حديث الجمعة 567: موسم الزَّهراء (عليها السَّلام) نماذج للمرأةِ تحدَّث عنها القرآن الكريم (1)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
موسم الصِّدِّيقة (عليها السَّلام)
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين، وبعد:
فلا زلنا نعيش (موسم الصِّديقة الزَّهراء عليها السَّلام)، وانطلاقًا من هذا الموسم أحاول في هذه الكلمة أنْ أتناول:
نماذج للمرأةِ تحدَّث عنها القرآن الكريم
النَّموذج الأوَّل: حوَّاء أمُّ البشر
لم يرد في القرآن الكريم اسم (حوَّاء)
نعم القرآن الكريم تحدَّث عنها في عدَّة مواضع دون أنْ يُسمِّيها!
وأمَّا الأخبار، فسمَّتها (حوَّاء).
•نقرأ في (سورة النِّساء: الآية 1) قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء …﴾.
•ونقرأ في (سورة الأعراف: الآية 189) قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا …﴾.
•ونقرأ في (سورة البقرة: الآية 35): ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ …﴾.
ما معنى: ﴿… خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا …﴾، أو ﴿… جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا …﴾؟
تسريب: الخَلْق من ضلع أعوج!
هنا تسرَّبت إلى كتب التَّفسير بعض روايات تقول: “أنَّ حوَّاء خُلقت من أضلاع آدم”،
بل من أضلاعه اليسرى!
أي أنَّها خُلقت من أضلاع عوجاء!
واحتجوا بقولٍ نسبوه إلى النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): “أنَّ المرأة خلقت من ضلع، فإنَّ ذهبتَ تقيمُها كسرتها، وإنْ تركتها وفيها عوج استمتعت بها”!
هذا كلام مرفوض حسبما ورد عن أهل البيت (عليهم السَّلام).
•ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السَّلام) – وقد سئل -: مِن أيِّ شيئ خلق الله حواء؟
فقال (عليه السَّلام): أيُّ شيئ يقولون هذا الخلق؟
فقال السَّائل: يقولون: إنَّ الله خَلَقها من ضلع من أضلاع آدم.
فقال (عليه السَّلام): “كذبوا، أكان الله يعجزه أنْ يخلقها من غير ضلعه”؟
فقال السَّائل: جعلتُ فداك، من أيِّ شيئ خَلَقَها؟
فقال (عليه السَّلام): “أخبرني أبي، عن آبائِهِ، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): إنَّ الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين، فخلطها بيمينه، وكلتا يديه يمين، فخلق منها آدم، وفضلت فضلة من الطِّين، فخلق منها حوَّاء”.
انتهى الحديث.
إذًا، حينما يعبِّر القرآن الكريم بقوله: ﴿… وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا…﴾ (سورة الأعراف: الآية 189)، فالمقصود: من نفس العنصر الأصليِّ الذي خلق منه آدم (عليه السَّلام).
وهذا ما نفهمه كذلك من قوله تعالى:
•﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا …﴾ (سورة الرُّوم: الآية 21).
أي: من نوعكم، وعنصركم، وليس المقصود من أجسادكم، وأعضائكم.
التَّزاوج بين أبناء آدم وحوَّاء!
وهنا مسألة شكَّلت جدلًا كبيرًا بين العلماء، هذه المسألة هي:
كيف تمَّ التَّزاوج بين أبناءِ آدمَ وحَوَّاء (عليهما السَّلام)؟
نقرأ في كتب التَّفسير مجموعة آراء:
الرَّأي الأوَّل: “إنَّ بداية التَّناسل في الطَّبقة الثَّانية كانت من (حوريَّة)، أو (جنِّيَّة) تزوَّج إحداهما بعض أولاد آدم، وتزوَّج الأخرى بعضٌ آخر”!
واستشهد أصحابُ هذا الرَّأي ببعض روايات.
وناقش السَّيِّد الطَّباطبائيُّ في تفسير الميزان هذا الرَّأي بقوله: “وظاهر الآية [يعني قوله تعالى: ﴿… وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء …﴾ (سورة النِّساء: الآية 1)] أنَّ النَّسل الموجود من الإنسانِ ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أنْ يشاركها فيه غيرهما، حيث قال: ﴿… وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء …﴾ (سورة النِّساء: الآية 1)، ولم يقل: (منهما، ومن غيرها)”.
الرَّأي الثَّاني: إنَّ أبناء آدم تزوَّجوا بمَن تبقَّى من البشر الذين سبقوا آدم ونسلَه، لأنَّ آدم حسب بعض الرِّوايات لم يكن أوَّل إنسان سكن الأرض.
•روي عن الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) أنَّه قال: “لعلَّك ترى أنَّ الله لم يخلق بشرًا غيركم؟ بلى والله، لقد خلق ألف ألف آدم، أنتم في آخر أولئك الآدميِّين”.
