حديث الجمعة 561: قصص القرآن منهج تربية وبناء (3)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
وبعد:
قصص القرآن منهج تربية وبناء (3)
فلا زلنا مع هذا النصِّ القرآني وهو قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا …﴾ (الأعراف/ الآية 101)
وقصص القرآن كما تقدَّم القولُ ليس للتَّرف التَّاريخي، أو للتَّرف الثَّقافي، وإنَّما هي عِبرٌ ودروس ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ …﴾ (يوسف/ الآية 111)
نقف الليلة مع واحدة من قصص القرآن (الأعراف/ الآية 163):
•قوله تعالى: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ …﴾.
الخطاب هنا إلى النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ يسأل بني إسرائيل المعاصرين له.
لماذا يسألُهُمْ؟ وماذا يسألُهُم؟
أولًا: لماذا يسألُهُمْ؟
يَسألُهُم ليذكِّرهم بعاقبة التمرُّد على أوامر الله، ولعلَّ ضمائرهم تستيقظ، ولعلَّ عقولهُم تتحرَّك، ومعروف أنَّ اليهود في المدينة كانوا يحيكون المؤامرات ضدَّ النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وضدَّ الدَّعوة الإسلاميَّة.
ثانيًا: وماذا يسألُهُمْ؟
يسألهم عن واحدةٍ من قضاياهم التَّاريخيَّة.
وأيّ قضيَّة هذه؟
•﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ …﴾.
إنَّها قضيَّة قريةٍ من قرى بني إسرائيل كانت تقع على ساحل البحر.
أيّ بحر هذا؟
القرآن لم يحدِّد هذا البحر.
المفسِّرون تعدَّدتْ كلماتُهم، ولا أهمِّية كبيرة في هذا الجدل، ويستظهر صاحب تفسير الأمثل أنَّه البحر الأحمر.
ما قصَّة هذه القرية؟
كان أهلها يمتهنون (صيد الأسماك) كونهم يعيشون على ساحل البحر.
فأراد الله تعالى أنْ يكشف بعضَ تمرُّداتهم على أوامر الله، فصدر لهم الأمر الإلهي بأنْ يمتنعوا على صيد الأسماك في يوم السَّبت – في يوم السَّبت فقط – وما عدا هذا اليوم من بقيَّة أيام الأسبوع فمباحٌ لهم (الاصطياد).
وقد شاءت إرادةُ اللهِ تعالى أنْ لا تظهر الأسماكُ إلَّا في يوم السَّبت فقط.
كانت الأسماك تظهر بكثافة في هذا اليوم وأمَّا في بقيَّة الأيام فتختفي تمامًا.
﴿… إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ …﴾ (الأعراف/ الآية 163)
﴿شُرَّعًا﴾: أي ظاهرة على وجه الماء.
﴿وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾: يعني في غير يوم السَّبت حيث يكونُ الصَّيد مباحًا لا تأتي الأسماك.
وهذا امتحانٌ من اللهِ تعالى من أجل أنْ يكشف (تمرُّدهم على أوامر الله).
•﴿… كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف/ الآية 163)
﴿نَبْلُوهُم﴾: أي نختبرهم بهذا التَّكليف الصَّعب عقوبة لهُمْ، ومن أجلِ أنْ يُظهر اللهُ حالَهُمْ، ويكشف للأجيال فسقَهم وتمرُّدَهم على أوامر الله تعالى.
كيف تعامل أصحابُ القريةِ مع هذا الامتحان؟
انقسموا إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى:
وهذه المجموعة تُشكِّل الأكثريَّة.
ماذا كان موقف هذا المجموعة؟
كان موقفها (التمرُّد والعصيان ومخالفة الأمر الإلهي)
وكيف تمرَّدَت هذه المجموعة على الأمر الإلهي؟
هناك صيغتان لهذا التمرُّد:
الصِّيغة الأولى: التحدِّي المباشر للأمر الإلهي.
فكانوا يصطادون الأسماك في يوم السَّبت بشكلٍ مباشر من دون مبالاةٍ بالنَّهي الإلهي، ومن دون اللُّجوء إلى أيَّة حيلةٍ.
الصِّيغة الثَّانية: اعتماد أسلوب الاحتيال على الحكم الشَّرعي.
فماذا صنعوا؟
هناك عدَّة أقوال:
القول الأول:
إنَّهم صنعوا أحواضًا، أو حفروا أخاديد إلى جانب البحر، وجعلوا لها مساربَ تتصل بالماء تنفذ الأسماك منها إلى الأحواض أو الأخاديد في يوم السَّبت، ولا تستطيع الخروج، ثمَّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدِها وأخذِها من الأحواضِ أو الأخاديد، ويقولون: إنَّنا اصطدنا الأسماك في يوم الأحد لا في يوم السَّبت.
القول الثَّاني:
أنَّهم أقاموا (حظائر) في البحر فتدخلها الحيتان والأسماك في يوم السَّبت، ولا تتمكَّن من الخروج، وإذا جاء يوم الأحد جمعوا تلك الأسماك وقالوا إنَّنا نمارس الصَّيد في يوم الأحد.
القول الثَّالث:
إنَّهم كانُوا يرسلون شبابيكِهم وصَّناراتِهم في البحر يوم السَّبت، فتدخلها الأسماك ثمَّ يسحبونها في يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك.
هكذا كان يصطادون الأسماك في يوم السَّبت، ولكن بأساليب ماكرة، وبحيل خادعة.
المجموعة الثانية:
من أبناء تلك القرية وهي تُشكِّل الأقليَّة.
