حديث الجمعة 572: رجب الأصبُّ وخصوصيَّاته
ملاحظة: هذه كلمة للعلَّامة السَّيِّد عبد الله الغريفي، قد أُلقيت عبر الفضاء الإلكتروني، استمرارًا لحديث الجمعة الأسبوعي، وذلك في يوم الخميس (ليلة الجمعة) 17 رجب 1441 هـ، الموافق 12 مارس 2020 م، وقد تمَّ تفريغها من تسجيلات مرئيَّة، وتنسيقها بما يتناسب وعرضها مكتوبة للقارئ الكريم.
أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء والمرسلين سيِّدنا، وحبيبنا، وقائدنا محمَّد وعلى آله الطَّيِّبين الطَّاهرين.
اللَّهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد.
رجب الأصبُّ وخصوصيَّاته
السَّلام عليكم أيُّها الأحبَّة جميعًا، ورحمة الله وبركاته.
قال الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ …﴾ (سورة التَّوبة: الآية 36).
لا زلنا في شهر رجب الأصبِّ، وهذا الشَّهر واحد من الأشهر الحُرم له خصوصيَّاته، وله بركاته، وله عظمته، فهو يلي شهر الله، شهر رمضان في الفضل، والمكانة، والمَنْزِلة.
﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا …﴾ (سورة التَّوبة: الآية 36).
فمنذ خلق اللهُ تعالى الكون، والمجموعة الشَّمسيَّة وضع نظامًا خاصًّا للسِّنين، والأشهر، واللَّيل والنَّهار وهذا النِّظام ثابت لا يتغيَّر.
﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ …﴾ من هذه الأشهر الاثني عشر أربعة أشهر تُسمَّى الأشهر الحُرُم.
والأشهر الحُرُم هي: رجب، ذو القعدة، ذو الحجَّة، والمُحرَّم.
وسمِّيت هذه الأشهر بالأشهر الحُرُم؛ لحرمة القتال فيها، فيستفاد من بعض الرِّوايات أنَّ تحريم القتال في هذه الأشهر كان مُشَرَّعًا في الدِّيانات السَّماويَّة السَّابقة، في شريعة إبراهيم، وفي الدِّيانة اليهوديَّة.
في الدِّيانة المسيحيَّة كان تحريم القتال مشرَّعًا!
ولمَّا جاء الإسلام أقرَّ هذه السُّنَّة سُنَّة حرمة القتال في شهر رمضان المبارك.
إذًا، نحن مع شهر من الأشهر الحُرُم، وربَّما انقضت أكثر أيَّام هذا الشَّهر هذا الشَّهر ولكن هناك بقيَّة.
بعض خصوصيَّات رجب
وَدَدْتُ هنا في هذا الحديث أنْ أتناول بعض خصوصيَّات مهمَّة جدًّا لشهر رجب، لعلَّنا نتدارك بعض الفضل، وبعض العمل، وبعض العطاء من بقيَّة في شهر رجب.
لازال الشَّهر باقيًا، فيمكن لمَن لم يحضَ بشيئ من فيوضات، وبركات، وأعمال، وعبادات هذا الشَّهر أنْ يتدارك في الثُّلث الأخير من شهر رجب.
ما هي خصوصيَّات شهر رجب؟
الخصوصيَّة الأولى: من الأشهر الحُرُم
إنَّ أوَّل خصوصيَّة أنَّه من الأشهر الحُرُم – كما تقدَّم -.
الخصوصيَّة الثَّانية: شهر الرَّحمة
من خصوصيَّات شهر رجب أنَّه شهر الرَّحمة.
يسمَّى شهر رجب شهر الرَّحمة، فقد ورد في فضله روايات كثيرة، منها:
1-جاء في (مصباح المتهجِّد) للشَّيخ الطُّوسيِّ (قُدِّس سرُّه)، عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: «أَلَا إنَّ رجبًا شهر الله الأصم» ( مصباح المتهجِّد، الصَّفحة 817، الشَّيخ الطوسي).
2-«…، وهو شهر عظيم وإنَّما سُمِّي الأصمُّ، لأنَّه لا يقاربه شهر من الشُّهور حرمةً، وفضلًا عند الله، …» (ثواب الأعمال، الصَّفحة 54، الشَّيخ الصَّدوق) طبعًا باستثناء الشَّهر الفضيل شهر رمضان المبارك.