وحتَّى لو سلَّمنا بصحَّة هذه الرِّوايات، وبصحة هذه النَّظريَّة القائلة بوجود بشر قبل (آدمنا)، فلا نملك دليلًا على أنَّ (أبناء آدمنا قد تزوَّجوا ببقايا النَّوع البشريِّ السَّابق الذي في أواخر انقراضه).
ثم إنَّ ظاهر قوله تعالى: ﴿… وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء﴾ (سورة النِّساء: الآية 1) أنَّ الامتداد البشريَّ الحالي ينتمي (آدم وحوَّاء) اللَّذَيْنِ ذَكَرهما القرآن الكريم، ولا ينتمي إليهما، وإلى بقايا الإنسان القديم.
الرَّأي الثَّالث: إنَّ الله سبحانه قد أحلَّ للطَّبقة الأولى من أولاد آدم أنْ يتزوَّجوا من بعضهم البعض، وذلك من أجل الانطلاق بعملية التَّناسل.
هذا الرَّأي يذهب إليه عدد كبير من المفسِّرين.
ومن المتأخِّرين أذكر:
السَّيِّد الطَّباطبائي، صاحب تفسير الميزان.
الشَّيخ ناصر مكارم الشِّيرازي، صاحب تفسير الأمثل.
السَّيِّد محمَّد حسين فضل الله، صاحب تفسير من وحي القرآن.
يقول السَّيِّد الطَّباطبائيُّ في تفسيره: “ومن المعلوم أنَّ انحصار مبدأ النَّسل في آدم وزوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما، …، وأمَّا الحكم بحرمته في الإسلام، وكذا في الشَّرائع السَّابقة عليه على ما يحكى، فإنَّما هو حكم تشريعيٌّ يتَّبع المصالح والمفاسد لا تكوينيٌّ غير قابل للتَّغيير، وزمامه بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فمن الجائز أنْ يبيحه يومًا لاستدعاء الضَّرورة ذلك، ثمَّ يحرِّمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة، واستيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع، …”.
ويقول الشَّيخ ناصر مكارم في تفسيره: “إنَّ النَّسل البشريَّ الموجود إنَّما ينتهي إلى آدم وزوجته من غير أنْ يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو أنثى.
وهذا يستلزم أنْ يكون أبناء آدم (أخوة وأخوات) قد تزاوجوا فيما بينهم، لأنَّه إذا تمَّ تكثير النَّسل البشريِّ عن طريق تزوُّجهم بغيرهم لم يصدق، ولم يصح قوله: ﴿مِنْهُمَا﴾.
وقد ورد هذا الموضوع في أحاديث متعدِّدة أيضًا، ولا داعي للتَّعجُّب، والاستغراب إذ طبقًا للاستدلال الذي جاء في طائفةٍ من الأحاديث المنقولة عن أهل البيت (عليهم السَّلام): إنَّ هذا النَّوع من الزَّواج كان مباحًا حيث لم يرد بعد حكم بحرمة تزوُّج الأخ بأخته، ومن البديهي أنَّ حرمة شيئ تتوقَّف على تحريم الله سبحانه له، فما الَّذي يمنع من أنْ توجب الضَّرورات المُلحَّة والمصالح المعيَّنة أنْ يبيح شيئًا في زمانٍ، ويحرِّمه بعد ذلك في زمن آخر”.
ويقول السَّيِّد محمَّد حسين فضل الله في تفسيره: “وفي هذا الجوِّ لا نجد هناك مانعًا من أنْ يكون الله سبحانه قد أحل للطَّبقة الأولى من أولاد آدم أنْ يتزوَّجُوا من بعضهم البعض، وذلك من أجل الانطلاق بعمليَّة التَّناسل في نطاقها الطَّبيعيِّ بعيدًا عن أيَّة مفسدة في ذلك، لأنَّ النِّظام الأسريَّ الذي يفرض بعض الحواجز النَّفسيَّة في قضيَّة تزاوج الإخوة والأخوات لم يكن قد انطلق بعد في حركة الحياة العامَّة، لأنَّ المجتمع الذي يعتبر هذا النِّظام جزءًا من حركته لم يكن قد ولد بعد، ثمَّ جاء التَّحريم بعد ذلك، لأنَّ المصلحة الدَّاعية إلى التَّشريع قد انتهت عند هذا الحدِّ، وأصبحت القصَّة تتحرَّك في أجواء المفسدة الملزمة التي تفرض التَّشريع المضاد للحكم بالحِلِّيَّة”.
وقد اعتمد أصحاب هذا الرَّأي (الثَّالث) على بعض روايات.
روى السَّيِّد الطَّباطبائيُّ في (الميزان) عن الإمام عليّ بن الحسين [عليه السَّلام] في حديث له مع قرشيٍّ، يصف فيه تزويج هابيل بلوزا أخت قابيل، وتزويج قابيل بافليما أخت هابيل، فقال له القرشيُّ: فأولداهما؟
قال (عليه السلام): “نعم”.
فقال له القرشيُّ: فهذا فعل المجوس اليوم!
