نفحات رمضانيَّة (19): هكذا تحدَّث أمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن القرآن الكريم – (3)
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة التاسعة عشر ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم السبت بتاريخ: (19 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 2 مايو 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
هكذا تحدَّث أمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن القرآن الكريم – (3)
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين المنتجبين الأخيار الأبرار.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا زال الحديث حول كلمات أمير المؤمنين (عليه السَّلام) التي تتحدَّث عن القرآن الكريم.
الكلمة الثَّالثة
•يقول أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «أَلَا لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ، أَلَا لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَقُّهٌ» (الصَّدوق: معاني الأخبار، ص 320)
•ويقول أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «تَدَبَّروا آياتِ القرآنِ واعتَبِرُوا بهِ، فإنَّهُ أبلَغُ العِبَرِ».
(الرَّيشهري: ميزان الحكمة 9/355، ح 16696)
مكوِّنات تشكيل العلاقة مع القرآن – (3)
المكوِّن الأوَّل: التِّلاوة
التِّلاوة وظيفة اللِّسان
تكلَّمنا في الكلمة الأولى عن وظيفة اللِّسان في التِّلاوة، فالتِّلاوة هي وظيفة لسان.
المكوِّن الثَّاني: الانصهار والذَّوبان مع القرآن
التِّلاوة وظيفة القلب والوجدان والرُّوح
في الكلمة الثَّانية لأمير المؤمنين (عليه السَّلام) تكلَّمنا عن وظيفة القلب، فالتِّلاوة وظيفة قلبٍ ووجدان وروح.
المكوِّن الثَّالث: التَّدبُّر القرآني
التِّلاوة وظيفة العقل
هنا نتحدَّث عن وظيفة العقل، كما التِّلاوة وظيفة لسان، وكما التِّلاوة وظيفة قلب، التِّلاوة وظيفة عقل.
وهذا المعبَّر عنه بالتَّدبُّر
•{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد/24)
التَّدبُّر هنا حضور عقل، وحضور فكر، وحضور مفاهيم.
•{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ …} (ص/29)
ما معنى التَّدبُّر القرآني؟
التَّدبُّر: هو التَّأمُّل في آيات القرآن لاكتشاف ما تحمله من معاني ودلالات، وعبر ومواعظ، وقصص وأخبار، وأوامر ونواهي، وأخلاق وتوجيهات.
نمطان للتِّلاوة القرآنيَّة
هناك نمطان للتِّلاوة القرآنيَّة:
النَّمط الأوَّل: التِّلاوة الصَّمَّاء الرَّاكدة الجامدة
هذه تلاوة تتعامل مع الحروف والكلمات، ولا تتعامل مع الأفكار والمعاني.
أعيش مع القرآن اللَّفظ، والمفردات، والكلمات.
أمَّا ماذا تحمل الكلمات والمفردات؟ فليس حاضرًا عندي في هذه التِّلاوة.
الاهتمام بالشكل دون المضمون، وبالألفاظ دون الدلالات.
هذه قراءة صمَّاء؛ لأنَّها لا تحمل مضامين، ولا تستنطق مضامين القرآن، ولا تستنطق دلالات القرآن، وتبقى فقط مع الألفاظ، مع الكلمات، مع الحروف.
هذا النَّمط الأوَّل من التِّلاوة.
النَّمط الثَّاني من التِّلاوة: التِّلاوة البصِيرة
وهي قراءة تتعامل مع المعاني والمضامين ولا تتجمَّد عند الألفاظ والكلمات.
الكلمات وسيلة يَعبُر بها التَّالي إلى المضامين، ويَعبُر من خلالها إلى الدلالات.
