نفحات رمضانيَّة (6) الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل (الاستعداد الرابع: الاستعداد العملي (3))
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة السَّادسة ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الاثنين بتاريخ: (6 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 19 أبريل 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل
(4- الاستعداد العملي – 3)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين المنتجبين الأخيار الأبرار.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحديث عن الشَّرط الرَّابع من شروط التَّوبة وهو تدارك ما فرَّط فيه، فقد تحدَّثنا عن لونين من ألوان التَّفريط:
اللَّون الأوَّل: ترك الطَّاعات الواجبة، وتحدَّثنا عن طريقة التَّوبة.
اللَّون الثَّاني: الذُّنوب والمعاصي التي بين العبد وبين الله ولا علاقة للعباد بها، وتناولناها في حديث ماض.
الآن نتحدَّث عن:
اللَّون الثَّالث: الذُّنوب التي بينه وبين العباد (والتي تُسمَّي حقوق النَّاس)
وهذا أصعب ألوان المعاصي.
إذا كانت المعصية بينه وبين الله فيمكن في لحظة أن يقول: اللَّهمَّ إنِّي تائب، فتنتهي المشكلة.
فالمحرَّمات التي بينه وبين الله يمكنه في لحظة واحدة أن يقول: اللَّهمَّ إنِّي تائب توبة صادقة، ويندم ندمًا حقيقيًّا، فتُمحى تلك الذُّنوب عنه.
أمَّا الذُّنوب التي بينه وبين العباد، ففيها لا يكفي فقط أن يقف ويقول: اللَّهمَّ إنِّي تائب، بل هذه تحتاج إلى تدارك أمور.
كيف يتوب الإنسان من الذُّنوب التي بينه وبين العباد، والتي تُسمَّى حقوق النَّاس؟
أصناف حقوق النَّاس
هذه الحقوق – حقوق النَّاس – يمكن أن نصنِّفها إلى صنفين:
الصِّنف الأوَّل: ما كان في المال
قد يكون الإنسان أخذ وسرق أموال النَّاس، فهذه معصية تتعلَّق بأموال النَّاس، فكيف يتوب من هذه المعصية؟
تكون التَّوبة بأنَّه:
أ-يجب عليه أن يردَّ المال إلى أصحابه.
إذا كنت قد أخذت مالًا من فلان فيجب عليَّ أن أرجعه إليه، وإذا لم يكن موجودًا فيجب أن أرجعه لورثته، هذه هي التوبة الصَّحيحة.
أمَّا أن أقول أنِّي تائب ولكنِّي ما زلت آكل أموال النَّاس، فهذه ليست توبة.
التَّوبة تعني أن أرجع مال النَّاس للنَّاس، وأن أبحث عن النَّاس الذين سرقت أموالهم، وأكلت أموالهم، واقترضت ولم أرجع المال للنَّاس، فأقوم بإرجاع المال لهم.
إذن، هنا لا بدَّ من إرجاع المال إلى أصحابه، فحتى يصبح تائبًا توبة حقيقيَّة، يجب عليه أن يُرجع المال إلى أصحابه.
ب- فإن عجز وجب أن يستحلَّ منه
هنا سؤال: إذا تاب ولم يقدر أن يردَّ المال إلى أصحابه، بأن كان عاجزًا، أو لا يوجد عنده مال، أو كان فقيرًا فكيف يرجع المال إلى أصحابه؟
هنا يجب أن يستحلَّ من أصحاب المال، بأن يطلب منهم أن يسامحونه.
فإذا استطاع أن يرجع المال يجب عليه أن يرجعه، وإذا لم يستطع فيحتاج إلى أن يستحلَّ من أصحاب المال.
ج-فإن لم يحلَّه، أو عجز عن الوصول إليه تصدَّق عنه
فإمَّا أنَّه قد عرف أصحاب المال ولكنَّهم لم يحلُّوه، وإمَّا إنَّه عجز من الوصول إلى أصحابه.
فهنا يتصدَّق بمقدار ما عليه من دَيْن عن أصحاب المال.
د-فإن لم يقدر على الصَّدقة
فعليه بالتَّضرُّع والابتهال إلى الله أنْ يرضيه عنه في يوم القيامة
إذن، هنا يحتاج إلى مزيد من التَّضرُّع، ومزيد من الابتهال إلى الله أن يُرضي هؤلاء عنه في يوم القيامة.
ه-وعليه بتكثير الحسنات، وتكثير الاستغفار ليكون فيه تعويض عن حقوق الآخرين يوم القيامة.
إذ كلُّ من له حقٌّ لا بدَّ أن يأخذ يوم القيامة عوضًا عن حقِّه إمَّا ببعض طاعاته، وإمَّا بتحمُّل هذا الغير بعض سيِّئاته.