«…، ألا إنَّ رجبًا شهر الله الأصمُّ وهو شهر عظيم، وإنَّما سُمِّي الأصمُّ، لأنَّه لا يقاربه شهر من الشُّهور حرمةً، وفضلًا عند الله، وكان أهل الجاهليَّة يعظِّمونه في جاهليَّتها، فلمَّا جاء الإسلام لم يزدد إلَّا تعظيمًا، وفضلًا، ألا إنَّ رجبًا شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمَّتي، …» (ثواب الأعمال، الصَّفحة 54، الشَّيخ الصَّدوق).
3-في حديث آخر عن الإمام الكاظم (عليه السَّلام)، قال: «رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو السَّيِّئات، …» (فضائل الأشهر الثَّلاثة، الصَّفحة 33، الشَّيخ الصَّدوق).
4-وجاء في (مصباح المتهجِّد) للشَّيخ الطُّوسيِّ، عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: «…، وسُمِّي شهر رجب شهر الله الأصب، لأنَّ الرَّحمة على أمَّتي تُصبُّ صبًّا فيه، …». (بحار الأنوار 94/39، العلامة المجلسي).
إذًا، الخصوصيَّة الثَّانية من خصوصيات شهر رجب أنَّه شهر الرَّحمة الإلهيَّة، فعلينا أنْ نستمطر رحمة الله تعالى في هذا الشَّهر، وعلينا أنْ نلجأ إلى الله سبحانه في هذا الشَّهر العظيم.
الخصوصية الثَّالثة – من خصوصيَّات شهر رجب -: شهر العبادة
شهر رجب هو شهر العبادة.
وقد وردت مجموعة نصوص وروايات تؤكِّد على بعض العبادات في شهر رجب:
1-الصِّيام
الصِّيام من أفضل العبادات، والمستحبَّات في شهر رجب.
جاء في:
أ-(بحار الأنوار) للشَّيخ المجلسيِّ (بحار الأنوار 94/49، العلامة المجلسي)، «عن ثوبان» – أحد الصَّحابة – قال: «كنَّا محدِّقين بالنَّبيِّ في مقبرة، فوقف» (بحار الأنوار 94/49، العلامة المجلسي) النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومجموعة من أصحابه!
لقد مرَّ الصَّحَّابة بمعيَّة النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بمقبرة، فـ«وقف» النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، «ثمَّ مرَّ، ثمَّ وقف، ثمَّ مرَّ، فقلتُ – أي الرَّاوي -: بأبي أنتَ وأمِّي يا رسول الله، ما وقوفك بين هؤلاء القبور؟
فبكى رسول الله بكاءً شديدًا، وبكينا، فلمَّا فرغ، قال: يا ثوبان، هؤلاء يُعذَّبون في قبورهم، سمعت أنينهم، فرحمتهم، ودعوت الله أنْ يخفِّف عنهم، ففعل، فلو صاموا هؤلاء أيَّام رجب، وقاموا فيها ما عُذِّبوا في قبورهم» (بحار الأنوار 94/49، العلامة المجلسي).
الصِّيام في شهر رجب له مكانة كبيرة، وله ثواب عظيم جدًّا.
«فلو صاموا هؤلاء أيَّامَ رجب، وقاموا فيها ما عُذِّبوا في قبورهم.
فقلت: يا رسول الله، صيامه، وقيامه أمان من عذاب القبر؟
قال – صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -: نعم يا ثوبان، …» (بحار الأنوار 94/49، العلامة المجلسي).
ب- (روضة الواعظين) للفتَّال النِّيسابوري، عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «… ألا فمَن صام من رجب يومًا إيمانا، واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر، وأطفأ صومه في ذلك غضب الله، وأغلق منه بابًا من أبواب النَّار، فلو أعطي مثل الأرض ذهبًا ما كان بأفضل من صومه، …» (روضة الواعظين، الصفحة 397، الفتال النيسابوري).
إذًا هناك بقيَّة من الشَّهر لمَن فاته فضل الصِّيام في هذا الشَّهر، فعليه أنْ يتدارك في بعض أيَّام من شهر رجب.
