حديث الجمعة 551: حادثة الغدير من خلال مؤشِّرات ودلالات آية البلاغ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأفضلُ الصَّلوات على سيِّدِ الأنبياءِ والمرسلين محمَّدٍ، وعلى آلِهِ الهُداةِ الميامين.
حادثة الغدير من خلال مؤشِّرات ودلالات آية البلاغ
قال الله تعالى في سورة المائدة (الآية/67):
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ …}.
لكي نفهمَ دلالةَ هذا النصّ القرآني نضع مجموعة مؤشِّرات:
المؤشِّر الأول: توقيت النَّص
هذا النصُّ القرآنيُّ نزل على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) أثناء العودة من حجَّة الوداع؛ يعني في المرحلة الأخيرة من حياة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم).
نزل النصُّ في الثامن عشر من ذي الحجَّة سنة عشرٍ من الهجرة.
توفي النبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) في الثامن والعشرين من شهر صفر، السَّنة الحادية عشرة من الهجرة.
أي قبل وفاة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بشهرين ونصف.
وهذا يعني أنَّ القضية الَّتي أُمر النبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بتبليغها ترتبط بمستقبل الدَّعوة ومسألة القيادة بعد رحيل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم).
المؤشِّر الثَّاني:
يوحي هذا النصُّ بخطورة القضية التي أمر النبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بتبليغها، بحيث أنَّ التفريط في تبليغ هذه القضية يساوق ويساوي التفريط في تبليغ الرِّسالةِ بكاملها.
•{… وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ …}.
فهل المسألة هي مسألة قضية حكمٍ شرعيٍّ جزئيٍّ؟
يبدو أنَّ الأمر أكبر وأخطر بكثير.
المؤشِّر الثَّالث:
لغة النَّص صارمة وحادَّة ممَّا يؤكِّد خطورة القضيَّة المطلوب طرحها.
•{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ …}
فالقضيَّة المطلوب تبليغها ترتبط ببقاء الرِّسالة، وديمومتها، وحمايتها من كلِّ الانزلاقات.
المؤشِّر الرَّابع:
النصُّ يوحي بـ (حساسيَّة القضيَّة المطلوب تبليغها) حيث أنَّها سوف تثير ردود فعلٍ نفسيَّة مشحونة بالتوتر وربَّما بالرَّفض.
وهنا يؤكِّد النصُّ بأنَّ الله سوف يحمي النبيَّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) في مواجهة كلِّ الانفعالات والتوترات وردود الفعل الرافضة.
•{… وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ …}
في ضوء هذه المؤشِّرات نطرح هذه التَّساؤلات:
التَّساؤل الأوَّل:
أيَّةُ قضيَّةِ هذه التي يأتي توقيتُها في المرحلة الأخيرة من حياة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)؟
التَّساؤل الثَّاني:
أيَّةُ قضيةٍ هذه التي يساوي التفريط فيها تفريطًا بكلِّ الرِّسالة؟
التَّساؤل الثَّالث:
أيَّةُ قضيَّةٍ هذه التي تفرض هذه اللغة الصَّارمة مع النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم)؟
التَّساؤل الرَّابع:
أيَّةُ قضيَّةٍ هذه التي تحمل حساسيَّة بالغة يحتاج معها النبيُّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) إلى طمأنةٍ كبيرةٍ؟
القضيَّة هي:
قضيَّة الخلافة والقيادة بعد رحيل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم).
وهذا ما أكَّدتْهُ حادثة الغدير، وحديث الغدير.
وقد دوَّنت هذه الحادثة، وهذا الحديث مصادر المسلمين.
أذكر نماذج من هذه المصادر:
(1) روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (ج4: 281) عن البراء بن عازب قال: «كنَّا مع رسول الله (صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم) في سفر، فنزلنا بغدير خم، فنودي فينا الصَّلاة جامعة، وكسح لرسول الله (صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم) تحت شجرتين، فصلَّى الظهر، وأخذ بين عليٍّ رضي الله عنه فقال:
ألستم تعلمون أنَّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى.
قال (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم): ألستم تعلمون أنَّي أولى بكلِّ مؤمن من نفسه؟
قالوا: بلى…
فأخذ بيد عليٍّ فقال: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه.
قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئًا يا ابنَ أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ».
(2) وروى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصَّحيحين – يعني صحيح البخاري وصحيح مسلم – (3: 109) عن زيد بن أرقم قال: «لمَّا رجع رسول الله (صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم) من حجَّة الوداع نزل غدير خم وأمر بدوحاتٍ فقممن فقال:
كأنِّي دُعيتُ فأجبت، إنِّي قد تركتُ فيكم الثَّقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللهِ تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض.
ثمَّ قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: إنَّ الله عزَّ وجلَّ مولاي وأنا مولى كلِّ مؤمنٍ،
ثمَّ أخذ بيد عليٍّ رضي الله عنه فقال: مَنْ كنتُ مولاه فهذا وليُّه اللَّهُمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه…».
(قال الحاكم النيسابوري معقِّبًا على هذا الحديث): هذا حديثُ صحيحٌ على شرط الشَّيخين [البخاري ومسلم] ولم يخرجاه.
(3) روى المنصور بالله في هداية العقول (2: 37) عن زيد بن أرقم قال: «لما صدر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من حجة الوداع، نهى أصحابه عن سمرات [نوع من الشجر] متفرقات بالبطحاء أنْ ينزلوا تحتهن، ثمَّ بعث إليهن فقمَّ ما تحتهن من الشَّوك، وعمد إليهن، فصلَّى عندهنَّ ثمَّ قام فقال:
يا أيُّها النَّاسُ إنَّه قد نبَّأني اللطيف الخبير أنَّه لم يعمِّر نبيُّ إلَّا نصف عمر الذي يليه من قبلِهِ، وإنِّي لأظنُّ يوشك أنْ أدعى فأجيب وإنِّي مسؤول، وأنتم مسؤلون، فماذا أنتم قائلون؟
قالوا:
نشهد أنَّك قد بلَّغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيرًا…
قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]:
أليس تشهدون أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسولُهُ، وأنَّ جنَّتَه حقٌّ، وناره حقٌّ، وأنَّ الموت حقٌّ، وأنَّ البعث حقٌّ بعد الموت، وأنَّ السَّاعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث مَنْ في القبور؟
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم]: اللَّهمَّ اشهد.
ثمَّ قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]:
يا أيُّها النَّاسُ إنَّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه يعني عليًا رضي الله عنه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه وعادِ مَنْ عاداه».
(4) روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد [8: 290] عن أبي هريرة قال: «مَنْ صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجَّة كتب له صيام ستين شهرًا، وهو يوم غدير خم لمَّا أخذ رسول الله (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) بيد عليٍّ بن أبي طالب (عليه السَّلام)
فقال: ألست أولى بالمؤمنين؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال [صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم]: مَنْ كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
فقال عمر بن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلِّ مسلم.
(5) جاء في الصَّواعق المحرقة [ص 64] لابن حجر:
أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم) قال يوم غدير خم: «مَنْ كنت مولاه فعلي مولاه
اللَّهمَّ والِ من والاه وعادِ مَنْ عاداه
وأحبَّ مَنْ أحبَّه، وأبغض مَنْ أبغضه
وانصر مَنْ نصره واخذل مَنْ خذله
وادر الحقَّ معه حيث دار».
وقال ابن حجر حول حديث الغدير:
“إنَّه حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وطرقه كثيرة جدًّا…
ومَنْ ثمّ رواه ستة عشر صحابيًا
وفي رواية لأحمد أنَّه سمعه من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآلِهِ وسلَّم) ثلاثون صحابيًا…”.
وقد صرَّح عددٌ كبيرٌ من علماء الحديث بتواتر (حديث الغدير)
يبقى السؤال:
•ما دلالة هذا الحديث؟
بعد أنْ أصبح التَّشكيك في صحَّة حديث الغدير أمرًا عسيرًا جدًّا، حيث دوَّنته أهم المصادر الحديثيَّة، وحيث صرَّح بتواتره عددٌ كبيرٌ من علماء الحديث.
اتَّجهت بعض المواقف إلى (التَّشكيك في دلالة الحديث)
وهنا أذكر هذا الاتجاه الذي ينفي دلالة الحديث فهو يقول: الحديث لا يحمل دلالة صريحة على إمامة وخلافة علي بن أبي طالب.
