نفحات رمضانيَّة (2) الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل (الاستعداد الثاني:الاستعداد الثَّقافي، الفكري)
هذه الكلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، وهي الحلقة الثَّانية ضمن البرنامج اليومي (نفحات رمضانيَّة)، والذي تمَّ بثُّها في شهر رمضان المبارك 1442هـ، عبر البثِّ الافتراضيِّ في يوم الخميس بتاريخ: (2 شهر رمضان 1442 هـ – الموافق 15 أبريل 2021 م)، وقد تمَّ تفريغها من تسجيل مرئيٍّ، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبةً للقارئ الكريم.
الاستعدادات لاستقبال الشَّهر الفضيل (2- الاستعداد الثَّقافي، الفكري)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياء والمرسلين سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا وقائدنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الطَّيِّبين الطَّاهرين المعصومين المنتجبين.
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا ورحمة الله وبركاته
الاستعداد الثَّاني: الاستعداد الثَّقافي (الفكري)
ما المقصود بالاستعداد الثَّقافي أو الفكري لشهر رمضان؟
المقصود بالاستعداد الثَّقافي والفكري: محاولة استيعاب وفهم مضامين الصِّيام ومعطيات الشَّهر الفضيل.
هناك في الاستعداد الأوَّل تعرَّفنا على أحكام.
وهنا نتعرَّف على مفاهيم.
ما هي الأهداف الكبرى للصِّيام؟
ما هي الأهداف الكبرى لشهر الله؟
هذه مضامين فكريَّة، ومضامين ثقافيَّة وليست أحكامًا فقهيَّة.
ولذلك أسميناه الاستعداد الفكري، والاستعداد الثَّقافي.
-ربَّما يتوَّفر الإنسان على الرُّؤية الفقهيَّة، فيُتقن الجانب الفقهي اتقانًا كاملًا، فيما هي مفطرات الصِّيام، وفيما هي أحكام الصِّيام، وفيما هي شروط الصِّيام.
لكنَّه غير مستوعب لمضامين الصِّيام، وأهداف الصِّيام، ورسالة الصِّيام، وثقافة الصِّيام، وفكر الصِّيام.
إذن، هنا توفَّر الاستعداد الفقهي، لكنَّ الاستعداد الفكري والثَّقافي لم يتوفَّر.
فربَّما تتوفَّر الرُّؤية الفقهيَّة وتغيب الرُّؤية الثَّقافيَّة.
-وربَّما العكس تتوفَّر الرُّؤية الثَّقافيَّة وتغيب الرُّؤية الفقهيَّة.
فمثلًا شخص يُتقن تمامًا الجانب الفكري الثَّقافي، وعنده ثقافة فكريَّة كبيرة حول الصِّيام، لكن عنده الجانب الفقهي ضعيف، لم يُهيِّئ نفسه ولم يُعِد نفسه فقهيًّا.
إذن، هنا صار لديه استعداد فكريٌّ ثقافيٌّ بدون استعداد فقهي.
-وربَّما يتوفَّران معًا: الاستعداد الفقهي، والاستعداد الفكري.
-وربَّما يغيبان معًا: لا يوجد استعداد فقهي، ولا استعداد فكري.
نحن قلنا: إنَّ وظيفة الاستعداد الفقهي هي تصحيح الصِّيام، إذا الإنسان لا يوجد عنده استعداد فقهي فإنَّ صحَّة صيامه ترتبك، فقد يتناول شيئًا ولا يعلم أنَّه من المفطِّرات، أو يرتمس في الماء، ولا يعلم أنَّ الارتماس على رأي أكثر الفقهاء مفطِّر.
إذن، صحَّة صيامه ترتبك؛ لأنَّه يجهل الحكم الفقهي.
وظيفة الاستعداد الثَّقافي
وظيفة الاستعداد الثَّقافي ليست صحَّة الصِّيام.
إذًا ما هي وظيفة الاستعداد الثَّقافي أو الاستعداد الفكري؟
وظيفة الاستعداد الثَّقافي والاستعداد الفكري هي: الارتقاء بمستوى وعي الصِّيام.
هنا خلق وعي فكري، ووعي ثقافي.
الصِّيام الواعي يختلف عن الصِّيام غير الواعي، الصِّيام البصير يختلف عن الصِّيام غير البصير.
وهكذا في كلِّ العبادات، وفي كلِّ مسارات التَّديُّن، كلَّما يرتقي الوعي يرتقي مستوى العبادة.