ج-رواية عن الشَّيخ الصَّدوق (الأمالي، الصَّفحة 66، الشَّيخ الصدوق)، قال الرَّاوي – هو سالم -: «دخلت على الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) في شهر رجب وقد بقيت منه أيَّام، فلمَّا نظر إليَّ قال لي: يا سالم، هل صمت في هذا الشَّهر شيئًا؟
قلت: لا والله يا بن رسول الله.
قال لي: فقد فاتك من الثَّواب ما لم يعلم مبلغه إلَّا الله (عزَّ وجلَّ)!
إنَّ هذا الشَّهر قد فضَّله الله، وعظَّم حرمته، وأوجب للصَّائمين فيه كرامته.
فقلتُ – أي الرَّاوي -: يا بن رسول الله، فإنْ صمتُ ممَّا بقي شيئًا، هل أنال فوزًا ببعض ثواب الصَّائمين فيه؟»
بقيت أيَّام، لو تداركتَ، وصمتَ بعض أيَّام من هذا الشَّهر.
فقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «يا سالم، مَن صام يومًا من آخر هذا الشَّهر» ونحن على مشارف نهاية هذا الشَّهر، «مَن صام يومًا من آخر هذا الشَّهر كان ذلك أمانًا له من شدَّة سَكَرات الموت، وأمانًا له من هول المطلع، وعذاب القبر.
ومَن صام يومين من آخر هذا الشَّهر كان له بذلك جوازًا على الصِّراط.
ومَن صام ثلاثة أيَّام من آخر هذا الشَّهر أَمِن يوم الفزع الأكبر من أهواله، وشدائده وأعطي براءة من النَّار» (الأمالي، الصَّفحة 66، الشَّيخ الصدوق).
قد يسأل إنسان: وإذا كنتُ لا أستطيع الصِّيام؟
هذا فضل الصِّيام ولكنَّني لا أستطيع الصِّيام لمرض، لظرف يمنعني من الصِّيام، فماذا يصنع الإنسان؛ ليحظى بشيئ من ثواب الصِّيام؟
ورد أنَّه مَن لم يقدر على صيام أيَّام رجب «…، يتصدَّق في كلِّ يوم برغيف على المساكين، …» (الأمالي، الصفحة 632، الشَّيخ الصَّدوق).
صدقة على المساكين عن كلِّ يوم الله يعطيه ثواب الصِّيام، إذا كان فعلًا عاجزًا عن الصِّيام.
يتصدَّق بشيئ مِن الطَّعام على الفقراء، على المساكين، فالله يعطيه شيئًا كبيرًا من ثواب الصِّيام.
السُّؤال يتكرَّر: ومَن لم يستطع أنْ يتصدَّق؟، لا يستطيع أنْ يصوم لظرف صحِّيٍّ يمنعه من الصِّيام، لا يملك ما يتصدَّق به على الفقراء، ماذا يصنع حتَّى يحظى بشيئ من ثوابات الصِّيام في هذا الشَّهر؟ ورد أنَّه مَن لم يقدر على أنْ يصوم، ولا أنْ يتصدَّق يُسبِّح في كلِّ يوم مائة مرَّة بتسبيح مذكور في كتب الأدعية، تسبيح قصير، وبهذا التَّسبيح إذا واظب عليه يوميًّا مائة مرَّة، فالله سبحانه يُعطيه ثواب الصَّائمين!
«سبحان الإله الجليل، سبحان مَن لا ينبغي التَّسبيح إلَّا له، سبحان الأعز الأكرم، سبحان مَن لبس العزَّ وهو له أهل» (مصباح المتهجد، الصَّفحة 817، الشيخ الطوسي).
تسبيح ليس بطويل، فإنْ استطعت أنْ تصوم فَصُمْ لك من الثَّواب العظيم الكثير الكثير!
لم تستطع الصِّيام ابذُلْ شيئًا من مالك للفقراء وللمساكين، وإلَّا سبِّح الله تعالى بهذا التَّسبيح، فالله يعطيك من الثَّواب الشَّيئ الكثير.
إذًا أوَّل أعمال شهر رجب، وما يترتَّب عليها الكثير من فيوضات هذا الشَّهر هو الصِّيام، وإلَّا فبدائل الصِّيام.