كيف نصنع التَّدبُّر في التِّلاوة القرآنيَّة؟
التَّدبُّر في حاجة:
أوَّلًا: إلى حضور القلب والعقل أثناء التِّلاوة
هذا الحضور يصنع تدبُّرًا، بأن يكون القلب والعقل حاضران أثناء التِّلاوة، أمَّا إذا غاب القلب وغاب العقل فلا تدبُّر ولا تبصُّر بالتِّلاوة، فالذي يُنتج التَّدبُّر والتَّفهُّم لمضامين القرآن هو أن نجعل القلب حاضرًا ونجعل العقل حاضرًا، هذا أوَّلًا.
ثانيًا: التَّدبُّر في حاجة إلى امتلاك مستوى من الثَّقافة القرآنيَّة
هناك مَنْ يقرأ القرآن ولا يحمل أيَّ شيئ من ثقافة القرآن، فهذا إمَّا أن يغيب تدبُّره، وإمَّا أن يكون تدبُّره عاديًّا أو منخفضًا.
بمقدار ما تكون عند الإنسان ثقافة قرآنيَّة، فإنَّ الثَّقافة القرآنيَّة تفتح آفاق القرآن، وتُعطي للتِّلاوة معناها، فكلَّما ارتقت الثَّقافة ارتقى التَّدبُّر.
كيف أصنع ثقافتي القرآنيَّة؟
يمكن أن نصنع الثَّقافة القرآنيَّة من خلال:
1-حضور الدُّروس القرآنيَّة
بمقدار ما يحضر الإنسان الدُّروس والمحاضرات القرآنيَّة، تتشكَّل في ذهنه ثقافة قرآنيَّة، فمن يقرأ القرآن تُصنع عنده حالة التَّدبُّر؛ لأنَّه يحمل ثقافة قرآنيَّة تساعده على التَّدبُّر القرآني.
فحضور الدُّروس القرآنيَّة، وحضور البرامج القرآنيَّة يعطينا دفعًا في مسألة التَّدبُّر.
2-قراءة كتب التَّفسير (الميسَّرة / الموسَّعة)
نصنع هذه الثَّقافة القرآنيَّة من خلال القراءة في كتب التفسير.
توجد كتب تفسير ميسَّرة مبسَّطة لمن يحمل مستوى عاديًّا، وتوجد كتب تفسير موسَّعة لمن يملك القدرة على التَّعاطى معها.
إذن، لكي نصنع التَّدبُّر نحن بحاجة إلى حضور قلب وعقل، وبحاجة إلى ثقافة قرآنيَّة.
ثالثًا: التَّدبُّر القرآني بحاجة إلى قراءة متأنِّية (التَّرتيل)
وهذا ما يُعبِّر عنه القرآن بـ التَّرتيل، والتَّرتيل هو القراءة المتأنِّية الهادئة المتأمِّلة.
•{… وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (المزَّمِّل/4)
تلاوة فيها تأنٍّ وتبيان للحروف.
وليست التِّلاوة المستعجلة، والتي تطوي الكلمات، وتبلع الحروف، فهذه ليست ترتيلًا.
•أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ». (الكليني: الكافي 4/628، ب8، ح1)
•{… وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}
قراءة متأنِّية هادئة متأمِّلة، نبيِّن من خلالها الحروف، ونُخرجها من مخارجها الصَّحيحة، والتَّرتيل يُساعد على صناعة الثَّقافة القرآنيَّة.
رابعًا: التَّخلِّي عن موانع الفهم
توجد موانع تمنع من فهم القرآن، فكما أنَّ هناك حواجب تُشكِّل موانع بين القلب والقرآن، هناك حواجب تشكِّل موانع بين العقل والقرآن.
وتُسمَّى موانع الفهم.
الحواجب بين القلب وبين القرآن تشكِّل ضمورًا في الخشوع، أمَّا الحواجب بين القرآن والعقل فإنَّها تشكِّل حواجب وموانع من التَّدبُّر، ومن البصيرة، ومن الفهم القرآني.
