حديث الجمعة 568: موسم الزَّهراء (عليها السَّلام) نماذج للمرأةِ تحدَّث عنها القرآن الكريم (2)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد الله ربِّ العالمين، وأفضل الصَّلوات على سيِّد الأنبياء محمَّد وآله الهُداة.
وبعد:
نماذج للمرأةِ تحدَّث عنها القرآن الكريم (2)
يتبع النَّموذج الأوَّل: حوَّاء أمُّ البشر
في قوله تعالى في: (سورة البقرة: الآية 35): ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ (سورة البقرة: الآية 35).
الأقوال في جنَّة آدم وحواء (عليهما السَّلام)
تقدَّمت الأقوال في جنَّة آدم وحواء (عليهما السَّلام)، فـ:
قول إنَّها جنَّة من جنان الأرض.
وقول آخر: إنَّها من جنان السَّماء.
وقول ثالث: إنَّها جنَّة الخلد.
وأيًّا تكون هذه الجنَّة، فقد يسكنها آدم وحواء (عليهما السَّلام) بأمر الله سبحانه: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ …﴾ (سورة البقرة: الآية 35)، وأباح الله سبحانه لهما أنْ يأكلا مِن كلِّ أشجارها، ﴿… وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا …﴾ (سورة البقرة: الآية 35)؛ ليعيشا عيشًا هنيئًا طيِّبًا.
فقط شجرة واحدة نُهِيَا أنْ يأكلا منها، ﴿… وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ. ..﴾ (سورة البقرة: الآية 35)، هو كناية عن عدم الأكل منها.
هنا سؤال يُطرح: ما هذه الشَّجرة الممنوعة؟
برز لدى المفسِّرين اتِّجاهان:
الاتِّجاه الأوَّل: إنَّ الشَّجرة الممنوعة شجرة مادِّيَّة
واختلفوا في تحديد نوع هذه الشَّجرة، فـ:
قال بعضهم هي (السُّنبلة).
وقال بعض آخر هي (الكرومة).
وقال فريق ثالث هي (الكافور).
وقال فريق رابع هي (التِّينة).
وقال فريق خامس، وسادس، وهكذا تعدَّدت الأقوال، وربما كان هذا التَّعدد هو نتيجة تعدُّد الرِّوايات، إلَّا أنَّه لا ثمرة كبيرة في هذا الجدل خاصَّة وأنَّ القرآن الكريم جعلها مُبهمة ﴿… وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ. ..﴾ (سورة البقرة: الآية 35).
الاتِّجاه الثَّاني: إنَّ الشَّجرة الممنوعة ليست شجرة مادِّية، وإنَّما هي شجرة لها مدلول معنويٌّ
فالمراد منها شجرة العلم، علم الخير والشَّر!
وفي بعض الرِّوايات هي شجرة الحسد!
ويحاول أصحاب هذا الاتِّجاه أن يربطوا بين (الأكل من الشَّجرة)، و(ظهور السَّوأة، أي العورة).
•﴿… فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 22).
آدم (عليه السَّلام) ذو وعي شامل
يذكر الشَّيخ ناصر مكارم في تفسيره (الأمثل 1/169): الأسطورة التَّوراتيَّة الَّتي تحدَّثت عن قصَّة آدم وأَكْلِه من الشَّجرة الممنوعة نقرأ هذين المقطعين كما جاء في التَّوراة:
المقطع الأوَّل: ‹وأخذ الرَّب الإله آدم، ووضعه في جنَّة عدن؛ ليعلمها، ويحفظها، وأوصى الرَّبُّ الإله آدم قائلًا من جميع شجر الجنَّة تأكل أكلًا، وأمَّا شجرة معرفة الخير والشَّرِّ، فلا تأكل منها، لأنَّك يوم تأكل منها موتًا تموت›!
المقطع الثَّاني: ‹وسمعا صوت الرَّبِّ الإله ماشيًا في الجنَّة عند هبوب ريح النَّهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرَّبِّ الإله في وسط شجر الجنَّة، فنادى الرَّبُّ آدم، وقال له: أين أنت؟
فقال: سمعت صوتك في الجنَّة، فخشيت، لأنِّي عريان، فاختبأت.
فقال: مَن أعلمك أنك عريان؟، هل أكلتَ من الشَّجرة التي أوصيتك أنْ لا تأكل منها؟
فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشَّجرة، فأكلتُ›!
