نفحات رمضانيَّة (12): الآثار الخطيرة للمعاصي والذُّنوب (1)
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة الثَّانية عشر ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الأحد بتاريخ: (12 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 25 أبريل 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
الآثار الخطيرة للمعاصي والذُّنوب (1)
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين المعصومين المنتجبين الأخيار الأبرار.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان الكلمة: الآثار الخطيرة للمعاصي والذُّنوب
المعاصي: هي مخالفة أوامر الله الواجبة، أو مخالفة نواهيه المحرَّمة.
هذه تُسمَّى معصية، وتُسمَّى ذنب.
لعلَّ الإنسان يخالف مستحبًّا فهذا لا نُسمِّيه معصية، أو لعلَّه لا يترك مكروهًا فهذا لا نُسمِّيه معصية.
لكنَّه إذا خالف أمرًا وتكليفًا واجبًا، سواء أكان هذا التَّكليف الواجب في العبادات، أم في السُّلوك، أم في الأخلاق، فهذه معصية.
وإذا ارتكب أمورًا ممنوعة، ومحظورة، ومنهيٌّ عنها، ومحرَّمة في الشَّريعة فهذه معصية.
المعصية لها آثار خطيرة خطيرة جدًّا في حياة الإنسان.
أحاول أن أصنِّف الآثار الخطيرة للمعاصي وللذُّنوب إلى عدَّة عناوين:
العنوان الأول: آثار المعاصي والذُّنوب في الدُّنيا
المعاصي لها آثار في الحياة الدُّنيا.
(الدُّنيا) هي المرحلة التي يعيشها الإنسان قبل أن يخرج من الحياة، وقد تكون مدَّة دنيا الإنسان خمسين سنة، أو مائة سنة، وتبدأ هذه الدُّنيا من مرحلة التَّكليف؛ لأنَّه قبل التَّكليف لا يُحاسب الإنسان، لكنَّه يُحاسب بعد التَّكليف.
ففي هذه المرحلة التي نُسمِّيها (الدُّنيا)، وفي هذا المقطع من الزَّمن يكون للمعاصي آثار.
ما هي الآثار الدُّنيويَّة لِمن يرتكب المعاصي ويرتكب الذُّنوب؟
الأثر الأوَّل: قسوة القلب
أثر واضح، فعندما يمارس الإنسان المعاصي يقسو قلبه، فالقلب مصدر النَّبض الإيماني، والرُّوحي، والعبادي.
وقسوة القلب خطيرة جدًّا، كلَّما قسا القلب ترتبت آثار خطيرة على ذلك، وكلَّما كان القلب ليِّنًا لطيفًا منشرحًا كانت العطاءات تختلف.
إذن، المعصية تسبِّب قسوة القلب، لذلك جاء في الحديث:
•عن أبي جَعْفَرٍ (عليه السَّلامُ)، قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا، خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ؛ فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذلِكَ السَّوَادُ، وَإِنْ تَمَادى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ، فَإِذَا غُطِّيَ الْبَيَاضُ لَمْ يرْجِعْ صَاحِبُهُ إِلى خَيْرٍ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: «كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ». (الكليني: الكافي 3/ 676، ح 2430/ 20)
الله يخلق في القلب نكتة بيضاء مشرقة منيرة، فإذا ارتكب الإنسان ذنبًا تتكوَّن نكتة سوداء في قلبه، هذه القطعة المنيرة البيضاء المشرقة تتكوَّن فيها نقطة سوداء نتيجة كذبة، أو غِيبة، أو معصية واحدة.
فإن تاب وعاد واستغفر تُمحى تلك النُّقطة السَّوداء ويبقى القلب أبيضًا مشرقًا.
وإذا لم يتب، واستمرَّ في الغيبة، واستمرَّ في ممارسة المعاصي، حينها تزداد المساحة السَّوداء في القلب، وتتَّسع وتتَّسع إلى أن تتحكَّم في القلب فيصبح القلب كُلُّه نقطة سوداء.
وهذا ما تشير إليه الآية القرآنيَّة:
•{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطفِّفين/14)
وهذه أخطر مرحلة يصل إليها الإنسان، وهي مرحلة الرَّين، ففيها يتحجَّر القلب، ويقسو، ويُظلِم؛ بسبب المعاصي، والذُّنوب، والموبقات والمخالفات، حيث يتحوَّل القلب إلى قطعة صخريَّة جامدة ومظلمة وراكدة.
•قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «ما جَفَّتِ الدُّموعُ إلَّا لِقَسوةِ القُلوبِ، وَما قَسَتِ القُلوبُ إلَّا لكَثرَةِ الذُّنوبِ». (الصَّدوق: علل الشَّرائع 1/119، ب 74 (علَّة جفاف الدُّموع)، ح1)
العين لا تدمع، وإنَّما هي قاسية جامدة في الصَّلاة، وفي التِّلاوة، وفي الدُّعاء، وفي الزِّيارة.
