعَةُ تَخْتَلِطُ بِالْفِضَّةِ الذَّائِبَةِ، وَلَا الفِضَّةُ الذَّائِبَةُ تَخْتَلِطُ بِالذَّهَبَةِ الْمَائِعَةِ، فَهِيَ عَلى حَالِهَا، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا خَارِجٌ مُصْلِحٌ؛ فَيُخْبِرَ عَنْ صَلَاحِهَا، وَلَا دَخَلَ فِيهَا مُفْسِدٌ؛ فَيُخْبِرَ عَنْ فَسَادِهَا، لَا يُدْرى لِلذَّكَرِ خُلِقَتْ أَمْ لِلْأُنْثى، تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ أَلْوَانِ الطَّوَاوِيسِ، أَتَرى لَهَا مُدَبِّرًا؟» .
قَالَ: فَأَطْرَقَ [الدَّيصاني] مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ إِمَامٌ وَحُجَّةٌ مِنَ اللهِ عَلى خَلْقِهِ، وَأَنَا تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ.(3)
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
—————-
الهوامش:
1- ابن شهر آشوب: المناقب 4/394.
2- سورة آل عمران: الآية 103.
3- الكليني: الكافي 1/439، ح 219/2.