حديث الجمعة 555: لماذا الخَيارات المتعدِّدة في أساليب الأئمَّة؟ (1)
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الهُداةِ الميامين، وبعد…
الخَيارات المتعدِّدة في أساليب الأئمَّة (عليهم السَّلام)
حينما نحاول أنْ ندرسَ حياة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) يواجهنا دائمًا هذا السؤال:
لماذا الخَيارات المتعدِّدة في أساليب الأئمَّة؟
مِن الأئمَّة مَنْ كان خَياره سلميًّا.
ومن الأئمَّة مَنْ كان خَياره عسكريًّا.
ومن الأئمَّة مَنْ كان خَياره ثوريًّا.
ومِن الأئمَّة مَنْ كان خَياره روحيًّا وتربويًّا.
ومِن الأئمَّة مَنْ كان خَيارُه علميًا وثقافيًّا.
ومِن الأئمَّة مَنْ كان خَيارُه سياسيًّا.
ومِن الأئمَّة مَنْ كان خَيارُه الغَيْبة والاستتار.
هل المسألة هكذا هي (مسألة خَيارات) فرضتها (قناعات ذاتيَّة)، أو (اجتهادات شخصيَّة) عند هذا الإمام أو ذاك؟
المسألة ليست كذلك؛ فالأئمَّة وِفق منظور (مدرسة أهل البيت عليهم السَّلام) هم (أئمَّة معصومون)، وليسوا (مجتهدين) فيما يعنيه الاجتهاد من (استنباطاتٍ ظنِّية) قابلةٍ للصِّحة والخطأ.
فالأئمَّة حينما يُحدِّدون (أسلوبًا) لا ينطلقون من (اجتهاداتٍ) أو (مزاجات) إنَّما هي (الرُّؤية المعصومة) الذي تفرض هذا الخيار أو ذلك الخيار.
فقراءاتُهم الموضوعيَّة للواقع قراءات صائبة..
وخَياراتهم للمواقف خَيارات صائبة.
وقد عبَّر الشَّهيد السَّيد محمَّد باقر الصَّدر عن هذا (التعدُّد) لدى الأئمَّة (عليهم السَّلام) بـ (بتنوُّع أدوار)، وعبَّر عن (المشترك) بـ (وحدة هدف).
أنواع الممارسات في حركة الأئمَّة (عليهم السَّلام)
إذًا في حركة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) نوعان من الممارسات:
النوع الأول: ممارسات مشتركة تمثِّل (الهدف الاستراتيجي الثَّابت) والذي لا يتغيَّر مهما تغيَّرت الأوضاع والظروف.
النوع الثاني: ممارسات خاصَّة بكلِّ إمام، وهي خاضعة للمتغيِّرات.
وهذا ما يفسِّر (التَّنوع في أساليب الأئمَّة عليهم السَّلام)
•الأسلوب السِّلمي
•الأسلوب الثَّوري
•الأسلوب السِّياسي
•الأسلوب التَّربوي
•الأسلوب العلمي
•الأسلوب الثَّقافي
وربَّما مازج بعض الأئمَّة بين أكثر من أسلوب.
أحاول هنا أنْ أتناول (النَّوع الأوَّل) وهو الممارسات المشتركة، والتي تمثِّل (الهدف الاستراتيجيَّ الثَّابت)، والذي لا يتغيَّر مهما تغيَّرت الأوضاع والظُّروف.
هذا الهدف هو (الحفاظ على الإسلام وهُويَّة الأمَّة).
هذا هدف مركزيٌّ يتحرَّك في كلِّ المراحل، ولا يتجمَّد مهما كانت الظُّروف والمتغيِّرات، نعم (أساليب الحفاظ على هذا الهدف) قد تتبدَّل وتتغيَّر وِفْق (حيثيَّات معيَّنة)، ويأتي تفصيل ذلك حينما يأتي الحديث عن (النَّوع الثَّاني) من ممارسات الأئمَّة (عليهم السَّلام).
قلت: إنَّ الهدف المركزيَّ الاستراتيجيَّ في حركة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) هو (الحفاظ على الإسلام وهُويَّة الأمَّة).
ويمكن أنْ أفكِّك هذا الهدف المركزيَّ الاستراتيجيَّ إلى مجموعة أهداف:
1-فالحفاظ على البُنية العقيديَّة هدف مركزيٌّ لا يتجمَّد في أيِّ عصر، وفي أيِّ ظرف.
2-والحفاظ على البُنية الفكريَّة هدفٌ مركزيٌّ لا يتجمَّد في أيِّ عصر، وفي أيِّ ظرف.