ما سبب ذلك؟
ماذا قال عليٌّ (عليه السَّلام)؟
«ما جَفَّتِ الدُّموعُ إلَّا لِقَسوةِ القُلوبِ»
إذا كان القلب قاس ومتحجِّر، فكيف ستدمع العين؟
اجعل القلب رطبٌ ونديٌّ ومشرق ومنير، حينها ستدمع العين بسهولة.
«ما جَفَّتِ الدُّموعُ إلَّا لِقَسوةِ القُلوبِ، وَما قَسَتِ القُلوبُ إلَّا لكَثرَةِ الذُّنوبِ»
إذن، الذَّنب معصية تسبِّب قسوة القلب، وقسوة القلب تسبِّب جفاف الدُّموع.
هذا أثر خطير من آثار المعاصي.
•قال النَّبيُّ (صلَّى اللّه عليه وآله): «يا عليُّ مَن أكَلَ الحَرامَ سود قَلبه، وخلف دِينه، وضعفت نَفسه، وحَجب اللّهُ دَعوته، وقلَّت عِبادته». (التويسركاني: لئالي الأخبار 1/3)
الحرام معصية تسوِّد القلب.
•وقال (صلَّى الله عليه وآله): «مَن أكَلَ الحَلالَ أربَعينَ يَومًا، نَوَّرَ اللهُ قَلبَهُ، وأجرى يَنابيعَ الحِكمَةِ عَلى لِسانِهِ مِن قَلبِهِ». (الرَّيشهري: حِكَم النَّبي الأعظم (ص) 1/243، ح389)
القلب يمتلئ بالحكمة إذا أكل الإنسان الحلال أربعين يومًا، وتجري الحكمة من قلبه على لسانه.
إذن، الأثر الأوَّل من آثار المعاصي قسوة القلب، هذا أثرٌ في الدُّنيا يجده الإنسان الآن حاضرًا في حياته.
الأثر الثَّاني – من آثار الذُّنوب والمعاصي -: الكسل العبادي
يصبح الإنسان كسولًا في صلاته، ودعائه، وتلاوته، لا يوجد عنده ذلك العشق للصَّلاة، ولا يوجد عنده ذلك الإقبال على الصَّلاة، ولا يوجد عنده ذلك العشق للدُّعاء، ولا الإقبال على الدٌّعاء، والذِّكر، والزِّيارة، وتلاوة القرآن، والعبادات بكلِّ أشكالها.
ويصاب بكسل، وشلل، وضعف، وركود عبادي.
لماذا هذا الرُّكود العبادي؟
لأنَّه يرتكب المعاصي.
•الحديث عن الإمام عليٍّ (عليه السَّلام) يقول: «كَيْفَ يَجِدُ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ مَنْ لَا يَصُومُ عَنِ الْهَوَى؟!» (الرَّيشهري: ميزان الحكمة 3/15)
متى يشعر الإنسان بلذَّة العبادة؟
إذا كان صائمًا عن الهوى وعن المعاصي وعن المخالفات الشَّرعيَّة، فإنَّه سيشعُر بلذَّة العبادة، وبلذَّة الصَّلاة، وبلذَّة الذِّكر، وبلذَّة التِّلاوة للقرآن.
أمَّا الإنسان الذي لا يصوم عن المعاصي ولا يصوم عن الذُّنوب، وحياته مفتوحة على الغِيبة، والنَّميمة والكذب، والبهتان، وأكل الحرام، وإذا جاء إلى الصَّلاة يقول: لا أشعر بلذَّة في صلاتي.
طبيعي هذا الإنسان لن يشعر بلذَّة في صلاته؛ لأنَّ الصَّلاة تريد أن تصنع منه إنسانًا نظيفًا وهو ملوَّث، فكيف سيجد لذَّةً؟!
الصَّلاة تقول له: لا تكذب، وهو يريد أن يكذب، فكيف ينسجم مع الصَّلاة؟
الصَّلاة تقول له: لا تغتاب، وهو يريد أن يغتاب، فكيف يجد لذَّة في الانسجام مع الصَّلاة؟
الصَّلاة تقول له: لا تأكل الحرام، وهو يريد أن يأكل الحرام، فطبيعي لن ينسجم مع الصَّلاة، ولن يتفاعل معها.
ولذلك الحديث يقول: «كَيْفَ يَجِدُ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ مَنْ لَا يَصُومُ عَنِ الْهَوَى؟!».
•جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ حُرِمْتُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ.
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): «أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ». (الكليني: الكافي 6/550، ح5584/ 34)
هذا الرجل عنده شوق ورغبة شديدة لصلاة اللَّيل، وللجلوس ولو لبعض الوقت للتَّهجُّد في الأسحار، لكنَّه غير موفَّق لصلاة اللَّيل، إمَّا لانشغالات وإمَّا لنوم.