يُلاحظ على هذا الكلام التَّوراتي:
أوَّلًا: إنَّه يتَّهم آدمَ وحواءَ (عليهما السَّلام) بالجهل والغَباء!، حتَّى أنَّهما كانا عاريين بالكامل!، ولا يدركان قبح العري، ولما ذاقا من الشَّجرة الممنوعة شجرة العلم والمعرفة، استيقظ الوعي لديهما، فانتبها إلى عِريهما، وعرفا قبح ذلك، وأخذا يتستَّران بورق الجنَّة في حين أنَّه آدم – حسبما جاء في القرآن الكريم – يملك درجة عالية من المعرفة تفوق حتَّى معرفة الملائكة، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا …﴾ (سورة البقرة: الآية 31) ممَّا يجعل وَعْيه شاملًا لكلِّ الأشياء، ولكلِّ ما تحتاجه أوضاع الحياة وضروراتها، فما كان غبيًّا وساذجًا لا يدرك حتَّى قبح التَّعرِّي!
ثانيًا: إنَّ هذا الكلام التَّوراتيَّ يتَّهم الله سبحانه وتعالى بالكَذِب، حيث يقول آدم: ‹وأمَّا شجرة معرفة الخير والشَّر، فلا تأكل منها، لأنَّك يوم تأكل منها موتًا تموت›، فهل مات آدم (عليه السَّلام) حينما أكل من تلك الشَّجرة؟!
ثالثًا: إنَّ هذا الكلام التَّوراتيَّ يجسِّم الله تعالى ‹وسمعا صوت الرَّبِّ ماشيًا في الجنَّة عند هبوب ريح النَّهار›!
رابعًا: إنَّ هذا الكلام التَّوراتيَّ ينسب الجهل إلى الله تعالى بحيث إنَّ آدم اختبأ هو وزوجته في وسط شجرة الجنَّة حتَّى لا يراهما الله سبحانه ‹فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرَّبِّ الإله في وسط شجر الجنَّة› الأمر الذي جعل الرَّبَّ يسأل عن مكانها ‹فنادى الرَّبُّ الإلهُ آدمَ، وقال له: أين أنت›؟
حتَّى أنَّ آدم (عليه السَّلام) كان جاهلًا بأنَّ الله مطَّلع عليه، ولذلك أجاب حين سأله الرَّبُّ: ‹أين أنت› بقوله: ‹سمعت صوتك في الجنَّة، فخشيت، لأنِّي عريان، فاختبأت›!
هذه بعض أوهام التَّوراة المحرَّفة حول قصَّة آدم (عليه السَّلام)، وأَكْله من الشَّجرة الممنوعة.
أمَّا ما تقوله مصادرنا الحديثيَّة:
إنَّ آدم وحواء (عليهما السَّلام) ما كانا عارِيَيْن في الجنَّة، بل كانا مستورين بلباس لم يتحدَّث عنه القرآن الكريم، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا …﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
﴿وُورِيَ﴾: غطَّى، وستر.
﴿سَوْءَاتِهِمَا﴾: المراد العورة، حيث يسوء ظهورها، ومتى تساقط عنهما هذا السِّتر، وبدت عورتهما؟
حينما أَكَلا من الشَّجرة الممنوعة!
﴿… فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا …﴾ (سورة الأعراف: الآية 22).
وكانَا عَالِمَينِ بقبح التَّعرِّي، ولم يكونا سَاذَجين وغبيِّين كما تقول التَّوراة، ولذا ما أنْ وجدا أنفسهما عاريَين، مكشوفَي العورة بَادَرَا إلى التَّستُّر بورق الجنة، ﴿… وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 22).
﴿وَطَفِقَا﴾: أخذا، أو شَرَعَا.
﴿يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا﴾: يلصقان ورقة على ورقة، فقبل الأكل مِن تلك الشَّجرة كان آدم وحواء (عليهما السَّلام) يرتديان لباس الجنَّة، لباس الكرامة الإلهيَّة لهما، ولمَّا أَكَلا من الشَّجرة خُلع عنهما هذا اللِّباس، وهذا ما دفع بعض المفسِّرين إلى القول بأنَّ هذا اللِّباس هو ليس لباسًا مادِّيًّا، بل هو لباس معنويٌّ كما في قوله تعالى: ﴿… وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 26)، هذا اللِّباس المعنويُّ خُلع عنهما لمَّا أكلا من تلك الشَّجرة، وإنْ كان يظهر من قوله تعالى: ﴿… وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 22).