2-الإكثار من الاستغفار
العمل الثَّاني الوارد استحبابه في شهر رجب الأصب هو الإكثار من الاستغفار.
إنَّ للأشهر فضيلة، مثل: شهر رجب، شهر شعبان، شهر رمضان، فقد ورد التَّأكيد فيها على الإكثار من الاستغفار بأيِّ صِيغ الاستغفار رغم أنَّه قد وردت نصوص خاصَّة بصيغ معيَّنة للاستغفار، وإلَّا فالإنسان يقدر يلهج بالاستغفار: أستغفر الله ربِّي وأتوب إليه في كلِّ حركته، وفي كلِّ مواقعه يستغفر الله تعالى.
الاستغفار في هذا الشَّهر له خصوصيَّة كما في شهر شعبان، وكما في شهر رمضان، فقد ورد:
أ-«…، عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) أنَّه قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): رجب شهر الاستغفار لأمَّتي، …» (النَّوادر، الصَّفحة 17، أحمد بن محمَّد بن عيسى الأشعري القمِّي).
خصوصيَّة هذا الشَّهر العظيم «شهر الاستغفار لأمَّتي»، فأكثروا من الاستغفار.
هذا حديث يُروى عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
فـ«… أكثروا فيه الاستغفار، فإنَّه غفور رحيم» (النَّوادر، الصَّفحة 17، أحمد بن محمَّد بن عيسى الأشعري القمِّي).
«…، وسُمِّى شهر رجب الأصب، لأنَّ الرَّحمة على أمَّتي تصبُّ صبًّا فيه، …»، فـ«…، استكثروا في رجب من قول: أستغفر الله، واسألوا الله الإقالة، والتَّوبة فيما مضى، والعصمة فيما بقي من آجالكم» (النَّوادر، الصَّفحة 17، أحمد بن محمَّد بن عيسى الأشعري القمِّي)
هذه صيغة من صيغ الاستغفار: أستغفرُ الله، وأسأله التَّوبة.
ب- وجاء في كتاب (إقبال الإعمال) لابن طاووس، عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، قال: «مَن قال في رجب: أستغفر الله الَّذي لا إله إلَّا هو، لا شريك له، وأتوب إليه – مائة مرَّة -، وختمها بالصَّدقة ختم الله له بالرَّحمة، والمغفرة ، …» (إقبال الأعمال 3/216، السَّيِّد ابن طاووس).
هنا استغفار، وهنا صدقة على الفقراء، «ختم الله له بالرَّحمة، والمغفرة، …» (إقبال الأعمال 3/216، السَّيِّد ابن طاووس).
ج-وفي الإقبال – أيضًا – جاء في الحديث: «مَن استغفر الله تعالى في رجب وسأله التَّوبة سبعين مرَّة بالغداة، وسبعين مرَّة بالعشيِّ يقول: أستغفر الله، وأتوب إليه، فإذا بلغ تمام سبعين مرَّة رفع يديه، وقال: اللَّهمَّ، اغفر لي، وتُبْ عليَّ، فإنْ مات في رجب مات مرضيًّا عنه، ولا تمسَّه النَّار ببركة رجب» (إقبال الأعمال 3/217، السَّيِّد ابن طاووس).
إذًا، الاستغفار من أفضل الأعمال، والمندوبات في شهر رجب.
وحينما ترد هذه الألوان من الثَّوابات الكبيرة لبعض الأعمال – طبعًا – بشرطها، وشروطها استغفر الله صادقًا.
استغفار ينطلق من القلب.
استغفار ينطلق من الوعي بمعنى الاستغفار.
معنى الاستغفار
الاستغفار ماذا يعني؟
هو لجوء إلى الله سبحانه.
سَيْر إلى الله تعالى.
هروب من الشَّيطان.
هروب من المعصية.
فهل حينما أقول: أستغفر الله وأتوب إليه، هل أنا فعلًا هارب إلى الله (عزَّ وجلَّ)؟
هارب من الشَّيطان؟
هارب من ذنوبي، ومعاصيَ؟
متحلِّل من كلِّ الشَّهوات؟
هذا هو معنى الاستغفار.
هو توبة.
الاستغفار الحقيقيُّ يعني توبة بكلِّ ما للتَّوبة من مقوِّمات، بكلِّ ما للتَّوبة من معاني.
