نفحات رمضانيَّة (4) الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل (الاستعداد الرابع: الاستعداد العملي(1))
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة الرَّابعة ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم السَّبت بتاريخ: (4 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 17 أبريل 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل
(3- الاستعداد العملي)
أعوذ باللَّه السَّميع العليم من الشَّيطان الغوي الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحِبَّة ورحمة الله وبركاته.
نتابع الحديث في الاستعدادات للشَّهر الفضيل.
قلنا إنَّ هناك أربعة استعدادات للشَّهر الفضيل:
الاستعداد الأوَّل: الاستعداد الفقهي.
الاستعداد الثَّاني: الاستعداد الفكري الثَّقافي.
الاستعداد الثَّالث: الاستعداد الرُّوحي.
ونتحدَّث الآن عن:
الاستعداد الرَّابع: وهو الاستعداد العملي
الاستعداد الرَّابع: الاستعداد العملي
ماذا نعني بالاستعداد العملي لشهر الله، لهذا الشَّهر الفضيل العظيم؟
المقصود بالاستعداد العملي: هو الإقلاع عن المعاصي والذُّنوب.
وبتعبير آخر: التَّوبة النَّصوح.
أن ندخل الشَّهر ونحن على استعداد كامل، ومقلعين إقلاعًا كاملًا عن المعاصي والذُّنوب.
قد يتوفَّر الاستعداد الفقهي، وقد يتوفَّر الاستعداد الثَّقافي، وقد يتوفَّر الاستعداد الرُّوحي، لكن لا يتوفَّر الاستعداد العملي وهو التَّوبة، والإقلاع عن المعاصي والذُّنوب، فلا جدوى من التَّعاطي مع هذا الشَّهر.
إذن، نحتاج إلى استعداد عملي.
•{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا …} (التَّحريم/8)
أن نعلن التَّوبة ونحن نستقبل الشَّهر العظيم.
فالتَّوبة شرط من شروط القبول، حيث إنَّ وظيفة التَّوبة والإقلاع عن الذُّنوب هو قبول العمل، فمن أجل أن تُقبل الصَّلاة لا بدَّ من توبة، ومن أجل أن يُقبل الصِّيام لا بدَّ من توبة، ومن أجل أن يُقبل الحجُّ لا بدَّ من توبة.
إذن، التَّوبة هي شرطٌ أساس لقبول العمل.
•{… إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة/27)
{… تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا …} (التَّحريم/8)
متى تكون التَّوبة نصوحًا؟
تكون التَّوبة نصوحًا إذا توفَّرت أربعة شروط، فالتَّوبة الصَّادقة تحتاج إلى أن يتوفَّر أربعة شروط:
شروط التَّوبة النَّصوح
الشَّرط الأوَّل: أنْ تكون التَّوبة لله سبحانه وتعالى.
الشَّرط الثَّاني: النَّدم على فعل المعاصي.
الشَّرط الثَّالث: العزم على عدم العود.
الشَّرط الرَّابع: تدارك ما فرَّط فيه.
هذه أربعة شروط للتَّوبة، متى توفَّرت هذه الشُّروط الأربعة تحقَّقت التَّوبة الصَّادقة، أو بحسب التَّعبير القرآني التَّوبة النَّصوح.
وإذا فُقِد أحد هذه الشُّروط، تكون التَّوبة ليست صادقة، وليست نصوحًا.
نلقي ضوءًا سريعًا على كلِّ شرطٍ من هذه الشُّروط الأربعة من شروط التَّوبة النَّصوح.
الشَّرط الأوَّل: أنْ تكون التَّوبة لله سبحانه وتعالى
لا لمال، أو جاه، أو خوف من سلطان، أو أيِّ إنسان.