3-والحفاظ على البُنية الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة والسُّلوكيَّة هدفٌ مركزيٌّ لا يتجمَّد في أيِّ عصر، وفي أيِّ ظرف.
4-والحفاظ على البُنية التشريعيَّة هدفٌ مركزيٌّ لا يتجمَّد في أيِّ عصر، وفي أيِّ ظرف.
5-والحفاظ على وحدةِ الأمَّة هدفٌ مركزيٌّ لا يتجمَّد في أيِّ عصر، وفي أيِّ ظرف.
هذه مجموعة أهداف مركزيَّة مارسها كلُّ الأئمَّة في كلِّ مراحلهم التاريخيَّة من أجل الحفاظ على أصالة الرِّسالة، ومن أجل الحفاظ على هُويَّة الأمَّة.
ولإعطاء مزيد من التوضيح أتناول بعض هذه العناوين:
العنوان الأول: دور الأئمَّة (عليهم السَّلام) في الحفاظِ على البُنية العقيديَّة
وهنا واجه الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام) مسارين من التيَّارات التي تهدِّد البُنية العقيديَّة الأصيلة:
(1) المسار الانحرافي
(2) المسار التحريفي
المسار الأوَّل: المسار الانحرافيُّ
وهنا أسوق نموذجين:
النموذج الأول: تيار الإلحاد والزَّندقة
دخل أبو شاكر الدَّيصانيُّ -أحد الزَّنادقة- على الإمام الصَّادق (عليه السَّلام) وقال: يا جعفر بن محمد دُلَّني على معبودي…
بماذا أجابه الإمام الصَّادق (عليه السَّلام)؟
لم يعتمد في الجواب أيَّ طرحٍ فلسفيٍّ معقَّد، ولم يمارس أسلوبًا جدليًّا كلاميًّا.
وانِّما قال للدَّيصانيِّ: اجلس.
فإذا غلامٌ صغيرٌ في كفِّهِ بيضةٌ يلعب بها فقال له الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): ناولني يا غلام هذه البَيضة، فناوله إيَّاها.
فقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام): «يا دَيصانيُّ هذا حصنٌ مكنونٌ له جلدٌ غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلدٌ رقيق، وتحت الجلد الرَّقيق ذهبة مايعة وفضة ذائبة، فلا الذَّهبة المائعة تختلط بالفضَّة الذَّائبة، ولا الفضَّة الذَّائبة تختلط بالذَّهبة المايعة، فهي على حالها لا يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا يدخل إليها داخل مُفسد فيخبر عن إفسادِها، لا يُدرى للذِّكر خُلقت أو للأنثى، تنطلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مُدبِّرًا؟
فأطرق [الدَّيصاني] مَليًّا ثمَّ قال:
أشهدُ أنْ لا إله إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وإنَّكَ إمامٌ وحجَّةٌ من اللهِ على خلقِهِ، وأنَا تائبٌ ممَّا كنتُ فيه. (انظر: الاحتجاج 2/71، الطوسي)
النموذج الثاني: تيار الغُلو
وقد تصدَّى له الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)، لأنَّه انحراف عقيديٌّ خطير جدًّا.
هذه بعض كلماتهم (عليهم السَّلام) في التصدِّي لتيَّار الغُلو:
•من كلمات أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «هلَكَ فيَّ رجلان: محبٌّ غالٍ، ومُبغضٌ قالٍ». (ميزان الحكمة 4/٣٤٦٤، الرَّيشهري، [4019]ما يوجب الهلاك)
هناك اتِّجاهان متناقضان: اتِّجاهٌ يُؤلِّهُ عليًّا (عليه السَّلام)، واتِّجاهٌ يُكفِّر عليًّا (عليه السَّلام)، وكِلا الاتِّجاهين على غير هُدى، وكِلا الاتِّجاهين يُشكِّلان انحرافًا عقيديًّا خطيرًا.
وحينما يكون الحديث عن (الغُلاة) المؤلِّهين لعليٍّ (عليه السَّلام) وللأئمَّة (عليهم السَّلام)، وعن (النواصب) المبالغين في البغض والعداوة لعليٍّ (عليه السَّلام) وللأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)، حينما يكون الحديث عن هذين العنوانين الانحرافيين تستوقفنا ظاهرة خطيرة في العلاقة بين السُّنَّة والشِّيعة، وهي ظاهرة مرعبة ومدمِّرة، ويجب التَّصدِّي لها بقوَّة.
هذه الظاهرة تتمثَّل في رواج مقولتين خاطئتين.
