آخر الأخبارالأرشيفملف شهر رجبملف شهر رمضانملف شهر شعبان

كلمة سماحة العلَّامة الغريفي في استقبال أشهر العبادة (رجب وشعبان وشهر رمضان)

29 جمادى الآخرة 1443 هـ - الموافق 1 فبراير 2022 م | البحرين

هذه الكلمة لسماحة العلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، والتي ألقيت عبر الفضاء الإلكتروني في استقبال أشهر العبادة (رجب وشعبان وشهر رمضان)، وقد تمَّ بثُّها عبر البثِّ الافتراضي في يوم الثلاثاء (ليلة الأربعاء)، بتاريخ: (29 جمادى الآخرة 1443 هـ – الموافق 1 فبراير 2022 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.

الإعداد الرُّوحي لأشهر العبادة

أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين، سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّد، وعلى آله الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان الحديث: الإعداد الرُّوحي لأشهر العبادة
أوَّلًا: أشهر العبادة: (رجب، شعبان، شهر رمضان)
هناك ثلاثة أشهر في السَّنة تُسمَّى أشهر العبادة: شهر رجب، شهر شعبان، شهر رمضان.
ووردت روايات وأحاديث كثيرة تحدِّد القيمة الكبرى لهذه الأشهر، لست هنا في صدد الحديث عنها. فهي أشهر عباديَّة كبيرة، وأشهر روحيَّة عالية جدًّا، فيها أعمال كثيرة.
ما أريد الحديث عنه: كيف نهيَّئ ونُعد أنفسنا روحيًّا لهذه الأشهر، أشهر العبادة؟
فهذه الأشهر لها رَوحانيَّتها.
ونقصد بالرَّوحانيَّة:
أ- روحانيَّة الصَّلاة.
الصَّلاة تشكِّل قمَّة الرَّوحانيَّة، وهذه أشهر الصَّلاة، وهذه أشهر تُعبَّأ بالصَّلاة، فالصَّلاة لها موقعها ولها قيمتها في هذه الأشهر، ولها ثوابها العظيم، والرِّوايات كثيرة في مَنْ يُصلِّي بعض ركعاتٍ في هذه الأشهر العظيمة.
ب- روحانيَّة الذِّكر والدُّعاء.
بقدر ما ترتقي الرَّوحانيَّة في الذِّكر والدُّعاء، ترتقي روحانيَّة هذه الأشهر.
ج- روحانيَّة التِّلاوة القرآنيَّة.
د- روحانيَّة المساجد.
ه- روحانيَّة الاعتكاف.
و- روحانيَّة الأخلاق والسُّلوك.

 مكوِّنات الرَّوحانيَّة واحدة
وذلك بأن أكون روحانيًّا في صلاتي، أو في دعائي، أو في ذِكْري، أو في تلاوتي للقرآن، أو في أخلاقي، أو في حَجِّي، أو في صيامي، فالرَّوحانيَّة واحدة.

ماذا تعني الرَّوحانيَّة؟
حينما أقول فلان رَّوحاني، أو رَّوحانيَّة العبادة أو رُوحانيَّة من الرُّوح أو من الرَّوح، (رَوحانيَّة أو رُوحانيَّة).
الرَّوحانيَّة هي انصهار وذوبان مع الله تعالى.
الإنسان الرَّوحاني، هو الذي يملك انصهارًا كبيرًا وعشقًا في العلاقة مع الله، وكلَّما يرتقي مستوى الانصهار والعشق الإلهي، يرتقي مستوى الرَّوحانيَّة أو الرُّوحانيَّة.
ومن آثار الرَّوحانيَّة:
أ‌- الخشوع
مَنْ يملك الرَّوحانيَّة يعيش خشوعًا حقيقيًّا، لا خشوعًا متصنَّعًا متكلَّفًا، يصلِّي صلاة خاشعة، ويتلو تلاوة خاشعة، ويدعو دعاءً خاشعًا، فالخشوع أثر واضح من آثار الرَّوحانيَّة.
ب‌- البكاء
الرَّوحاني هو مَنْ ترى عنده الدَّمعة التي تعبِّر عن درجة عالية من العشق والهيام مع الله سبحانه وتعالى.

الخشوع، الدَّمعة، البكاء، الذَّوبان، الانصهار، هذه آثار روحانيَّة.

 منتِجات الرَّوحانيَّة
المُنتِج الأوَّل: حبُّ الله تعالى
كلَّما ارتقى مستوى حبُّ الله، ارتقى مستوى الرَّوحانيَّة عند الإنسان.
الحبُّ الحقيقي، والعشق الحقيقي، والهيام الحقيقي مع الله سبحانه وتعالى.

المُنتِج الثَّاني: الحياء من الله تعالى
الحياء درجة عالية جدًّا، تجعل الإنسان يستحي أن يصدر منه شيئًا لا يُرضي الله وهو بحضرة الله، فالإنسان أينما يكون هو بحضرة الله، وبنظر الله، وبعلم الله، وبمشاهدة الله، فما دام يستشعر هذا الحضور فهو يعيش الحياء من الله.
فحينما يريد أن يكذب، أو يغتاب، أو يُمارس عملًا محرَّمًا والله يشاهده ويطلَّع عليه وينظر إليه، فسيعيش درجة من الحياء، كما يستحي من النَّاس، يكون حياؤه وخجله من الله أكبر.
فكما أنَّ حبَّ الله يصنع الرَّوحانيَّة، كذلك الحياء من الله يصنع الرَّوحانيَّة، هذا هو المُنتِج الثَّاني للرَّوحانيَّة.