فقد يتوب إنسان لمصالح ولأغراض دنيا، وقد يتظاهر بأنَّه تائب عن المعاصي والذُّنوب؛ من أجل أن يحقِّق أغراض دنيا، هذه ليست توبة؛ لأنَّها ليست توبة لله، وإنَّما هذه توبة من أجل مصالح دنيا، ومن أجل أغراض وشهوات، ومن أجل أن يحصل على جاه، ومن أجل أن يتقرَّب إلى فلان وفلان، ومن أجل أن يحصل على منصب، هذه التَّوبة ليست توبة لله.
التَّوبة الصَّادقة، والتَّوبة النَّصوح هي أنْ تكون لله سبحانه لا لمال، أو جاه، أو خوف من سلطان، أو خوف من إنسان.
فمثًلا عندما يتواجد شخص في أوساط أناس مؤمنين فيتظاهر حينها بالتَّوبة، مجاملة لهذا الجو، ومجاملة للنَّاس، ومن أجل أن يحصل على مكاسب دنيا.
هذه لا نسمِّيها توبة نصوحًا، ولا توبة صادقة، ولا توبة خالصة.
التَّوبة النَّصوح هي التي تتمحَّض لله، ومن أجل الله، وخوفًا من الله، وطمعًا في ثواب الله، وخوفًا من عذاب من الله.
إذن، هنا الذي حرَّكه للتَّوبة هو الخوف من الله، والطَّمع في ثواب الله، والحياء من الله.
هذا هو الشَّرط الأوَّل: أن تكون التَّوبة خالصة لله.
الشَّرط الثَّاني: النَّدم على فعل المعاصي
توجُّع القلب، وطول الحسرة، والحزن، وانسكاب الدُّموع، وطول البكاء.
النَّدم هو حالة من التَّوجُّع القلبي.
فقد يترك شخص المعصية لكنَّه لا يزال يستلذُّ بالمعصية، ولا يشعر بالأذى، وأنَّه لماذا ارتكب المعاصي؟ ولماذا خالف؟ ولماذا ترك صلاة؟ ولماذا شرب خمر؟ ولماذا مارس غيبة؟ ولا يوجد عنده استنفار داخلي ضدَّ المعصية، فقلبه لا يزال يأنس بالمعصية، ويأنس بالفجور، ويأنس بالمخالفات.
التائب توبةً نصوحًا صادقة يعيش درجة من الغليان الدَّاخلي، والاستنفار الدَّاخلي ضدَّ المعصية، يتألَّم لماذا ارتكب المعصية، ويتوجَّع قلبه لماذا مارس زمنًا ووقتًا مَّا ذنبًا ومعصية.
هذا التَّوجُّع، وطول الحسرة، والحزن، والبكاء، والدُّموع، هو دليل على صدق التَّوبة.
كم سهر التَّائبون لياليَ طويلة يبكون ويتوجَّعون ويندمون على ما صدر منهم، يعيشون بينهم وبين الله هذا اللَّون من النَّدم والتَّأوُّه والحزن والبكاء والدُّموع، من أجل ما صدر عنهم من معاصي ومن ذنوب.
فهذا مظهر من مظاهر الصِّدق في التَّوبة، وهذا شرط من شروط التَّوبة النَّصوح.
إذن، أوَّلًا: أن تكون التَّوبة لله، لا لأجل دنيا وأغراض ومصالح.
ثانيًا: أن يعيش درجة عالية من النَّدم، ودرجة عالية من التَّوجُّع والتَّأوُّه، قلبه يغلي حسرة، وألمًا، وتوجُّعًا لماذا صدرت منه هذه المعصية؟ ولماذا ارتكب هذا الذَّنب؟ ولماذا خالف أوامر الله؟
هذا هو الشَّرط الثَّاني من شروط التَّوبة النَّصوح: النَّدم على فعل المعاصي.
الشَّرط الثَّالث: العزم على عدم العود
ما معنى العزم على عدم العود؟
يعني أنْ يتخذ قرارًا بالتَّخلِّي عن المعصية إلى نهاية حياته، توبة ليست مؤقَّتة، فهذا الذي يوقِّت التَّوبة يعني أنَّه ليس تائبًا صادقًا.