فإنَّ الإنسان يُحضَّر بين يدي الله، ويُقال له: إنَّك قد سرقت مالًا، وأنك اعتديت على مال فلان، والمطلوب الآن أن يُقتص منك، فصاحب الحقِّ يقول: أنا أطالب بحقِّي، فماذا يصنعون؟
يأخذون من حسناتك وتضاف إلى صحيفة صاحب الحقِّ.
وقد يأتي آخر ويقول: أنا لي حق آخر، فيُؤخذ من حسناته وتُضاف إلى صحيفة صاحب الحقِّ.
وقد يأتي ثالث، ويأتي رابع، ويأتي خامس، فإذا انتهت الحسنات، ولا زال مطلوبًا، فماذا يصنعون معه وأصحاب الحقوق لا زالوا ينتظرون حقوقهم؟
فيُؤخذ من سيِّئاتهم وتُضاف إليه، فهناك قد خسر حسنات، وهنا تضاعفت عليه السَّيِّئات.
لذلك يجب على الإنسان أن يتدارك في الدُّنيا بقدر ما يستطيع.
هذا هو اللَّون الأوَّل الذي نسمِّيه حقوق العباد إذا كان الأمر مرتبطًا بالأموال.
الصِّنف الثَّاني: ما كان في العِرض
بأنْ شتمه أو قذفه أو بهته أو اغتابه.
هنا الذَّنب ليس مرتبطًا بالأموال، وإنَّما هو مرتبط بالعرض.
فكيف يتوب الإنسان من هذا الذَّنب؟
أنا قد أكون في يوم من الأيام شهَّرت بفلان، أو سقَّطت شخصيَّته عند النَّاس، أو بهتُّه، أو اغتبته، أو كذبت عليه، فكيف أتوب من هذا الذَّنب؟
هنا التَّوبة تحتاج إلى:
أوَّلًا: أنْ يكذِّب نفسه عند من قال ذلك لديه
أنا مع من تحدَّثت عن فلان وبهتَّه وكذبت عليه؟ أنا تحدَّثت مع فلان وفلان وفلان.
فإذا كانوا موجودين أذهب لهم وأقول: أنَّ ما صدر منِّي في حقِّ فلان ليس صحيحًا، وأكذِّب نفسي.
هذه تكون توبة صادقة.
لا أن يقول: أخشى أن تسقط شخصيَّتي.
فأن تسقط شخصيَّتُك اليوم أفضل من أن تسقط بين يدي الله يوم القيامة.
وإذا كان قد تحدَّث في خطاب عام، أو في محاضرة عامَّة، وقد سمعها النَّاس كلُّهم، وسُجِّلت ووُزِّعت في العالم، وقد أسقط شخصيَّة هذا الإنسان أمام الملأ العام، في خطاب عام؟
فهنا يحتاج إلى أن يكذِّب نفسه بمستوى الخطاب العام، بأن يخرج ويقول: أنا بهتُّ فلانًا، وكذبت على فلان، وأنا تائب، وأنا نادم، وهذا الشَّخص لا توجد فيه هذه الأشياء.
وعليه أن يجعل الخطاب يصل إلى نفس المساحة التي وصل إليها الخطاب الأوَّل.
أمَّا أن يُسقِط إنسانًا في خطاب عام، أو على منبر، أو في محاضرة عامَّة والنَّاس كلُّهم قد سمعوه، ثمَّ يأتي بينه وبين الله ويقول: يا ربِّي أنا تائب.
لا، هذه ليست توبة، بل يجب أن يوصل صوته إلى نفس المساحة التي وصل فيها التَّسقيط لذلك الإنسان.
فإذن، حقُّه أن تكذِّب نفسك عند من قلت ذلك لديه.
وثانيًا: أن يستحلَّ من صاحبه مع الإمكان
إذا كان صاحب الحقِّ الذي بهته وتحدَّث عنه موجودًا، ويتمكَّن من الوصول إليه، ويتمكَّن من الاستحلال منه، فعليه أن يذهب إليه، فلعلَّ المشكلة تنتهي إذا أحلَّه وسامحه وأبرأه الذِّمَّة.
وثالثًا: وإلَّا فليكثر الاستغفار له
إذا لم يتمكَّن من الوصول له، كما لو مات مثلًا، أو لا يتمكَّن من الاستحلال من صاحب الحقِّ نفسه الذي بهته وكذب عليه وشهَّر به، أو لا يتمكَّن من تكذيب نفسه عند من سمعوه.
هنا لا يوجد لديه إلَّا أن يُكثر من الاستغفار، والنَّدم، واللُّجوء إلى الله، بأن يُرضي هذا أو هؤلاء عنه يوم القيامة.
وأن يقوم بأعمال ويهديها إليه، فلعلَّه إذا جاء يوم القيامة ورأى أنَّ لديه رصيدًا كبيرًا من الطَّاعات قد أهديت له من الشَّخص الذي أخطأ في حقِّه، فحينها يسامحه.
فإهداء هذه الأعمال قد تكون عوضًا عن تلك الذُّنوب، وقد تكون سببًا لغفران تلك الذُّنوب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.