قال (عليه السَّلام): “إنَّ المجوس فعلوا ذلك بعد التَّحريم من الله … – ثمَّ قال (عليه السَّلام) له -: لا تنكر هذا إنَّما هي شرائع جرت، …، فكان ذلك شريعة من شرائعهم، ثمَّ أنزل الله التَّحريم بعد ذلك”.
جنَّة آدم وحوَّاء (عليهما السَّلام)
بدأ آدم وحوَّاء حياتهما في الجنَّة.
•﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا …﴾ (سورة البقرة: الآية 35).
وقد تعدَّدت أقوال المفسِّرين حول (جنَّة آدمَ وحوَّاء)، فبرزت مجموعة أقوال:
القول الأوَّل: إنَّها جنَّةٌ من جنانِ الدُّنيا في الأرض.
واستند أصحابُ هذا القول على عدَّة أدلَّة:
(1) الجنَّة الموعودة في الآخرة نعيمها دائم، فلا يمكن الخروج منها، وهذه الجنَّة التي سكنها آدم وحوَّاء قد تمَّ الخروج منها.
(2) جنَّة الآخرة لا سبيل لإبليس اللَّعين أنْ يدخلها، وهذه الجنَّة التي سكنها آدم وحوَّاء قد دخلها إبليس اللَّعين.
(3) إنَّ جنَّة الآخرة هي نهاية المسيرة، وهذه الجنَّة التي سكنها آدم وحوَّاء هي في بداية مسيرة الإنسان.
(4) وردت روايات عن أهل البيت (عليهم السَّلام) تصرح بأنَّ جنَّة آدم وحوَّاء من جنان الدُّنيا.
•سُئل الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) عن جنَّة آدم، فقال: “كانت مِن جِنان الدُّنيا تطلع فيها الشَّمس والقمر، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدًا”.
وإذا صحَّت هذه الرِّواية، فهي تحسم هذا الجدل.
القول الثَّاني: إنَّها جنَّة من جنان السَّماء غير جنَّة الخلد.
ويقول بعض المفسِّرين:
“من المحتمل أيضًا أنْ تكون هذه الجنَّة غير الخالدة في إحدى الكواكب السَّماويَّة، وفي بعض الرِّوايات الإسلاميَّة إشارة إلى هذه الجنَّة في السَّماء، …”.
وحاول أصحاب هذا القول أنْ يدعموا قولهم بما جاء في قوله تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا …﴾ (سورة البقرة: الآية 38)، وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا …﴾ (سورة طه: الآية 123)، فالهبوط هو النُّزول من مكان مرتفع.
إلَّا أنَّ هذا الأمر مناقش، فالهبوط لا يعني دائمًا النُّزول من مكان عالٍ!
قال تعالى: ﴿… اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ …﴾ (سورة البقرة: الآية 61).
اهبطوا: ادخلوا.
مِصْرًا، قيل: مصر فرعون.
وقيل: بيت المقدس.
وقيل: مِصْر من الأمصار.
نعم، هناك عدَّة روايات منقولة عن أهل البيت (عليهم السَّلام) – كما ذَكَر صاحب الميزان – تدلُّ على أنَّ الجنَّة كانت في السَّماء، وأنَّ آدم وحوَّاء نَزَلا من السَّماء.
القول الثَّالث: إنَّها جنّة الخلد، وليست جنَّةً في السَّماء، ولا جنَّة من جنان الأرض.
•فالإطلاق في قوله تعالى: ﴿… اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ …﴾ (سورة البقرة: الآية 35) ينصرف إلى جنَّة الخلد.
أمَّا أنَّ جنَّة الخلد لا يمكن الخروج منها، فهذا شأن مَنْ يدخل الجنَّة بعد انقضاء مدَّة العمل في الدُّنيا، وبعد البعث والنُّشور، والحساب في الآخرة.
أمَّا آدم (عليه السَّلام)، فأدخله الله الجنَّة لا ليبقى فيها، وإنَّما هي مرحلة من مراحل الإعداد؛ لينتقل بعدها إلى الأرض، ليكون خليفة الله، وفي هذه التَّجربة تحذير للإنسان من فتنة الشَّيطان الذي يريد أنْ يبعد بني آدم عن الجنَّة كما أبعد أبويهم عنها.
والخلاصة: إنَّ المعتمد هو الرِّوايات، فما صحَّ منها هو الحجَّة والمرجع، ولا مجال إلَّا أنَّ نتعبَّد بها.
عود على بدْء
نعود إلى (الآية 35 من سورة البقرة): ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ (سورة البقرة: الآية 35).
هنا مجموعة تساؤلات:
•ماذا كانت الشَّجرة الممنوعة؟
•هل ارتكب آدم وحوَّاء عملًا محرَّما بأكلهما من الشَّجرة؟
•كيف استطاع إبليس اللَّعين أنْ يقنع آدم وحوَّاء بالأكل من تلك الشَّجرة المحرَّمة.
•كيف هبط آدم وحوَّاء إلى الأرض؟
هذه تساؤلات نجيب عنها في كلمة قادمة إنْ شاء الله تعالى.
وآخر دعونا أنْ الحمد لله رب العالمين.