المقولة الأولى: تتَّهم الشِّيعة جميعًا بأنَّهم غلاة يؤهلِّون الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
المقولة الثانية: تتَّهم السُّنَّة جميعًا بأنَّهم نواصب يُعادون الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام).
كِلَا المقولتين باطلتان وظالمتان ولا أساس لهما من الصِّحة، وهما تؤسِّسان لصراعات وعداوات وخلافات بين المذاهب الإسلاميَّة، وتدفعان إلى نشوء التعصُّب والتطرُّف، والعنف، والإرهاب.
فالشّيعة ليسوا غلاة، وهم يبرأون كلَّ البراءة من الغُلاة، ويكفِّرونهم، ويُفتون بنجاستهم، فمِنَ الظُّلم كلَّ الظُّلم أنْ يُتَّهم الشِّيعة بأنَّهم غُلاة.
وكذلك السُّنَّة بكلِّ مذاهبهم ليسوا (نواصب)، وليسوا (معادين) للأئمَّة من أهل البيت (عليهم السَّلام)، بل يتبرَّأون كلَّ التبرُّأ ممَّن يُعادي أهل البيت (عليه السَّلام).
فالمسلمون جميعًا بكلّ مذاهبهم وفرقهم يتَّفقون على (محبَّة عليٍّ وأهل بيته عليهم السَّلام)
فهم جميعًا يتَّفقون على نزول (آية المودَّة) في عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين وذريَّتهم الطَّاهرين (عليهم السَّلام).
•روى السَّيوطي في الدُّر المنثور، بالإسناد إلى ابن عباس قال: لمَّا نزلت هذه الآية {… قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى …} (الشورى/23) قالوا: يا رسول الله مَنْ قرابتُك هؤلاء الَّذينَ وجبت مودَّتُهم؟
قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «عليٌّ وفاطمة وولداها». (الدُّر المنثور 6/7، السَّيوطي)
وهكذا تقول بقيَّة التَّفاسير.
كما تؤكِّد مصادر الحديث المعتمدة عند المسلمين على تواتر الأحاديث التي تؤكِّد على (حبِّ أهل البيت عليهم السَّلام).
فهل يتمكَّن بعد هذا أنْ يتجرَّأ مسلمٌ يؤمن بالله ورسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على (بغض أهل البيت عليهم السَّلام) إلَّا مَنْ خرج عن الدِّين والإسلام.
فحذارِ حذار أنْ يُتَّهم (السُّنَّة) ببغض أهل البيت (عليهم السَّلام).
وحذار حذارِ أنْ يُتَّهم (الشِّيعة) بالغلو في أهل البيت (عليهم السَّلام).
نتابع الأحاديث التي تحذِّر من الغُلو:
•من كلمات أمير المؤمنين (عليه السَّلام): «اللَّهمَّ إنِّي بريئ من الغُلاة، كبراءة عيسى بن مريم من النَّصارى…». (الأمالي، ص650، الطوسي، ح13)
النَّصارى ألَّهوا عيسى بن مريم.
والغُلاةُ ألَّهوا عليًّا (عليه السَّلام)، والأئمَّة من أهل بيته (عليهم السَّلام).
•ومن كلماته (عليه السَّلام): «لا تتجاوزوا بنا العُبوديَّة، ثمَّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيَّاكم والغلو كغلو النَّصارى، فإنِّي بريئ من الغالين». (أهل البيت في الكتاب والسُّنة، ص521، الرَّيشهري، ح1248)
الغلاة يتجاوزون بأهل البيت (عليهم السَّلام) مقام العبوديَّة، يقولون بأنَّهم آلهة، وأنَّهم أرباب.
نعم هم عبيد للهِ بلغوا مقامات عالية جدًّا.
فالحديث عن مقاماتهم، ومراتبهم، وكراماتهم، وفضائلهم، اعتمادًا على ما دوَّنته كتب الحديث المعتمدة عند المسلمين، هذا ليس غلوًّا ولا تجاوزًا بهم مقام العبوديَّة.
•وقال الإمام الصَّادق (عليه السَّلام):
«احذورا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم، فإنَّ الغلاة شرُّ خلق الله، يُصغِّرون عظمة الله، ويدَّعون الرُّبوبيَّة لعباد الله…». (الأمالي، ص650، الطوسي، ح12)
•وقال الإمام الرِّضا (عليه السَّلام):
«لا تقاعدوهم [يعني الغلاة] ولا تصادقوهم، ابرأوا منهم، بَرِئَ الله منهم». (عيون أخبار الرِّضا (عليه السَّلام) 1/219، الصَّدوق ح2)
للحديث تتمَّة إنْ شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.