المُنتِج الثَّالث: الخوف من الله تعالى
كلَّما ارتقى مستوى الخوف من الله، كلَّما ارتقى مستوى روحانيَّة الانسان، لذلك يبكي، ويتضرَّع، ويتأوَّه، هكذا يصنع الهيام والحبُّ والعشق لله سبحانه وتعالى، فالعشق مرتبط أيضًا بدرجة الخشية من الله، والخوف من الله.

المُنتِج الرَّابع: الرَّجاء في ثواب الله تعالى
كلَّما ارتقى مستوى الرَّجاء والطَّمع في القرب من الله وفي ثواب الله وفي عطاء الله، زادت الرَّوحانيَّة.

الرَّوحانيَّة بين المضمون والشَّكل
هذه أربع مُنتجات تشكِّل المضمون الحقيقي للرَّوحانيَّة، وإذا غابت هذه المُنتِجات تُصبح الرَّوحانيَّة شكليَّة وليست حقيقيَّة.
الرَّوحانيَّة الحقيقيَّة هي التي يُنتجها حبُّ الله تعالى، والحياء من الله، والخوف من الله، والرَّجاء والطَّمع في ثواب الله.
هذه الرَّوحانيَّة التي مصدرها هذه المُنتِجات هي الرَّوحانيَّة الحقيقيَّة، وإلَّا تُصبح رَوحانيَّة شكليَّة لا قيمة لها.

ثانيًا: مكوِّنات الرَّوحانيَّة

لكي أكون روحانيًّا لابدَّ من التَّوفُّر على مجموعة مكوِّنات:

المكوِّن الأوَّل: أنْ أملك عقلًا روحانيًّا

وذلك بأن يتحوَّل العقل إلى عقل روحاني، والرَّوحانيَّة تبدأ بصنع العقل الرَّوحاني، لتنطلق الرَّوحانيَّة في مسارها وفي كلِّ مكوِّناتها.
وامتلاك عقل روحاني تعني: امتلاك رؤية روحيَّة للعبادة.

‌أ- رؤية روحيَّة للصَّلاة

هناك مَنْ يفهم الصَّلاة مجرَّد حركات، قيام، ركوع، سجود، أذكار معيَّنة، وهناك مَنْ يفهم الصَّلاة عروج ربَّاني إلى الله، وسَفْرَةٌ إلهيَّة، وانطلاقة تحرُّر من كلِّ ارتباطات الأرض؛ ليبقى الإنسان في آفاق الله العليا، وفي حالة عروج مع الله.
ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «الصَّلاةُ مِعْرَاجُ المُؤْمِن». (1)
في صلاته يعرج، ويتمرَّد على كلِّ الواقع المادِّي المحسوس؛ ليعيش درجة القرب من الله، مع الملائكة ومع الأبرار ومع الصِّديقين.
هذه رؤية روحانيَّة للعبادة، فبقدر ما ترتقي الرُّؤية الرُّوحيَّة للعبادة، يرتقي مستوى روحانيَّة الإنسان.

‌ب- رؤية روحيَّة للصِّيام

‌ج- رؤية روحيَّة للحج

ماذا يعني الإحرام؟
ماذا يعني الطَّواف؟
ماذا تعني التَّلبية؟
ماذا يعني السَّعي؟

‌د- رؤية روحيَّة للاعتكاف.

‌ه- رؤية روحيَّة للذِّكر والدُّعاء.

‌و- رؤية روحيَّة للتِّلاوة.

‌ز- رؤية روحيَّة لحضور المساجد.

هذه كلُّها لها مضامين روحيَّة، صحيح أنَّ لها أبعادًا وأحكامًا فقهيَّة، لكنَّ مضامينها الروحيَّة هي الأساس.

المكوِّن الثَّاني: أنْ أملك قلبًا روحانيًّا

لا يكفي امتلاك العقل الرَّوحاني فقط، فالعقل الرَّوحاني يُعطي الرُّؤية، والبصيرة، والفهم الرُّوحي، لكنْ لا يصنع الرَّوحانيَّة، فهناك حاجة إلى صنع القلب الرَّوحاني.
(عشق الله/ عشق العبادة/ عشق الطَّاعة)
القلب الرَّوحاني هو الذي يعشق الله، والعبادة، والطَّاعة.
الوعي الرُّوحي موقعه العقل
أمَّا العشق الرُّوحي فموقعه القلب.
فنحتاج إلى العقل الرُّوحي، حتى نفهم الرُّؤية الرُّوحيَّة، ونحتاج إلى قلب روحي حتى يُصنع العشق الرُّوحي.

 مكوِّنات روحانيَّة القلب

كيف نصنع القلب الرُّوحي؟
نحتاج إلى مجموعة شروط ومكوِّنات لصناعة روحانيَّة القلب، وهي:
(1) خلوص النِّيَّة.
(2) طهارة القلب.
(3) طهارة البطن.
(4) طهارة الجوارح.