بعض النَّاس يقول: الآن شهر رمضان شهر فيض وبركة وعطاء، أنا سأتوب في شهر رمضان، لكن بعد شهر رمضان سأرجع لمعصيتي، هل نسمِّي هذه توبة؟! لا، هذه ليست توبة.
أنا سأتوب مؤقتًا لأنِّي سأذهب إلى الحج، وعندما ينتهي الحج تنتهي التَّوبة.
أنا سأتوب لأنِّي في موسم محرَّم، وعندما ينتهي الموسم تنتهي التَّوبة.
سأتوب ما دمت أنا هنا في هذا المكان، وعندما أذهب إلى أماكن أخرى تنتهي التَّوبة، هل يمكن أن أسمِّي هذه توبة؟
هذه لا تُسمَّى توبة، عندما تُوقَّت بزمان أو بمكان.
التَّوبة التي تنحجز بزمان أو بمكان ليست توبة.
التَّوبة الحقيقيَّة هي التَّوبة التي يتَّخذ فيها التَّائب قرارًا حاسمًا بعدم العودة إلى المعاصي.
أنا إذا اغتبت النَّاس، فيجب أنْ أتَّخذ قرارًا حاسمًا بعدم الرُّجوع للغِيبة، وبعدم الرُّجوع إلى النَّميمة، وبعدم الرُّجوع إلى السَّرقة، وبعدم الرُّجوع إلى شرب الخمر والعياذ باللَّه، وإلى الزِّنا، وإلى أيِّ ممارسة محرَّمة.
فشرط أساس من شروط التَّوبة النَّصوح: العزم على عدم العود، وأن يتَّخذ قرارًا بألَّا يعود.
•في الحديث الوارد عن الإمام الباقر (عليه السَّلام): «التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له». (الكليني: الكافي 2/435)
أي ستنمحي كلُّ ذنوبه، فهي قد سُجِّلت عليه ذنوبًا، لكن بتوبته فقد انمسحت الذُّنوب.
طبعًا توجد حقوق للنَّاس سيأتي الحديث عنها في الشَّرط الرَّابع.
لكن الذُّنوب التي بينه وبين الله انمحت، التوبة الصادقة الخالصة تمسح وتمحو كلَّ الذُّنوب.
«التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له».
إذا كان في مدَّة عشرين سنة يمارس المعاصي، فتوبة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان، أو في ليلة القدر، هذه اللَّيلة المباركة، أو في أيِّ وقت توبة نصوحًا صادقة مخلصة إلى الله تمحو ذنوب عشرين سنَّة، أو ثلاثين سنَّة، أو خمسين سنَّة.
يتوب قبل موته – وهو لا يعلم بلحظة موته – توبة نصوحًا فإنَّها تمسح كلَّ الذُّنوب.
إذن «التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذَّنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ».
هذا مستهزئ، بمن يستهزئ؟ باللَّه؟
يقول: ربِّي أنا تائب وهو يخرج يغتاب النَّاس!
أنا تائب، وهو يمارس النَّميمة!
أنا تائب، وهو يكذب!
أنا تائب، وهو يشرب خمر!
أنا تائب وهو يرتكب المعاصي.
هل نسمِّي هذا تائب؟!
لا، هذا مستهزئ.
بمن يستهزئ؟ هل يستهزئ باللَّه سبحانه وتعالى وهو الخالق، والمتَّفضل، والمنعم، وهو المطَّلع على كلِّ الضَّمائر؟
الله مطَّلع على حقائقي، فحينما أقول أتوب فإنَّ التَّوبة هي علاقة مع الله، وهي رجوع إلى الله، وعودة لله، وهي طلاق للشَّيطان.
إذن بمن يستهزئ؟ يستهزئ بربِّه؟ بخالقه العالِم بكلِّ خواطره؟!
إذن، التَّوبة النَّصوح هي العزم على عدم العود.
نتابع الحديث إن شاء الله في كلمة قادمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.