أستغفر يعني أنا تائب يا رب، فهل أنا صادق في توبتي؟
هل أنا صادق في رجوعي إلى الله تعالى؟
إذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ لا يكون الاستغفار بهذه الكلمات البسيطة، فيدخل الإنسان في روضات من الجنان، ويدخل الإنسان في رحمة الله (عزَّ وجلَّ)؟
لِمَ لا؟!، فَكَرَم الله سبحانه واسع، ورحمته واسعة.
فإذًا، الاستغفار هو صناعة الإنسان نفسه صناعةً إيمانيَّة.
صناعة تقوائيَّة.
صناعة صلاح.
صناعة ورع.
هذا هو المدلول الحقيقيُّ لمعنى الاستغفار.
فإذًا، من الأعمال الكبيرة المهمَّة العظيمة في شهر رجب الإكثار من الاستغفار.
3-الإكثار من الصَّلاة على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
من الأعمال التي ورد التَّأكيد عليها – أيضًا – في شهر رجب، في شهر شعبان، في شهر رمضان، هو الإكثار من الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد.
اللَّهمَّ، صلِّ على محمَّد وآل محمَّد هذا ذِكْرٌ من الأذكار، له قيمته، وله دلالاته، وله معناه الكبير، وله فيوضاته الرَّبانيَّة.
التَّأكيد في الرِّوايات الشَّريفة على قِيمة الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد، أَذْكُرُ – هنا – حديثًا واحدًا فقط، فالأحاديث كثيرة ومتواترة عند كلِّ المسلمين، وفي كلِّ مصادر الحديث الشِّيعيَّة والسُّنِّيَّة قد ورد التَّأكيد على الصَّلاة على النَّبيِّ الأطهر، وعلى آله الكرام.
أنا – هنا – أَذْكُر لكم رواية واحدة حتَّى نفهم القيمة الكبيرة للصَّلاة على النَّبيِّ وآله (صلَّى الله عليه وآله).
قال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «إذا ذُكِر النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله)، فأكثروا من الصَّلاة عليه، …» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني) – طبعًا وفق الصِّيغة المُؤكَّد عليها في الرِّوايات، وهي إضافة الآل إلى النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وإلَّا كانت الصَّلاة بتراء، إذا صلَّينا على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) دون أنْ نضيف الأهل، فهي صلاة بتراء -، يقول الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «إذا ذُكِر النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله)، فأَكْثروا من الصَّلاة عليه، فإنَّه مَن صلَّى على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) مرَّة واحدة صلَّى الله عليه ألف صلاة …» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني).
إنَّ الله تعالى يصلِّي عليه.
وصلاة الله على العبد رحمة الله تعالى.
فيض الله تعالى.
كرم الله تعالى.
«…، مَن صلَّى على النَّبيِّ وآله (صلَّى الله عليه وآله) صلاة واحدة صلَّى الله عليه ألف صلاة …». (الكافي 2/492، الشيخ الكليني).
الله تعالى يصلِّي عليه، «… في ألف صفٍّ من الملائكة …» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني).
فيصلِّي عليه الملائكة ألف صفٍّ من الملائكة؟!
وكم هو عدد الصَّف من الملائكة؟، لا يحصيه إلَّا الله تعالى.
ألف صفٍّ من الملائكة يصلُّون عليك أيُّها المصلِّي على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وآله (عليهم السَّلام).
إذًا، «مَن صلَّى على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) صلاة واحدة صلَّى الله عليه ألف صلاة في ألف من الملائكة» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني)، هذا حديث عظيم جدًا، «… ولم يبقَ شيئ ممَّا خلقه الله …» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني)، لا سماء، لا أرض، لا جنَّ، لا إنس، لا أفلاك، كلُّ ما خلق الله يصلُّون على ذلك العبد.
«… ولم يبقَ شيئ ممَّا خلق الله إلَّا صلَّى على العبد لصلاة الله عليه، وصلاة ملائكته، فمَن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني)، فمَن لا يرغب في مثل هذا العطاء، وفي مثل هذا الثَّواب الكبير «… فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه، ورسوله، وأهل بيته» (الكافي 2/492، الشيخ الكليني).