لا يمكن للقلب أن يكون رَوحانيًا والنِّيَّة غير خالصة.
لا يمكن للقلب أن يكون روحانيًّا والقلب ملوَّث.
لا يمكن للقلب أن يكون روحانيًّا والبطن يأكل الحرام.
• قال (صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم): «يا علي، من أكل الحرام سود قلبه، وخلف دينه، وضعفت نفسه، وحجب اللّه دعوته، وقلت عبادته».(2)
إذًا اللُّقمة الحرام تلوِّث الرَّوحانيَّة.
فأحتاج إلى بطنٍ طاهرٍ حتى أصنع روحانيَّة القلب، وأحتاج إلى جوارح طاهرة، كالعين التي لا تنظر نظرة محرَّمة، واللِّسان الذي لا يكذب، والأذن التي لا تسمع الحرام، والبطن الذي لا يأكل الحرام، واليد التي لا تمارس الحرام.
فالجوارح إذا انضبطت حينها تشعُّ الرَّوحانيَّة في القلب.

المكوِّن الثَّالث: أنْ أملك سلوكًا روحانيًّا

‌أ- قد أملك عقلًا روحانيًّا، وقد أملك بصيرة روحانيَّة عالية جدًّا، وقد أملك ثقافة روحانيَّة عالية جدًّا، وقد أملك قلبًا روحانيًّا، وقلبًا رقيقًا مشبعًا بالرَّوحانيَّة، ولكن لا أملك سلوكًا روحانيًّا، فلا فائدة من ذلك، ولم أحقِّق شيئًا.
حينما تبقى الرَّوحانيَّة منحصرة في العقل، وحينما تبقى الرَّوحانيَّة منحصرة في القلب ولا تتحوَّل إلى سلوك فهذا لا يصنع الرَّوحانيَّة الحقيقيَّة.

‌ب- يجب أن تتحوَّل المفاهيم إلى ممارسات.
الرَّوحانيَّة في العقل قد تكون صنعت مفاهيم روحيَّة، لكنَّ هذه المفاهيم الرَّوحانيَّة قِيمتها حينما تتحوَّل إلى ممارسات، فإذا بقيت مفاهيم جاثمة في العقل فإنَّها لم تصنع شيئًا كبيرًا.
للمفاهيم الرَّوحانيَّة قيمتها بشرط أن تتحوَّل إلى ممارسات، فحينما تكون الرَّوحانيَّة في القلب تصنع عواطف روحانيَّة، وحينما تكون في العقل تصنع مفاهيم روحانيَّة.

‌ج- ويجب أن تتحوَّل العواطف إلى سلوك
وإلَّا؛ فلا قيمة للمفاهيم، ولا قيمة للعواطف إذا لم تتحوَّل إلى ممارسات.
الرَّوحانيَّة الحقيقيَّة هي التي تنتج (تقوى السُّلوك).
يكذب من يدَّعي الرَّوحانيَّة وهو يمارس المعاصي والذُّنوب.
الرَّوحانيَّة هي عشق الله، فكيف أعشق الله وأنا أعصيه؟ وكيف أكون بذلك روحانيًّا؟!
التَّقوى هي التَّعبير الحقيقي للرَّوحانيَّة، والورع هو التَّعبير الحقيقي للرَّوحانيَّة.
• عن النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: «مَن لَم تَنهَهُ صَلاتُهُ عَنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ لَم يَزدَد مِنَ اللهِ إلَّا بُعدًا».(3)
من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا قيمة لصلاته.
• وعن أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ صِيَامِه إِلَّا الْجُوعُ والظَّمَأُ، وكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ قِيَامِه إِلَّا السَّهَرُ والْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الأَكْيَاسِ وإِفْطَارُهُمْ».(4)
وربّ قائمٍ ليس له من قيامه إلَّا العناء والجهد والتَّعب، لأنَّ الصَّلاة لم تتحوَّل إلى واقعٍ في حياته.
إذًا هذه ليست روحانيَّة حقيقيَّة، وإنَّما هي روحانيَّة مُتكلَّفَة مُتصنَّعَة.
• قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «رُبَّ تالِ للقرآن والقرآنُ يَلعَنُهُ».(5)
• عن أبي جعفر [الإمام الباقر] (عليه السَّلام) قال: «ما يُعْبَأُ بِمَن يَؤُمُّ هذا البَيتَ إذا لَم يَكُن فيهِ ثَلاثُ خِصالٍ: وَرَعٌ يَحْجِزُهُ عن مَعاصي اللَّهِ تعالى، وحِلْمٌ يَمْلِكُ بهِ غَضَبَهُ، وحُسْنُ الصَّحابةِ لِمَن صَحِبَهُ».(6)
إنَّ الله لا يعبأ بمن قصد هذا البيت؛ ما لم يتوفَّر على مجموعة صفات، منها الورع والتَّقوى والصَّلاح.
• عَنِ الإمام الصَّادِقِ (عليه السَّلام)، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السَّلام) أَنَّ النَّبِيَّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قَالَ: «مَنْ أَطَاعَ الله فَقَدْ ذَكَرَ الله وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ، وَمَنْ عَصَى الله فَقَدْ نَسِيَ الله وَإِنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ».(7)
إذًا هناك حاجة أساس لأن تتحوَّل المفاهيم إلى سلوك.
هذه هي المكوِّنات الثَّلاثة الأساس لصُنع الرَّوحانيَّة:
المُكوِّن الأوَّل: أن أملك عقلًا روحانيًّا.
المكوِّن الثَّاني: أن أملك قلبًا روحانيًّا.
المكوِّن الثَّالث: أن أملك سلوكًا روحانيًّا.