وصلاة اللَّيل وما أدراك ما صلاة اللَّيل، وكم هي قيمة صلاة اللَّيل، وكم هي عظمة صلاة اللَّيل.
«ركعتان يركعهما ابن آدم في جوف اللَّيل الآخر خير له من الدُّنيا وما فيها» (المتَّقي الهندي: كنز العمَّال 7/785، ح21405)
فهذا المسكين يأتي إلى أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يقول له: أنا غير موفَّق لصلاة اللَّيل.
فماذا قال له أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
قال له: «أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ».
ابحث عن السَّبب.
لماذا لا تتوفَّق لصلاة اللَّيل؟
لأنَّك تمارس ذنوبًا، ولأنَّك تمارس معصية.
•عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ فَيُحرَمُ بِها صَلاةَ الْلَيْلِ، فَاذا حُرِمَ صَلاةُ اللَيْلِ حُرِمَ بِها الرِّزْقُ». (الصَّدوق: علل الشَّرائع، 2/52، 2)
هناك بعض النَّاس مَنْ يُصلِّي صلاة اللَّيل، ولكنَّه يرى في يوم من الأيام أنَّه لم يُوفَّق لصلاة اللَّيل، فليبحث عن السَّبب، فهل اغتاب غِيبة، أو كذب كذبة، أو مارس نميمة.
فأمير المؤمنين (عليه السَّلام) يقول له: «أَنْتَ رَجُلٌ قَدْ قَيَّدَتْكَ ذُنُوبُكَ».
الذُّنوب لها كثير من المنتجات الخطيرة في حياة الإنسان، من جملتها الحرمان من صلاة اللَّيل، وعدم التَّوفيق للطَّاعات، والعبادات، والصَّلوات المستحبَّة، وأداء الصَّلوات في المساجد، وصلاة الجماعة؛ لأنَّ المعاصي تمنعه، وتسلب لذَّة العبادة منه.
فكلَّما كان الإنسان نقيًّا من المعاصي والذُّنوب، كلَّما كان أكثر انشدادًا وعشقًا للطَّاعة والعبادة.
قد يوجد شخص يصلِّي وهو مشحون بالمعاصي فصلاته ستكون جافَّة، وخاملة، وراكدة، وذابلة وليس فيها روح، ولا نبض، لماذا؟ لأنَّه مشحون بالتَّلوثُّات.
والصَّلاة لا يكون فيها روح، ولا يكون فيها نبض، ولا وقدة إشعاع وإشراق إلَّا إذا كانت الرُّوح نقيَّة، لأنَّ الصَّلاة هي صلاة الرُّوح وليست صلاة البدن، فليس المطلوب في الصَّلاة فقط تنظيف وغسل البدن والثِّياب، لكنَّ النَّظافة الحقيقيَّة هي نظافة القلب والرُّوح والسُّلوك.
بقدر ما أنظِّف هذه المواقع في حياتي أدخل الصَّلاة بعشق، وبتوجُّه، وبانسياب روحي، وبانسياب وجداني.
الانتكاسة الرُّوحيَّة المفاجئة
لماذا نلاحظ – مثلًا – أنَّ شخصًا عنده عشق للصَّلاة، ويصلِّي بنهم، وبحبٍّ، وبعشق، ويحب المساجد، ويحب المآتم، ويحب تلاوة القرآن، وقراءة الأدعية، عنده نشوة روحيَّة.
فجأةً، يشعر بانتكاسة، ليس ذاك العشق للصَّلاة، وليس ذاك العشق لتلاوة القرآن، وليس ذاك العشق للذِّكر والدُّعاء، وليس ذاك العشق للمساجد وصلاة الجماعة.
هل فكَّر لماذا حصلت هذه الانتكاسة؟
إنَّها انتكاسة في ذلك النَّبض والوهج الرُّوحي الكبير، الَّذي أصابه الضُّمور في لحظة واحدة، فما الَّذي حدث؟
ما الذي جعل هذا الوهج الرُّوحي ينخفض ويضمر ويضعف فجأةً؟
صحيح أنَّ للنَّفس إقبال وإدبار كما في الحديث، لكن الانتكاسة لا تحصل بلا سبب، فليفتش فسيجد أنَّه في ذلك اليوم قد اغتاب غيبةً.
سيجد أنَّه في ذلك اليوم قد كذب كذبةً.
سيجد أنَّه في ذلك اليوم قد أكل لقمة حرام.
سيجد أنَّه في ذاك اليوم قد مارس ذنبًا.
ومن الطبيعي أن تكون النتيجة هي الإصابة بانتكاسة، فلم تأت الانتكاسة عفويَّة، بل جاءت بسبب، والسَّبب هو المعصية.
إذن، الأثر الثَّاني من آثار المعاصي والذُّنوب هو الكسل العبادي، والضُّمور الرُّوحي، والانتكاسة الرُّوحيَّة.
هناك آثار أخرى سنتناولها في حديث قادم – إن شاء الله تعالى -.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.