هذه المجموعة امتثلت التَّكليف الإلهي فامتنعت عن الصَّيد في يوم السَّبت، ولم تلجأ إلى أيِّ شكلٍ من أشكال الاحتيال.
ولم تكتفِ بذلك، بل قامت بوظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وحذَّرت المجموعة الأولى المتمرِّدة على التَّكليف الإلهي.
المجموعة الثَّالثة:
وتمثِّل هذه المجموعة نسبة كبيرة من أبناء تلك القرية.
– هذه المجموعة التزمت بالتَّكليف، فلم تمارس الصَّيد في يوم السَّبت.
– ولم تمارس الاحتيال كما فعلت المجموعة الأولى.
– إلَّا أنَّ هؤلاء (المنتمين للمجموعة الثَّالثة) صمتوا، وداهنوا العصاة (المنتمين إلى المجموعة الأولى) فلم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن المنكر.
– ولم يكتفوا بهذا الصَّمت والمداهنة.
بل تصدُّوا للمجموعة الثَّانية (الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر)، وصاروا يخذلونهم ويُثبِّطونهم لكي يتركوا مسؤوليَّتهم في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
يصوِّر القرآن موقف هذه المجموعة بقوله:
•﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ [المجموعة الثَّالثة] …﴾ (الأعراف/ 164) مخاطبة المجموعة الثَّانية – الآمرة بالمعروف –
•﴿… لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا…﴾ (الأعراف/ 164)
نعم هم لم يمارسوا أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر.
ولا يريدون لغيرهم أن يمارس هذا الدور وكانت لغتهم: “اتركوا العصاة، فلا جدوى من الوعظ والإرشاد، وأنَّ الله سوف ينتقم من هؤلاء العصاة، وسوف ينالون أشدَّ العذاب في الآخرة”.
فالمجموعة الثَّالثة لم تمارس مسؤوليَّتها في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ثم هي تعيش اليأس كلَّ اليأس من الإصلاح والتغيير، ولم تكتف بذلك، بل مارست (دور التَّيئيس للآخرين)
فكان منطقهم:
•﴿… لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا…﴾ الأعراف/164}
ماذا كان ردُّ المجموعة الثَّانية؟
كانت الرد يعتمد مبرِّرين أساسين لقيام هذه المجموعة بمهمَّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر:
المبرِّر الأوَّل: هو الامتثال لأمر الله تعالى، فمارسوا الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ليكونوا معذورين عند الله تعالى.
•﴿… قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ …﴾ (الأعراف/ 164)
المبرِّر الثَّاني: ربَّما يرتدع أولئك العصاة.
•﴿… وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأعراف/ 164)
فالدُّعاة الى الله والآمرون بالمعروف والنَّاهون عن المنكر لا يعرفون اليأس إطلاقًا مهما تعقَّدت الأوضاع، فهم يحملون الأمل دائمًا ما دام هناك احتمال في الوصول إلى بعض النتائج الإيجابيَّة، فلا يجوز لهم أنْ يتخلوا عن مسؤوليَّة الدَّعوة والإرشاد والتَّوجيه مهما كان مستوى التَّعقيد والتَّأزيم.
كيف نزل العقاب الإلهي على العصاة؟
وما نوع هذا العقاب؟
وهل شمل العقاب الطَّائفة الصَّامتة؟
لا إشكال أنَّ العذاب أصاب الَّذين ظلموا وهم العصاة الَّذين تمرَّدوا على أوامر الله.
ولا إشكال أنَّ الَّذين أمروا بالمعروف كانوا من النَّاجين.
•﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ (الأعراف/ 165)
وماذا عن الفريق الثَّالث وهم (المتفرِّجون الصَّامتون)؟
للمفسرين ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنَّ هذا الفريق كانوا من النَّاجين.
لأنَّ النَّص القرآني قال: ﴿… وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾
القول الثاني: إنَّ هذا الفريق كانوا من الهالكين.
لأنَّ النَّصَّ القرآني قال: ﴿… أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ …﴾
القول الثالث: إنَّ هذا الفريق مسكوتٌ عنهم.
لأنَّ النَّصَّ القرآني تحدَّث عن نجاة الفريق الثَّاني وهم النَّاهون عن السُّوء.
وتحدَّث عن هلاك الفريق الأوَّل وهم العصاة المتمرِّدون.
وسكت عن الفريق الثَّالث.
ما نوع العذاب الذي أصاب القرية؟
•﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ عَنْ مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ (الأعراف/ 166)
﴿عَتَوْاْ﴾: تمرَّدوا على أوامر الله.
﴿خَاسِئِينَ﴾: مطرودين، مبعدين.
فالعقاب الَّذي تعرَّض له أولئك العصاة أن (مُسِخُوا قردةً خاسئين)
وهنا بحث عند المفسِّرين:
هل أنَّ المسخ كان جسمانيًّا أو روحانيًّا؟
أكثر المفسِّرين يذهبون إلى أنَّ المسخ كان مسخًا جسمانيًّا بمعنى تغيَّر شكلهم الإنساني وأصبحوا قردة، وقسم أصبحوا خنازير حسب بعض الرِّوايات.
ويذهب بعض المفسِّرين – وهم قلَّة – أنَّ المسخ كان (مسخًا روحانيًّا) بمعنى تحولَّت طباعهم إلى طباع القردة والخنازير.
وهنا سؤال: هل بقي أولئك الممسوخون وتناسلوا؟
جاء في بعض الرِّوايات أنَّ الله أهلكهم بعد مدَّة من المسخ.