ثالثًا: آثار الرَّوحانيَّة

لماذا نحتاج للرَّوحانيَّة؟
لأنَّ لها آثارها، ولها منتجاتها.

 ما هي آثار الرَّوحانيَّة؟

الأثر الأوَّل: آثار عباديَّة

(الصَّلاة/ الذِّكر/ الدُّعاء/ التِّلاوة/ الصِّيام/ الحجّ …).

1- أثر الرَّوحانيَّة في الصَّلاة

إنَّ الرَّوحانيَّة يظهر أثرها في الصَّلاة، فيبقى الإنسان عاشق للصَّلاة، ومحبٌّ لها، ومواظب عليها، سواء الصَّلاة الواجبة، أم الصَّلوات المندوبة الرَّاتبة وغير الرَّاتبة.
هناك صلاة واجبة: كالصَّلوات الخمس، وقضاء الصَّلوات الواجبة.
وهناك صلوات نوافل، ورواتب مستحبَّة، كـ: نافلة الفجر، ونافلة الظُّهر والعصر، ونافلة المغرب، والعشاء، هذه النَّوافل مستحبَّة ولها ثوابها الكبير.
وهناك صلواتٌ مستحبَّة غير راتبة، كـ: صلاة جعفر الطيَّار، وصلاة الوصيَّة، وصلاة البر بالوالدين، وصلاة أوَّل الشَّهر.
إذًا الأثر الأوَّل للرَّوحانيَّة يظهر على العبادة ومنها الصَّلاة.

2- أثر الرَّوحانيَّة في الذِّكر:

مَنْ يمتلك الرَّوحانيَّة يكون مشدودًا إلى ذكر الله، ويكون لسانه لهجٌ بذكر الله.

 أنواع الذِّكر

هناك ذِكرٌ لساني، وذِكرٌ قلبي، وذِكرٌ سلوكي.

‌أ- الذِّكر اللِّساني:

مثلًا: قول (سبحان والحمد لله ولا إله إلَّا الله)، هذا ذكر لساني.

‌ب- الذِّكر القلبي:

مثلًا: حينما يتأمَّل القلب في آفاق الله، هذا ذكر قلبي، وهو أرقى من الذِّكر اللِّساني.
الذِّكر اللِّساني مطلوبٌ {.. يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا …} (8)، لكن هناك ذكر قلبي فيه تأمُّل، والتَّأمُّل في خلق الله ذِكر وهو من أعظم أنواع الذِّكر.
• عن أبي عبد الله [الإمام الصَّدق] (عليه السَّلام) قال: «كانَ أكثرُ عِبادَةِ أبي ذَرٍّ – رحمة الله عليه – خصلتين: التَّفكُّرَ والاعتِبارَ».(9)
التَّفكُّر عبادة عالية، وذكرٌ عالٍ جدًّا، حينما يُفكِّر الإنسان في السَّماوات والأرضين، والشَّمس والقمر، واللَّيل والنَّهار، وخلق الإنسان، وخلق الأشجار والنَّباتات، وخلق الحيوانات، وخلق البحار والأنهار والجبال، هذا التَّفكُّر عبادة كما هي الصَّلاة عبادة، وهو ومن أرقى أنواع العبادات، هذا ذكرٌ عقليٌّ تأمليٌّ.

‌ج- الذِّكر العملي:

حينما يمتنع الإنسان عن الكذب فقد ذكر الله عمليًّا.
وحينما يمتنع عن الغِيبة فقد ذكر الله عمليًّا.
وحينما يمتنع عن أكل الحرام فقد ذكر الله عمليًّا.
إنَّ أرقى أنواع الذِّكر هو الذِّكر العملي.
للذِّكر اللِّساني قِيمة كبيرة جدًّا، وللذِّكر القلبي قِيمة كبيرة جدًّا، لكنَّ القِيمة الأعظم للذِّكر العملي.
حينما يواجه الإنسان موقفٌ فيذكر الله، ويتساءل مثلًا:
هل يسمح لي الله بهذا الأمر أو لا يسمح؟
هل هذا حلالٌ أم حرام؟
هل يأمر الله به أو ينهى عنه؟
هنا قد ذكر الله، فيده لم تمتد لأكل الحرام؛ لأنَّه ذكر الله.
هذا ذِكر، لكنَّه ذكرٌ عمليّ، وهو أرقى من الذِّكر اللِّساني، ومن الذِّكر القلبي، وكلُّ أنواع الذِّكر مهمَّة.
فإذًا الذِّكر هو أثرٌ عباديّ للرَّوحانيَّة.

3- أثر الرَّوحانيَّة في الدُّعاء

الدُّعاء أثرٌ من آثار الرَّوحانيَّة.
ما الفرق بين الذِّكر والدُّعاء؟
الدُّعاء طلب، مثلًا: أطلب من الله شيئًا، ارزقني، أعطني، أعطني الجنَّة، الخير، الصَّحة، والله يريد من عبده أن يطلب منه.
أمَّا الذِّكر فهو أن أعيش هيامًا وتلذُّذًا بذكر الله، أنا لا أطلبُ شيئًا، إنَّما أنا أعشق ذِكر الله.
لذلك بعضهم يقول: الذِّكر أعظم من الدُّعاء.
هذه من الآثار العباديَّة للرَّوحانيَّة.