ما هي الحواجب التي تشكِّل موانع بين العقل وبين التَّدبُّر القرآني وبين التَّفهُّم القرآني؟
(1)الانشغال بالحروف والمخارج والانصراف عن المعاني
إنَّ النُّطق بالكلمات من مخارجها مطلوب، والنُّطق بالحروف من مخارجها مطلوب، لكن لا أن يستهلك الإنسان كلَّ تلاوته في كيفيَّة إخراج الحروف، وكيفيَّة إخراج الكلمات، وكيفيَّة النُّطق بها، فإنَّ هذا مطلوب، لكن بحيث لا يشغله عن المضامين.
النُّطق بالألفاظ هو معبر ووسيلة وطريق إلى الأفكار القرآنيَّة، وإلى المضامين القرآنيَّة.
إذا شغلني الحرف ومخرج الحرف وقواعد التَّرتيل والتَّجويد عن المعاني، خسرت الهدف الأكبر وهو المضامين، التَّرتيل والتَّجويد وسيلة، فإذا استهلكتني هذه الوسيلة فإنَّها تحرمني من التَّعاطي مع المضامين.
فإذن، من موانع التَّدبُّر، ومن موانع الفهم الانشغال بالحروف والمخارج والانصراف عن المعاني.
(2)من موانع الفهم الصَّحيح للقرآن: التَّعصُّب الأعمى
قد يوجد مَنْ يقرأ القرآن وهو متعصِّب لفكره، فهذا يحاول أن يُسقط فكرته على القرآن، لا أنَّه يحاول أن يتعلَّم ويأخذ من القرآن، وأن يكون القرآن هو الموجِّه له، بل هو مَنْ يوجِّه القرآن، وهو مَنْ يوجِّه الآيات القرآنيَّة في اتِّجاه ما يؤمن به!!
فهناك فرق بين أن نقرأ القرآن لنتعلَّم، ولنتربَّى، ولنأخذ من القرآن المفاهيم، وليصنع القرآن مفاهيمنا وثقافتنا وفكرنا وقيمنا وأخلاقنا وسلوكنا، وبين أن نفرض على القرآن فهمنا ورؤيتنا، وتصوراتنا، وقناعاتنا، وأن نجرَّ الآيات جرًّا إلى قناعتنا.
فالتعصُّب الأعمى يشكِّل حاجبًا كبيرًا من الحواجب التي تمنع التَّدبُّر القرآني.
(3)من الحواجب التي تمنع عن التَّدبُّر القرآني: الإصرار على المعاصي
فإنَّها تحجب البصيرة القرآنيَّة.
إذا كنت أقرأ القرآن وأنا مُصِرٌّ على المعاصي، فهنا لا يوجد تدبُّر.
فلو كنت أتدبَّر القرآن لاستنطقت توجيهات القرآن، ولمنعتني آيات القرآن من الكذب، ولمنعتني آيات القرآن من النِّفاق، ولمنعتني آيات القرآن من النَّميمة، والغيبة، والظُّلم، ومِنَ الاعتداء على الآخرين.
وإذا كنت مصرًّا على المعاصي، فلن أنفتح على مضامين القرآن.
إذن نحتاج إلى تدبُّر، وهو علاقة مع العقل، فكما نحتاج إلى علاقة مع الِّلسان، وعلاقة مع القلب، نحتاج إلى علاقة مع العقل وهو التَّدبُّر.
التَّدبُّر والتفسير
هنا قد يُطرَح سؤالًا: ما هو الفرق بين التَّدبُّر والتَّفسير؟
أوَّلًا: التَّفسير
التَّفسير – أيُّها الأحبَّة – هو وظيفة المتخصِّصين، وليس كلُّ إنسان قادر أن يدخل في التَّفسير، فالتَّفسير له شروط كثيرة.
لذلك ليس كلُّ إنسان يمكن أن يكون مفسرًا للقرآن، إلَّا مَنْ توافر على شروط التَّفسير فإنَّه يصبح مفسِّرًا، أنا قد أنقل كلمات المفسِّرين لكنَّني لست مفسِّرًا، وقد أتحدَّث عن كلمات المفسرين لكنَّني لست مفسِّرًا؛ لأنَّه لا توجد عندي مؤهَّلات التَّفسير.