إنَّ القرآن الكريم يتحدَّث عن (لباس مادِّي)، ولا مانع من أنْ يكون هذا اللِّباس المادِّيُّ يمثِّل مضمونًا معنويًّا، وروحيًّا كونه يعبر عن طاعة الله تعالى، والالتزام بأوامره، ولهذا أراد الله سبحانه أنْ يضع آدم وحواء (عليهما السَّلام) أمام موقف صادم يحسِّسهما بخطورة المخالفة التي صدرت منهما حينما أَكَلا من الشَّجرة الممنوعة، هذا الموقف الصَّادم هو أنْ يتساقط عنهما اللِّباس الذي كان يستر العورة، ولتنكشف تلك العورة ممَّا شكَّل لهما صدمة قويَّة دفعتهما إلى المبادرة بالتَّستُّر مستخدمين ورق الجنَّة؛ لكي لا يبقيا في حالة عُري، وهي حالة مستقبحة!
سؤالان صعبان!
والسُّؤال الصَّعب: كيف سقط آدم (عليه السَّلام) في وسوسة الشَّيطان، وخالف أمر الله تعالى وهو نبيٌّ من أنبياء الله سبحانه؟
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
هل دخل الشَّيطان إلى الجنَّة ومارس دور الوسوسة لآدم وحواء (عليهما السَّلام) وهو مطرود منها؟!
هل التقى آدم وحواء (عليهما السَّلام) عند باب الجنَّة، ولم يدخلها؟
هل تقمَّص لباس (حيَّة)، ودخل الجنَّة؟
هل كان يملك قدرة التَّأثير على آدم وحواء (عليهما السَّلام) من بُعد، فمارس دور الوسوسة، والإغراء؟
هذا الجدل لا أجد له قيمة كبيرة، فالقرآن الكريم لا يذكر هذه التَّفاصيل!
القرآن الكريم يؤكِّد أنَّ الشَّيطان مارس دور الوسوسة لآدم وحواء (عليهما السَّلام) ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
لماذا وسوس لهما؟
﴿… لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا …﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
ما مضمون هذه الوسوسة؟
﴿… وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
أثار إبليس في داخل آدم وحواء (عليهما السَّلام) طموحين:
الطُّموح الأوَّل: طموح المُلك، والسيطرة ﴿… إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ …﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
الطُّموح الثَّاني: طموح الخلود والبقاء ﴿… أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية 20).
فالشَّجرة الممنوعة حسب إيحاءات إبليس تحمل ثمرُها سرَّ الخلود، والبقاء، والملك!
هذا الشَّوق واللَّهفة أوقع آدم وحواء (عليهما السَّلام) في الغَفلة عن مواقع أمر الله تعالى ونهيه،
واستخدم إبليس (أسلوب القَسَم بالله)، مما جعل آدم وحواء (عليهما السَّلام) يصدِّقانه.
﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ (سورة الأعراف: الآية 21).
حلف لهما إنَّه يقدِّم النَّصيحة لهما صادقًا، ولا مصلحة له في ذلك، بل هي مصلحتهما أوَّلًا وأخيرًا!
وما كانا يتصوَّران إطلاقا أنَّ هناك مخلوقًا يحلف بالله ويكذب!، ويؤكِّد النَّصيحة ويخون، ويغشُّ خاصَّة وأنَّه ليس لديهم أيَّة تجربة سابقة، وهكذا صدَّقاه إذا أخذنا برواية أنَّ إبليس تقمَّص الحيَّة، فكان آدم (عليه السَّلام) يظنُّ أنَّ الحيَّة هي التي تخاطبه، ولم يعلم أنَّ إبليس قد اختبأ بين لحييها!
وفي بعض الرِّوايات أنَّ آدم (عليه السَّلام) ردَّ على الحيَّة قائلًا: ‹أيَّتها الحيَّة، هذا من غرور إبليس، كيف أروم التَّوصُّل إلى ما منعني ربِّي، وأتعاطاه بغير حكمه، فلمَّا آيس إبليس من قَبول آدم عاد ثانية بين لحيي الحيَّة، فخاطب حواء من حيث يوهمها أنَّ الحيَّة هي التي تخاطبها، وقال: أرأيتِ هذه الشَّجرة التي كان الله حرَّمها عليكما قد أحلَّها لكما بعد تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له، فانخدعت حواء، فتناولت من الشَّجرة، وحدَّثت آدم وتناول من الشجرة›!
سواء أصحّ هذا الكلام أم لم يصحّ، فإنَّ إبليس استطاع أنْ يوسوس لآدم وحواء (عليهما السَّلام) مستخدما لغة القَسَم بالله سبحانه، فانخدعا، وَأَكَلا من الشَّجرة الممنوعة!
وهنا سؤال صعب – آخر – يطرح: كيف جاز لآدم (عليه السَّلام) وهو نبيٌّ معصوم أنْ يعصي أوامر الله تعالى؟، ﴿… وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (سورة طه: الآية 121).
هذا ماسنتناوله في الأسبوع القادم إن شاء الله
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.