4- أثر الرَّوحانيَّة في تلاوة القرآن

هناك تالٍ للقرآن تلاوة جافَّة، قد يرتِّل القرآن، وقد يحفظ أحكام التَّجويد وأحكام التِّلاوة، لكن ليس فيها نبض وروح التِّلاوة، التِّلاوة الصَّادقة الخالصة المرتبطة بالرُّوح هي التي فيها إشعاعات روحيَّة، ومَنْ يقرأ القرآن تشعر بأنَّه يملك إشعاعات روحيَّة.
إذًا الصَّلاة، والذِّكر، والدُّعاء، والتِّلاوة، والصِّيام، والحجّ، والعُمرة، والزِّيارة، هذه كلُّها آثار عباديَّة للرَّوحانيَّة.
هذا أثر من آثار الرَّوحانيَّة، أثر في الدُّنيا في حياة الإنسان الدُّنيويَّة، ولها انعكاسات وآثار أخرويَّة كبرى.

الأثر الثَّاني: آثار سلوكيَّة وأخلاقيَّة.

الرَّوحانيَّة لا تنعكس فقط على الصَّلاة والذِّكر والدُّعاء والتِّلاوة والصِّيام والحجِّ والعمرة والزِّيارة، بل إنَّ الرَّوحانيَّة تنعكس على السُّلوك، بحيث يكون السُّلوك مشبَّع بالروحانيَّة، فهناك من يمتلك الأخلاق في تعامله مع الآخرين لكنَّك تجدها أخلاقًا جافَّة جامدة، وهناك من تشعر بأنَّ أخلاقه تشعُّ روحانيَّة، وتشعُّ نبضًا روحيًّا، فالرَّوحانيَّة هنا قد انعكست على الأخلاق، يصدق وفي صدقه إشعاع روحي، ويمارس الأمانة وفي أمانته إشعاع روحي، ويمارس الحبَّ للآخرين وفي حبِّه إشعاع روحي، ويمارس التَّقوى وفي تقواه إشعاع روحي.
إذًا هذه آثار سلوكيَّة للرَّوحانيَّة، وهذه آثار أخلاقيَّة للرَّوحانيَّة، كما للرَّوحانيَّة آثارها العباديَّة فإنَّ لها آثارها السُّلوكيَّة والأخلاقيَّة، اليوم الذي تفقد فيه الأخلاق روحانيَّتها؛ يتدمَّر الواقع الاجتماعي.
قد نجد اليوم أنَّ بعض الأخلاق مصطنعة لأنَّها بلا روحانيَّة، نمارس الصِّدق بلا روحانيَّة، ونمارس الأمانة بلا روحانيَّة، ونمارس حب الاخرين بلا روحانيَّة.
إذًا مطلوب أن نُعبِّئ أخلاقنا وسلوكيَّاتنا وممارساتنا، نعبِّئها بالرَّوحانيَّة؛ حتى تكون العلاقة مشبعة بالرَّوحانيَّة.
لماذا نرى اليوم أنَّ العالم كلَّه تطغى على علاقاته العلاقات المصلحيَّة؟ علاقات فيها جفاف قاتل؟ فيها تكلّف، فيها اصطناع؟ لأنَّه ليس فيها روحانيَّة.
أمَّا العلاقة بين المؤمنين الصَّادقين الأخيار الأبرار ففيها إشعاعاتها الرُّوحيَّة الكبيرة، فمطلوب أن نحوِّل السُّلوك إلى سلوكٍ معبَّأ بالرَّوحانيَّة، والأخلاق إلى أخلاقٍ معبَّأة بالرَّوحانيَّة.
هذا الأثر الثَّاني للرَّوحانيَّة، الأثر الأوَّل: آثار عباديَّة على الصَّلاة والذِّكر والدُّعاء والتِّلاوة والصِّيام والحجّ والزِّيارة، والأثر الثَّاني: آثار سلوكيَّة وأخلاقيَّة على طباع الإنسان، وممارساته، وعلاقاته مع الآخرين.
الأثر الأوَّل والأثر الثَّاني آثارٌ نعيشُ إحساسها في الدُّنيا، لكنَّ هناك آثار للرَّوحانيَّة تتجاوز الدُّنيا.

الأثر الثَّالث: آثار في لحظة الاحتضار.