التَّفسير درجة عالية، وهي وظيفة المتخصِّصين، وأصحاب الكفاءات، ولست هنا في صدد الحديث عن كفاءات التَّفسير، والتي منها: كفاءات لغويَّة، كفاءات فقهيَّة، كفاءات أصوليَّة، كفاءات عقائديَّة، كفاءاتَّ تاريخيَّة، هذه كلُّها ضروريَّة للتَّفسير، وهذه ليس كلِّ واحد يتوافر عليها.
ولذلك نهت الرِّوايات عن التَّفسير بالرَّأي:
مَنْ يدخل في التَّفسير وهو لا يملك مؤهَّلات التَّفسير، يقع في التَّفسير بالرَّأي، والتَّفسير بالرَّأي خطير، ولذلك الأحاديث تقول:
•عن الرَّسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «مَن قالَ في القرآنِ بغَيرِ عِلمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقعَدَهُ مِن النَّارِ». (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 9/365، ح 16734)
إذا لم تكن عندك مؤهَّلات التَّفسير فلا تدخل في التَّفسير، نعم إذا نقلت كلمات المفسِّرين فأنت ناقل ولست مفسِّرًا، أمَّا مَنْ يُمارس التَّفسير ولا يملك مؤهَّلات التَّفسير فليتبوأ مقعده من النَّار.
ثانيًا: التَّدبُّر
التَّدبُّر مساحته أوسع فهو محاولة استنطاق المعاني، وتوجد آيات قرآنيَّة يكون استنطاق معانيها مكشوف حتى لأبسط الناس.
مثلًا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ …} (فصِّلت/53)
الآية تقول في الآفاق آيات لله، في هذه الآية يمكن حتى للفلَّاح حينما يقرأها أن يقول: في خلق القمر آية من آيات الله، وفي خلق الشَّمس آية من آيات الله، وفي خلق النَّبات آية من آيات الله، وفي خلق الحيوان آية من آيات الله، وفي خلق الإنسان آية من آيات الله.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ…} (فصِّلت/53)
البصر آية من آيات الله.
السَّمع آية من آيات الله.
النُّطق آية من آيات الله.
الجوارح كلُّها من آيات الله.
في هذه الآية القرآنيَّة يمكن حتى للإنسان العادي أن يتأمَّلها ويعيش التَّدبُّر.
هناك آيات تنهى عن الكذب، وآيات تنهى عن النِّفاق، وآيات تنهى عن الغِّيبة، هذه آيات يمكن للإنسان أن يتأمَّلها وينفتح عليها.
ومع ذلك فإنَّ التَّدبُّر يحتاج إلى استعدادات، وليس كلُّ شخص يمكنه أن يدَّعي أنَّه يخوض في التَّدبُّر كما يشاء، بل إنَّ التَّدبُّر يحتاج إلى استعدادات ذهنيَّة.
لذلك فإنَّه بقدر ما ترتقي ثقافة الإنسان القرآنيَّة، يرتقي مستوى التَّدبُّر عنده، وكلَّما ينخفض مستوى ثقافة الإنسان القرآنيَّة ينخفض مستوى التَّدبُّر لديه.
فالتَّدبُّر رغم أنَّه مفتوح، وخطاب {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ …} (محمد/24) هو خطاب لكلِّ النَّاس لكنَّه يحتاج إلى استعدادات؛ حتى لا نتورَّط بتدبُّرات خارجة عن دلالات القرآن ومضامين القرآن ونسيئ إلى فهم القرآن.
هذه هي العلاقة الثَّالثة مع القرآن.
ويأتي الحديث من خلال كلمات أمير المؤمنين (عليه السَّلام) عن العلاقة الرَّابعة مع القرآن الكريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.