إنَّ الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) إنْ كانت واعية، يجب أنْ نفهم ما معنى الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد!
يجب أنْ أفهم ما دلالات الصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد.
فإنْ كنتُ أملك وعي المعنى الحقيقيِّ للصَّلاة، وكنت صادقًا من قلبي، من مشاعري، من وجداني، أصلِّي على محمَّد، ليس باللِّسان فقط.
عقلي يصلِّي على محمَّد وآل محمَّد.
مشاعري تصلِّي على محمَّد وآل محمَّد.
كلُّ وجداني، كلُّ كياني، كلُّ جارحة من جوارحي تصلِّي على محمَّد وآل محمَّد إنْ كانت واعيةً، وصادقةً.
هي تعبير عن الاعتراف بمقام النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وأهل بيته (عليهم السَّلام).
أصلِّي عليهم، أعترف بما لهم من المقامات الكبيرة.
المقامات الرَّبَّانيَّة الكبيرة للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، ولأهل بيته (عليهم السَّلام).
الصَّلاة إقرار، اعتراف بمثل هذه المقامات الكبيرة عند الله تعالى لنبيِّه (صلَّى الله عليه وآله)، ولأهل بيته (عليهم السَّلام).
الصَّلاة تعبير عن الولاء الصَّادق للنَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، ولأهل بيته (عليهم السَّلام).
أنا حينما أصلِّي على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أنْ أعبر عن ولائي، عن عشقي، عن حبِّي لمحمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وأهل بيته (عليهم السَّلام).
إذًا، الصَّلاة تعبير عن الاعتراف، عن الولاء الصَّادق، عن العشق الصَّادق.
ثمَّ الصَّلاة على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وآله (عليهم السَّلام) تعبير عن التَّمثُّل والانقياد.
أنا أصلِّي على النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أنا أعلن الانقياد لخطِّه (صلَّى الله عليه وآله)، لخطِّ الأئمَّة (عليهم السَّلام).
أعلن الانتماء.
أعلن السَّير في هذا المسار، مسار النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، مسار الأنبياء (عليهم السَّلام)، مسار الأولياء (عليهم السَّلام)، مسار الله (عزَّ وجلَّ).
إذًا، للصَّلاة على محمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وآله (عليهم السَّلام) دلالات كبيرة، ومعان كبيرة، ولذلك ليس جُزافًا يعطى المصلِّي هذا العطاء اللَّامحدود؛ لأنَّ للصَّلاة معنى لا محدودًا، معنًى كبيرًا.
فإذًا، هي تعبير عن الاعتراف بمقام النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وهي تعبير عن الولاء الصَّادق، وهي تعبير عن التَّمثُّل، والانقياد.
4-أداء العُمرة المفردة
طبعًا من خصوصيَّات هذا الشَّهر أنَّه ورد التَّأكيد على العمرة المفردة فيه، وإنْ كان العباد هذه الأيَّام محرومون من العمرة للظُّروف الاستثنائيَّة، وإلَّا فالعمرة في شهر رجب أفضل من العمرة في شهر رمضان المبارك!
لشهر رجب خصوصيَّة، وهي أنَّ العمرة في رجب تلي الحجَّ في الفضل!
فأيُّ مقدار هو فضل الحجِّ، فإنَّ العمرة في رجب تليه، ولها قيمتها!
هذه من أعمال هذا الشَّهر.
أعمال كثيرة لشهر رجب، ويمكن الاطِّلاع عليها في كتب الأدعية.
وتوجد صلوات مستحبَّة.
وتوجد أدعية مندوبة، اقرؤوها في كتب الأعمال، وخاصة تلاوة القرآن الكريم.
لتلاوة القرآن الكريم في هذا الشَّهر فضل كبير كما هي تلاوته في شهر رمضان.
تلاوة القرآن الكريم في هذه الأشهر الثَّلاثة: في رجب، وفي شعبان، وفي قمَّتها شهر رمضان المبارك.
ارتباط بكتاب الله تعالى.
تلاوة كتاب الله (عزَّ وجلَّ).
التَّدبر في كتاب الله تعالى.
ولتلاوة القرآن الكريم في هذا الشَّهر فضل كبير، وقد ورد التَّأكيد على قراءة بعض السُّور هو أنْ نقرأ القرآن الكريم، كلَّ القرآن الكريم.