وذلك في حالة الانتقال من الدُّنيا إلى مرحلة الآخرة، وفي حالة السَّفر للآخرة، فإنَّ أوَّل محطَّة من محطَّات سفر الآخرة هي لحظة الاحتضار، وخروج الرُّوح، هذه لحظة من أخطر وأصعب اللَّحظات في حياة الانسان، لحظة الانتقال من الدُّنيا لتبدأ سفرة الآخرة، هذه تُسمَّى لحظة الاحتضار.
والذي يعبِّر عنها القرآن بسكرة الموت:
• {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.(10)
سكرة رهيبة مرعبة مخيفة.
هنا الرَّوحانيَّة تكون لها قِيمتها، وهنا تبرز الرَّوحانيَّة الحقيقيَّة، ليلقى الإنسان ربَّه لقاءً مملوءًا بالعشق لله، والصِّدق مع الله، والهيام في العلاقة مع الله وفي لقاء الله، هنا لقاء روحاني، وهنا تستلمه الملائكة بروح وريحان.
{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}.
• الإمامُ زينُ العابدينَ (عليه السَّلام) يقول: «أشَدُّ ساعاتِ ابنِ آدَمَ ثَلاثُ ساعاتٍ: السَّاعَةُ الَّتي يُعايِنُ فيها مَلَكَ المَوتِ، والسَّاعَةُ الَّتي يَقومُ فيها مِن قَبرِهِ، والسَّاعَةُ الَّتي يَقِفُ فيها بَينَ يَدَيِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، …».(11)
‌أ- «أشَدُّ ساعاتِ ابنِ آدَمَ ثَلاثُ ساعاتٍ: السَّاعة الَّتي يُعايِنُ فِيها مَلَكَ المَوتِ».
هذه أشدُّ ساعة من ساعات الإنسان، ساعة الاحتضار، السَّاعة التي يلتقي فيها ملك الموت.

‌ب- «والسَّاعَةُ الَّتي يَقومُ فيها مِن قَبرِهِ».
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ …}.(12)
إنَّها لحظة صعبة.

‌ج- «والسَّاعَةُ الَّتي يَقِفُ فيها بَينَ يَدَيِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى».

هذه ثلاث ساعات مرعبة مخيفة.
ففي لحظة الاحتضار والتي هي لحظة صعبة جدًّا خاصَّة على الكافر، تكون للرَّوحانيَّة قِيمتها.
• عن أبي عبد الله [الإمام الصَّادق] (عليه السَّلام) أنَّه قال: «أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) اشْتَكَى عَيْنَه فَعَادَه النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فَإِذَا هُوَ يَصِيحُ فَقَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): أجَزَعًا أَمْ وَجَعًا؟
فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا وَجِعْتُ وَجَعًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْه.
فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا نَزَلَ لِقَبْضِ رُوحِ الْكَافِرِ نَزَلَ مَعَه سَفُّودٌ مِنْ نَارٍ، فَيَنْزِعُ رُوحَه بِه فَتَصِيحُ جَهَنَّمُ.
فَاسْتَوَى عَلِيٌّ (عليه السَّلام) جَالِسًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه أَعِدْ عَلَيَّ حَدِيثَكَ فَلَقَدْ أَنْسَانِي وَجَعِي مَا قُلْتَ.
ثُمَّ قَالَ: هَلْ يُصِيبُ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِكَ؟
قَالَ: نَعَمْ حَاكِمٌ جَائِرٌ، وآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وشَاهِدُ زُورٍ».(13)
هؤلاء هكذا تقبض أرواحهم.
إذًا للرَّوحانية أثرها في لحظة الاحتضار، فكلَّما ارتقى الإنسان في روحانيَّته في الدُّنيا كلَّما حصَّن هذه اللَّحظة.
الرَّوحانيَّة الحقيقيَّة الصَّادقة، والعشق الحقيقي لله يحصِّن لحظة الاحتضار.

الأثر الرَّابع: آثارٌ في القبر

الرَّوحانيَّة لها آثار في القبر، وهي مرحلة خطيرة.
• {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.(14)
مرحلة البرزخ هي المرحلة الفاصلة بين الدُّنيا والآخرة، وهي تحتاج إلى أن نعِّد أنفسنا روحيًّا، فبقدر ما يرتقي الإنسان في روحانيَّته الصَّادقة فإنَّه يحصِّن هذه المرحلة.
القبر أوَّل مرحلة من مراحل البرزخ.
للرَّوحانيَّة الحقيقيَّة آثار في القبر وهي: التَّخلص من وحشة القبر وعذاب القبر.
القبر له وحشة ورهبة، وفي القبر محاسبة.
الذي يخلِّص الإنسان من هذه الوحشة ومن هذه المحاسبة، هو الرَّوحانيَّة.

 الأمور التي تخلِّص الإنسان من أهوال القبر

وردت عدَّة روايات في أمورٍ إذا مارسها الإنسان يتخلَّص من هذه المرحلة الصَّعبة، مرحلة القبر وما فيها من أهوال صعبة، أهمُّها هو:
(1) الرَّوحانيَّة الصَّادقة، والتَّقوى الصَّادقة.

(2) الإكثار من الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

هي مفيدة جدًّا في خلق النُّور في القبر، وحماية الإنسان من أهوال القبر وشدائده، ومن مساءلة منكر ونكير.

(3) الاهتمام بالطَّهارة والصَّلاة

المحافظة على طهارة البدن، وتطهيره من النَّجاسات، والاهتمام الكبير بأداء الصَّلاة، وبأوقاتها، وبأحكامها يحصِّن الإنسان في مرحلة البرزخ، ومرحلة القبر.

(4) حُسن الخلق مع الزَّوجة، مع الأهل.

هذا أيضًا يحصِّن الإنسان.
من أهم ما يعذَّب به الإنسان في القبر هو سوء الخلق مع أهله، ومع زوجته.
كلَّما ارتقى مستوى هذا الخُلق، كلَّما حصَّن الإنسان نفسه في مرحلة القبر والبرزخ.