الحديث فقط يحمل منقبة لعلي (عليه السَّلام).
إنَّ كلمة (مولى) الواردة في الحديث لا تعني (القيادة)
لأنَّ هذه المفردة لها عدَّة معاني (الناصر/ المحبُّ/ الصديق/ الحليف/ الوارث) وواحد من معانيها (ولي الأمر والحاكم)
لنا حول هذا الموقف عدَّة ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
القرائن الحاليَّة والمقاميَّة التي تزامنت مع هذا الحدث تؤكِّد (المعنى القيادي)
(1)المكان:
غدير خم على مقربة من (الجحفة) بين مكَّة والمدينة، في صحراء يلفحها الهجير وتلتهب رمالها بوهج الظَّهيرة.
(2)الزمان:
أثناء العودة من حجَّة الوداع، في مرحلةٍ تمثِّل الأيام الأخيرة من حياة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
(3)الاجتماع:
لقاء جماهيري حاشد ضمَّ ما يربو على (مائة ألف إنسان) من المسلمين الذين حجُّوا مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
(4)الخطاب:
حديث تاريخي خطير ألقاه الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في يوم الغدير.
(5)الأسلوب:
أخذه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بيد علي (عليه السَّلام) ورفعها أمام الناس حتى بان بياض إبطيهما.
الملاحظة الثانية:
القرائن اللفظيَّة والكلاميَّة تؤكِّد المعنى القيادي:
(1)تمهيدات لها دلالتها الواضحة:
«ألستم تعلمون أنَّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»
«ألستم تعلمون أنَّي أولى بكلِّ مؤمن من نفسه».
«فمن وليكم؟».
(2)الدعاء لعليٍّ (عليه السَّلام)
«اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعاد مَنْ عاداه، وانصر مَنْ نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقَّ معه حيث دار».
(3)التأكيد في آخر الخطبة أنْ يُبلِّغ الشَّاهد منهم الغائب
(4)تصريحاته (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأنَّه قد نُعِيت له نفسه، وأنَّها الأيام الأخيرة من حياته (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
(5)التصريحات التي صدرت من بعض الصحابة الكبار
•قول الصحابي عمر: «هنيئًا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة».
الملاحظة الثالثة:
إنَّ حادثة الغدير، وإنَّ حديث الغدير هما استجابة لآية التبليغ
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ …} (المائدة/67)
وقد تقدَّم القول أنَّ هذا النص يحمل مجموعة مؤشِّرات خطورة ما أمر النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بتبليغه، وأنَّه ليس أمرًا عاديًا، وإنَّما هو أمر الخلافة والقيادة.
الملاحظة الرابعة:
آية الإكمال تؤكِّد القيمة الكبرى لحادثة الغدير
•روى السيوطي في الدُّر المنثور (3: 19) عن أبي سعيد الخدري قال:
«لما نصب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليًا يوم غدير خمٍّ، فنادى له بالولاية هبط جبرئيل بهذه الآية: {.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ..} {المائدة/3}».
روى الخوارزمي في المناقب (135) بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: «إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لما دعا الناس إلى علي في غدير خم، وأمر بما تحت الشَّجرة من الشَّوك فقم، وذلك يوم الخميس، فدعا عليًا فأخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ثمَّ لم يتفرَّقوا حتى نزلت هذه الآية: {… الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا …} {المائدة/3} فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): الله أكبر على إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة ورضى الرَّب برسالتي، والولاية لعلي من بعدي».
•السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1: 54) عن أبي سعيد الخدري أنَّ آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} نزلت يوم غدير خم.
•الألوسي في روح المعاني عن أبي سعيد الخدري قال: «إنَّ هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ …} {المائدة/3} نزلت بعد أنْ قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعليٍّ كرَّم الله وجهه في غدير خم (مَنْ كنت مولاه فعليَّ مولاه) فلمَّا نزلت قال (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): (الله اكبر على إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة ورضاء الرَّب برسالتي وولاية عليٍّ كرَّم الله تعالى وجهه بعدي)».
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
وصلَّى الله على محمد وآله الطاهرين