أ-مستويات المصلِّين
فمثلًا إذا كان شخص يصلِّى ويملك وعي الصَّلاة، ورسالة الصَّلاة، وأهداف الصَّلاة، فهذا تكون صلاته تختلف عن مصلٍّ لا يدرك أهداف الصَّلاة.
فالمطلوب أن يُدرك أهداف الصَّلاة، ويفهم مضامين الصَّلاة، وماذا تعني القراءة؟
وماذا يعني الرُّكوع؟ وما هو المعنى الذي يحمله الرُّكوع؟
وما هو المعنى الرُّوحي الفكري المفهومي؟
وما معنى السُّجود؟ وما معنى التَّكبير؟ وما معنى التَّشهُّد؟
هذه مضامين فكريَّة ثقافيَّة مطلوب من الإنسان أن يفهمها حتى يؤدِّي عباداته.
فلذلك مستوى المصلِّين يختلف بمستوى وعيهم للصَّلاة، كلَّما يرتقي مستوى وعي الصَّلاة، يرتقي مستوى الصَّلاة.
ب- مستويات الذَّاكرين
كلَّما يرتقي مستوى الوعي للذِّكر، يرتقي مستوى الذَّاكر.
ج-مستويات التَّالين للقرآن
الذين يقرأون القرآن ليسوا على مستوى واحد، فتوجد قراءة، ويوجد تجويد، لكن يوجد أيضًا تدبُّر، ووظيفة التَّدبُّر هي الارتقاء بمستوى وعي التَّالي للقرآن، فالتَّدبُّر هو محاولة اكتشاف المضامين، والتَّدبُّر هو محاولة اكتشاف المعاني القرآنيَّة.
الإنسان عندما يقرأ يحاول أن يستنطق المضامين، ولذلك يحتاج إلى ثقافة قرآنيَّة تمكِّنه من أن يتدبَّر.
صحيح قد توجد آيات قرآنيَّة لعلَّه حتى العامِّي المحض يفهم معانيها العامَّة، حيث توجد خطابات مكشوفة واضحة عامَّة، مثلًا: اتَّقوا الله، كلُّ واحد يفهم أن معنى (اتقوا الله) هو: أطيعوا الله، وكونوا مع الله، أمَّا تفاصيل التَّقوى فإنَّها تحتاج إلى معرفة أكثر.
إذن، باب التَّدبُّر مفتوح، لكن حينما يحاول الإنسان أن يستوعب مضامين أكبر في القرآن، فإنَّه يحتاج إلى بعض الكفاءات؛ حتى لا يخوض الإنسان في القرآن خوضًا عشوائيًّا بعنوان التَّدبُّر، والنتيجة أنَّه يخلط في المفاهيم ويربك التَّعاطي مع المضامين القرآنيَّة.
إذن، مستوى التَّالين للقرآن يرتبط بمستوى الوعي لمضامين القرآن.
د-مستويات الحجَّاج والمعتمرين
أيضًا مرتبط بمستوى وعي الحجِّ، ووعي العمرة.
ه-مستويات الصَّائمين
هكذا الصَّوم أيضًا.
الصَّوم يحتاج إلى استعداد فكري ثقافي، لماذا؟
حتى نعطي للصَّوم مستواه الرَّاقي.
إذا كنَّا في الاستعداد الفقهي نعطي للصَّوم الصِّحة، هنا نعطي للصَّوم المستوى الرَّاقي.
كلَّما استطعنا أن نستوعب مضامين الصِّيام، استطعنا أن نرتقي بمضمون الصِّيام.
فهكذا إذن وظيفة الاستعداد الفكري الثَّقافي هو الارتقاء بمستوى الصِّيام، والارتقاء بمستوى التَّعاطي مع شهر الله.
وسائل الارتقاء بوعي الصِّيام
كما قلنا في الجانب الفقهي أنَّه توجد هناك وسائل لبناء الجانب الفقهي، كذلك هنا نكرِّر أنَّه توجد وسائل لبناء الجانب الفكري الثَّقافي.
اعتماد أدوات التَّثقيف من:
أ-القراءة
توجد كتب تتحدَّث عن مضامين الصِّيام، وكتابات تتناول مفاهيم الصِّيام، وفكر الصِّيام، وثقافة الصِّيام، هذه قراءة ترتقي بمستوى وعي الصَّائمين.
ب-حضور المحاضرات
المحاضرات التي تتحدَّث عن الصِّيام، وأهداف الصِّيام، ومضامين الصِّيام، ودلالة الصِّيام، ورسالة الصِّيام، هذه محاضرات تبني وعي الصَّائمين.