(5) قراءة سورة (يس) و(التَّكاثر)

هناك بعض سور القرآن إذا حافظ الإنسان على قراءتها فإنَّها تنفعه في مرحلة القبر والبرزخ:
– المواظبة على قراءة سورة (يس).
– المواظبة على قراءة سورة التَّكاثر.

(6) القيام ببعض الأعمال:

هناك مجموعة أعمال إذا قام بها الإنسان تنفعه في هذه المرحلة، من هذه الأعمال:
أ- إدخال السُّرور على مؤمن.
إذا أدخلت السُّرور على مؤمن، ملأت قبرك بالنُّور والرَّاحة والاطمئنان والهدوء والاستقرار.
إدخال السُّرور على مؤمن: تساعده، تقضي حاجته، تزوره، تتفقَّد أوضاعه، تؤدي له خدمة، هذه كلُّها أمورٌ تدخل السُّرور على المؤمن.
إذا أدخلت سرورًا على مؤمن، أدخل الله السُّرور في قبرك، وبمقدار ما تدخل سرورًا على مؤمنين فإنَّ قبرك يمتلئ سرورًا وأمنًا.

ب-عيادة مريض
لها ثواب عظيم عند الله سبحانه تعالى وتنفع في مرحلة البرزخ والقبر.

ج- قضاء حوائج الإخوان
سواء كان ذلك بتقديم المال لهم، أم بأداء خدمة لهم، أم بحلِّ مشكلة لهم.
فبقدر ما تقضي من حاجات المؤمنين فإنَّ الله يخفِّف عليك في لحظة الاحتضار، وفي القبر، وفي البرزخ.

د- تجنُّب الغِيبة والنَّميمة
من الأعمال التي تنفع أيضًا: تجنُّب الغِيبة والنَّميمة، فهو له أثر كبير.
هذه آثار في مرحلة البرزخ، مرحلة القبر.

إذًا للرَّوحانيَّة آثار في الدُّنيا: في الصَّلاة، وفي الأخلاق، وفي العلاقات.
وللرَّوحانيَّة آثار في لحظة الاحتضار.
وللرَّوحانيَّة آثار في القبر وفي مرحلة البرزخ.

الأثر الخامس: آثارٌ في الآخرة

الآثار في الآخرة هي أكبر الآثار للرَّوحانيَّة الصَّادقة التي تصنع عشق الله، وحبَّ الله، وطاعة الله، وتقوى الله.
هذه الرّوحانيَّة أثرها الأكبر في الآخرة، ومن أهم آثارها: الجواز على الصِّراط.

 أصناف النَّاس الذين يمرُّون على الصِّراط

• عن أبي عبد الله الصَّادق (عليه السَّلام)، قال: «النَّاسُ يمرُّون على الصِّراط طبقات، والصِّراط أدقُّ من الشَّعر ومن حدِّ السَّيف، فمنهم مَنْ يَمرُّ مثل البَرق، ومنهم مَنْ يَمرُّ مثل عَدْوِ الفرس، ومنهم مّنْ يَمرُّ حبوًا، ومنهم مَنْ يَمرُّ مشيًا، ومنهم مَنْ يَمرُّ متعلقًا، قد تأخذُ النَّارُ منه شيئًا وتترك شيئًا».(15)
• وعن أبي عبد الله [الإمام الصَّادق] (عليه السَّلام) قال: سألته عن الصِّراط، فقال [عليه السَّلام]: «هو أدقُّ من الشَّعر، وأحدُّ من السَّيف، فمنهم من يمرُّ عليه مثل البرق، ومنهم من يمرُّ عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرُّ عليه ماشيًا، ومنهم من يمرُّ عليه حبوًا، ومنهم من يمرُّ عليه متعلقًا فتأخذ النَّار منه شيئًا وتترك منه شيئًا».(16)
الكلُّ سوف يمرُّ على الصِّراط يوم القيامة.
ما هو الصِّراط؟
جاء في الحديث: «والصِّراط أدقُّ من الشَّعر وأحدُّ من السَّيف» هذا تعبير رمزي لخطورة ولصعوبة العبور على الصِّراط.
قد لا ندرك نحن الآن طبيعة الصِّراط وشكله، لكن لشدَّة حساسيَّته وخطورته يأتي الحديث ليقول: «أدقُّ من الشَّعر وأحدُّ من السَّيف».
كيف يكون أدقُّ من الشَّعر وأحدُّ من السَّيف؟
لشدَّة العبور عليه.
كيف يمكن العبور على حدِّ سيف؟
كيف يمكن العبور على شعر؟
مسألة في غاية الخطورة، يبقى الصِّراط شيئٌ مبهم، لا ندركه الآن، وعقولنا لا تدرك كنهه.
الحديث يقول: النَّاس يمرُّون على الصِّراط طبقات وأصناف.
النَّاس كلّهم يمرُّون على الصِّراط، وهو جسر يمرُّ على جهنَّم،
النَّاس يمرون على الصِّراط طبقات وأصناف:

الصِّنف الأوَّل: الذين يمرُّون على الصِّراط كالبرق

كيف هو البرق، وكيف هي سرعته فإنَّ هؤلاء يمرون على الصِّراط بهذه السُّرعة.
هذا هو النَّمط الأرقى من البشر، النَّمط الذي يملك قِيمًا عليا، ويملك التَّقوى والصَّلاح، هؤلاء لا يستغرقون وقتًا في العبور على الصِّراط، فهم يمرون كالبرق، في لحظة.