نعيش مع القرآن الكريم في هذا الشَّهر الفضيل.
نعيش مع إشراقات القرآن الكريم، وفيوضات القرآن الكريم، فقد ورد التَّأكيد على قراءة بعض السُّور كسورة التَّوحيد مثلًا، جاء في الحديث المروي عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «إنَّ مَن قرأ في يوم الجمعة من رجب ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص: الآية 1) مائة مرَّة كان له نورًا يوم القيامة يسعى إلى الجنة …» (إقبال الأعمال 3/200، السَّيِّد ابن طاووس).
خصوصيَّات هذا الشَّهر، وخصوصيَّات يوم الجمعة، وخصوصيَّات سورة التَّوحيد، أكثرو من قراءة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص: الآية 1) خاصَّة في يوم الجمعة.
وكلُّ أعمال البِرِّ والخير في شهر رجب يتضاعف أجرها وثوابها.
والصَّدقات لها مقام، ولها ثواب عظيم.
وزيارة الإخوان.
وقضاء الحوائج.
ودعم مشاريع الخير.
والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
ومحاسبة النَّفس.
وتحسين الأخلاق.
وكفالة الأيتام.
وكلُّ الأعمال الصَّالحة، فلنستكثر من هذه الأعمال في شهرٍ تتضاعف فيه الحسنات، ويكبر الأجر والثَّواب، فالتِّجارة مع الله تعالى في شهر رجب رابحة كلُّ الرِّبح.
5-المناسبات الدِّينيَّة
وآخر خصوصيَّات هذا الشَّهر أنَّه شهر المناسبات الدِّينية.
هذا الشهر غنيٌّ بمناسبات دينيَّة كبرى.
أ-المبعث النَّبويُّ الشَّريف
فيه المبعث النَّبوي، أعظم مناسبة في تاريخ الدُّنيا، حيث بُعث سيِّد الأنبياء، وخاتم الرُّسل (صلَّى الله عليه وآله).
ب- الإسراء، والمعراج
ج-
وفيه الإسراء والمعراج على رواية الإخوة السُّنَّة، لأنَّ السَّابع والعشرين من رجب هو يوم المبعث وفق الرِّواية الشِّيعيَّة، والسَّابع والعشرون من رجب هو يوم الإسراء والمعراج وفق الرِّواية السُّنِّيَّة.
هاتان المناسبتان سنتناول الحديث عنهما إنْ شاء الله في ليلة المبعث.
المبعث النَّبويُّ، والإسراء والمعراج، من المناسبات البارزة الكبيرة في هذا الشَّهر.
د-ولادة سيِّد الوصيِّين أمير المؤمنين (عليه السَّلام)
وفي هذا الشَّهر ولد سيِّد الوصيِّين، أمير المؤمنين (عليه السَّلام) في جوف الكعبة المشرَّفة، وقد مرَّت هذه المناسبة.
وفيه مناسبات أخرى كثيرة لها قيمتها، ولها أهمِّيتها.
وهكذا أيُّها الأحبَّة يمثِّل هذا الشَّهر واحدًا من أهم المحطَّات التي تعبِّئ الأجيال عقائديًّا، وثقافيًّا، وروحيًّا، وأخلاقيًّا، وسلوكيًّا، وجهاديًّا.
عندنا محطَّات سنويَّة إلى جانب المحطَّات اليوميَّة، والمحطَّات الأسبوعيَّة، والمحطَّات الشَّهريَّة.
هناك محطَّات سنويَّة تعبِّئنا روحيًّا، تعبِّئنا إيمانيًّا، تعبِّئنا ثقافيًّا، تعبِّئنا أخلاقيًّا، تعبِّئنا تقوائيًّا، تعبِّئنا رساليًّا وجهاديًّا.
من هذه الأشهر التي تشكِّل محطَّة سنويَّة للتَّعبئة بكلِّ ما تعني التَّعبئة من معاني كبيرة، هو شهر رجب، فلنتعبَّأ في هذا الشَّهر بما نستطيع من تعبئة روحيَّة، وإيمانيَّة، وثقافيَّة.
جزاكم الله خيرًا.
والسَّلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.