كما أنَّ الدُّروس الفقهيَّة تبني الثَّقافة الفقهيَّة، هنا المحاضرات تبني وعي الصَّائمين، ووعي المصلِّين، ووعي الحجاج والمعتمرين.
فنحتاج إلى قراءة حتى نبني الوعي، ونحتاج إلى حضور المحاضرات، ونحتاج إلى أن نسأل عن مضامين الصِّيام.
ج-السُّؤال
نحتاج إلى أن نسأل عن مضامين الصِّيام.
قيمة حضور مجالس التَّوعية
الأحاديث الكثيرة أكَّدت على قيمة حضور مجالس التَّوعية.
•«جاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصارِ إلَى النَّبِيِّ (صلَّى اللّه عليه وآله)، فقال: يا رَسولَ الله، إذا حَضَرَت جَنازَةٌ أو حَضَرَ مَجلِسُ عالِمٍ، أيُّهُما أحَبُّ إلَيكَ أن أشهَدَ؟
فَقالَ رَسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله): «إنْ كانَ لِلجَنازَةِ مَن يَتبَعُها ويَدفِنُها فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ، ومِن عِيادَةِ ألفِ مَريضٍ، ومِن قِيامِ ألفِ لَيلَةٍ، ومِن صِيامِ ألفِ يَومٍ، …». (الرَّيشهري: حِكَم النَّبيِّ الأعظم (ص) 1/225، ح308)
جاء رجل إلى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وقال له: يا رسول الله، إذا حضرت جنازة ومجلس عالم أيُّهما أحبُّ إليك؟
يسأل النَّبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) ويريد الجواب، هناك جنازة مؤمن مسلم تحتاج إلى تشييع، وتحتاج إلى حضور ناس يشيِّعونه، وهناك مجلس علم، محاضرة، درس، تثقيف ديني، أيُّهما أحبُّ إليك؟
ماذا نتوقَّع أن يكون جواب النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)؟
النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) أجابه وقال له:
«إنْ كان للجنازة من يتبعها»، إذا كان يوجد جماعة يشيِّعون هذا العبد المسلم.
أمَّا إذا لا يوجد أحد يشيِّعه فلا يُترك، يجب أن يُشيَّع، لكن إذا توافر مجموعة يشيِّعون هذا المؤمن.
«إنْ كانَ لِلجَنازَةِ مَن يَتبَعُها ويَدفِنُها فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ».
لاحظوا قيمة الثَّقافة الدِّينيَّة، وقيمة بناء الوعي الإيماني.
«فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ، …، ومن صيام ألف يوم».
لاحظوا، قيمة الوعي الدِّيني، وقيمة الثَّقافة الدِّينيَّة، لأنَّك أنت تصوم بوعي، فلربَّما يصوم شخص ألف يوم بلا وعي فلا قيمة له، وقد يصوم يوم واحد بوعي وببصيرة فيعطي لصومه كلَّ القيمة.
«فَإِنَّ حُضورَ مجلس العالِمِ أفضَلُ مِن حُضورِ ألفِ جَنازَةٍ، …، ومِن قِيامِ ألفِ لَيلَةٍ».
ربَّما يقوم الإنسان ألف ليلة يصلِّي صلاة اللَّيل ويتعبَّد، لكن بجهل، وليس بعلم، وليس بثقافة دينيَّة، هذا ليس لها قيمة.
ربَّما ليلة واحدة يتعبَّد بوعي، وببصيرة، وبثقافة دينيَّة، فتكون لعبادته قيمة.
وإنَّ حضور مجلس العلم أفضل من قيام ألف ليلة، وأفضل، وأفضل، وأفضل، والحديث طويل جدًّا.
•حديث عن الإمام الباقر (عليه السَّلام): «تذُّكر العلم ساعة خيرٌ من قيام ليلة»
(المجلسي: بحار الأنوار1/206، ح26)
قيام ليلة تتهجَّد وتتعبَّد، كم هي قيمة صلاة اللَّيل، ركعة واحدة يصلِّيها الإنسان في صلاة اللَّيل خير من الدُّنيا وما فيها، هذه قيمة صلاة اللَّيل، آيات وأحاديث تؤكِّد قيمة صلاة اللَّيل، القيمة الكبيرة، ومع ذلك الإمام الباقر (عليه السَّلام) يقول: «تذكُّر العلم»، أن أحضر، أن أتعلَّم، أن أتثقَّف أفضل من قيام ليلة.
إذن، نحن محتاجون في الاستعداد لشهر الله أن نملك استعدادًا فكريًّا ثقافيًّا.
وللحديث صلة إن شاء الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.