الصِّنف الثَّاني: الذين يمرُّون على الصِّراط كعدو الفرس

هذا الصِّنف أقلُّ من المستوى الأوَّل، لكنَّ الفرس يعدو بسرعة أيضًا، فهؤلاء يقطعون الصِّراط في أوقات قياسيَّة

الصِّنف الثَّالث: الذين يمرون على الصِّراط مشيًا

هذا الصِّنف يريد العَدْوَ فلا يقدر، لأنَّه هكذا كانت علاقته مع الله ومع الدِّين في الدُّنيا، فهو يمشي ببطء ولو أراد الجري لا يستطيع.
الصِّراط يكون على جهنم، وأقلُّ حركة توقع الإنسان في جهنَّم، وهو يريد أن يتخلَّص من الصِّراط بسرعة، ويريد أن يَعْدُو فلا يستطيع؛ لأنَّه في الدَّنيا لم يكن يعْدو إلى طاعة الله، فقد كان يمشي ببطء.
هذا صنفٌ رابع يمشي على الصِّراط مشيًا وليس عَدْوًا.

الصِّنف الرَّابع: الذي يمشي على الصِّراط حبوًا

هذا الصّنف لا يقدر حتى على المشي، فإنَّه يحبو.
لماذا لا يقدر على المشي؟
لأنَّه في الدُّنيا لم يكن يمشي إلى طاعة الله، فقد كان يحبو، وهذا تعبير كنائي جميل.
عندما يُقال له: توجد طاعة، وصلاة جماعة، ومسجد، وخير، تراه مثل ذلك الذي يحبو إلى عمل الخير، فلا يتحرَّك على رجليه، فهذا ستكون حركته ومشيه على الصِّراط حبوًا.
لكن ما هي المدة التي سيقطع الصِّراط؟
في سنة، أو مئة سنة، أو ألف سنة؟ الله أعلم.
عالم لا ندركه.
{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}.(17)

والصِّنف الخامس: هو الذي يسير على الصِّراط متعلقًا، متمايلًا بين اليمين واليسار فيسقط في النَّار.

هذا الصِّنف لا يقدر حتى على الحبو، فمن شدة خطورة المشي يسقط في النَّار.

إذًا أنت في الدُّنيا تصنعُ حركتك على الصِّراط يوم القيامة:
أنْ تكون من الذين يقطعون الصِّراط كالبرق.
أو أنْ تكون من الذين يقطعون الصِّراط كعدو الفرس.
أو كالذين يقطعون الصِّراط مشيًا.
أو كالذين يقطعون الصِّراط حبوًا.
أو كالذين يتمايلون على الصِّراط فيسقطون.
إذًا هنا الفرصة بيدك، وأنت في الدُّنيا.
قبل أن يغلق الملف بلحظة الاحتضار أنت قادر أن تصنع مصيرك ومستقبلك.
هنا الرَّوحانيَّة لها آثارها، ولها قِيمتها، وهي التي تصنع كلَّ حركتك في الدُّنيا، وفي لحظة الاحتضار، وفي البرزخ، وفي الآخرة.
نسأل الله أن يجعلنا مِمَّن يعيشون صدق الرَّوحانيَّة، وعشق الرَّوحانيَّة، وتقوى الرَّوحانيَّة، وحركيَّة الرَّوحانيَّة وفاعليَّة الرَّوحانيَّة.

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

الهوامش

1. القمِّي: سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار 2/268.
2. التويسركاني: لئالي الأخبار 1/3، (ب 1: فيما يتعلَّق بتنبيه النَّفس).
3. المجلسي: بحار الأنوار ٧٩/ 198، (ك: الصَّلاة، ب1: فضل الصَّلاة وعقاب تاركها).
4. خطب الإمام علي (عليه السَّلام): نهج البلاغة، ص 495، حكم أمير المؤمنين (عليه السَّلام)، ح 145.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رُبَّ صائمٍ حَظُّهُ مِن صيامِهِ الجُوعُ والعَطَشُ، ورُبَّ قائمٍ حَظُّهُ مِن قيامِهِ السَّهَرُ». (الطوسي: الأمالي، ص 166).
5. الطَّبرسي: مستدرك الوسائل 4/249، (ك: الصَّلاة، أبواب قراءة القرآن)، ح 4616/2.
6. الصَّدوق: الخصال، ص ١٦٢، باب الثلاثة، ح180.
7. الصَّدوق: معاني الأخبار، ص 399، (ب: نوادر المعاني)، ح 56.
8. سورة آل عمران: الآية 191.
9. الصَّدوق: الخصال، ص 42.
10. سورة ق: الآية 19.
11. الصَّدوق: الخصال، ص 119.
12. سورة المعارج: الآيتان 43 – 44.
13. سورة المؤمنون: الآية 10.
14. الكليني: الكافي 3/253، (ك: الجنائز، ب: النوادر)، ح 10.
15. الصَّدوق: الأمالي، ص 242، (المجلس 33)، ح 257/5.
16. عزيز الله عطاردي: مسند الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) 6/201، ح 4.
17. سورة المعارج: الآية 4.

Show More

Related Articles

Back to top button