موائد الإيمان (3): في رحاب رجل الدِّين والدَّولة!
بعد أنْ أنهى النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الخطبة الرَّمضانيَّة المعروفة، قام أمير المؤمنين (عليه السَّلام) قائلًا: «…، فقلت: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشَّهر؟
فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشَّهر الورع عن محارم الله (عزَّ وجلَّ)، ثمَّ بكى [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم]!
فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟
فقال [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم]: يا عليُّ: أبكي لِمَا يستحلُّ منك في هذا الشَّهر، كأنِّي بك وأنت تصلِّي لربك، وقد انبعث أشقى الأوَّلين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك، فخضَّب منها لحيتك!
قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): فقلت، يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟
فقال [صلَّى الله عليه وآله وسلَّم]: في سلامة من دينك.
ثمَّ قال (صلَّى الله عليه وآله): يا عليُّ، مَن قتلك، فقد قتلني، ومَن أبغضك، فقد أبغضني، ومَن سبَّك، فقد سبَّني، لأنَّك منِّي كنفسي، روحك من روحي، …». (الأمالي، ص 155، الشيخ الصَّدوق)
عظَّم الله أجوركم بمصابنا بسيِّد الأوصياء، أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
في هذا اللِّقاء – ونحن نعيش ذِكرى شهادة أمير المؤمنين (عليه السَّلام) – نحاول أنْ نعالج مقولة ردَّدها كثير من الكُتَّاب، والباحثين، والدَّارسين – بعض هؤلاء يردِّدها عن حُسن نيَّة، وبعضهم يردِّدها عن سوء نيَّة!
وهذه المقولة هي:
إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) رجل مبادئ وقِيم، وليس رجل سياسة وحُكم!
لا يصلح للسِّياسة، ولا يصلح للحكم، فهو ليس رجل حُكم، ولا رجل سياسة!
ولقد اعتمدوا في هذه المقولة على مجموعة مبرِّرات، وسأتناول أهم هذه المبرِّرات، وسأحاول أنْ أناقشها.
مبرِّرات مَن يقول: إنَّ عليًّا ليس رجل حُكم وسياسة!
ما هي مبرِّرات هؤلاء الذين يقولون: إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) ليس رجل حكم وسياسة، وإنَّما هو رجل مبادئ وقيم.
المبرِّر الأوَّل: السِّياسة زيف ودجل، وكذب، ونفاق، وعبث، وفساد، وظلم واستبداد!
إنَّ هذا هو تعريف السِّياسة كما يعرفونها!
إذا كانت هذه هي السِّياسة، فإذًا عليٌّ (عليه السَّلام) ليس سياسيًّا.
إذا كانت السِّياسة هي زيف، ودجل، وعبث، وفساد، وظلم، فعليٌّ (عليه السَّلام) – قطعًا – ليس سياسيًّا!
إنَّ صاحب القيم والمبادئ لا يمكن أنْ يتلوَّث بالسِّياسة.
ما دامت السِّياسة بهذا التَّلوُّث، وبهذا الفساد، فلا يمكن للإنسان الذي يحمل مبادئ أنْ يكون سياسيًّا، وذلك لأنَّ السِّياسة تلوُّث!
لأنَّ السِّياسة فساد!
ولأنَّ السِّياسة ظلم!
لأنَّ السِّياسة زيف ودجل!
فمن يملك مبادئَ، ومَن يملك قِيمًا لا يمكن أنْ يتلوَّث ويكون سياسيًّا!
فإذا صار سياسيًّا – والحالة هذه، وبهذه المعايير التي يذكرونها – يعني أنَّه قد تلوَّث.
إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) أسمى من أنْ يسقط في تلوُّثات السِّياسة، وهو رجل المبادئ والقِيم.
وفق هذه الرُّؤية، فإنَّ المبدئيَّ الحقَّ لا يمكن أنْ يكون سياسيًّا.
إذا كان المبدئيُّ يحمل مبادئ حقَّة، فليس من الممكن أنْ يكون سياسيًّا، لأنَّ السِّياسة دجل، وزيف، وأنَّ السِّياسيَّ لا يمكن أنْ يكون مبدئيًّا حقًّا مادام قد دخل في السِّياسة.
هذا هو المبرِّر الأوَّل لمقولة الجماعة بأنَّ عليًّا (عليه السَّلام) ليس سياسيًّا، ولا رجل حكم، لأنَّ السِّياسة زيف، ودجل، وعليٌّ (عليه السَّلام) أسمى من أنْ يسقط في هذا المستنقع الذي يُسمَّى سياسة.
كيف نناقش هذا المبرِّر الأوَّل – وبعدئذٍ سنواصل بقيَّة المبرِّرات -.
مناقشة هذا المبرِّر
أوَّلًا: هناك فرق بين تعريف مصطلح السِّياسة وبين الحديث عن واقع السِّياسة.
إنَّ هؤلاء قد خلطوا بين مفهوم السِّياسة – مصطلح السِّياسة وبين الواقع الذي تمثِّله السِّياسة في أغلب تطبيقاتها!
السِّياسة في اللُّغة: القيام على الشَّيئ بما يصلحه.
ساسه: أقامه، أصلحه، هذه هي السِّياسة في اللُّغة.
في مصطلح علم السِّياسة أنَّ السِّياسة هي إدارة شؤون الحكم بما يصلح النَّاس، ويصلح الشُّعوب، ويصلح الأوطان.
إنَّ هذه الإدارة لشؤون النَّاس تسمَّى سياسة.
هذا مصطلح السِّياسة إذا أخذنا المصطلح مجرَّدًا بعيدًا عن التَّطبيق.
فمصطلح السِّياسة لغة: هو إدارة الأمر بما يصلحه.
أما السِّياسة في مصطلح السِّياسيِّين هو إدارة شؤون الحكم.
هذا هو المدلول اللُّغويُّ والاصطلاحيُّ لكلمة السِّياسة.
أمَّا واقع السِّياسة، فهناك سياسة صالحة، وهناك سياسة فاسدة.
عندما نأتي لتطبيق السِياسة سنجد سياسيًّا صالحًا، وسنجد سياسيًا فاسدًا، فالمسألة هي تطبيق!
السِّياسة هي إصلاح، إصلاح شؤون النَّاس، وإدارة شؤون النَّاس.
إنْ قامت السِّياسة على أسس نظيفة كانت سياسة صالحة.
وإنْ قامت السِّياسة على أسس فاسدة كانت السِّياسة فاسدة.
إذًا، يجب أنْ لا نخلط بين المصطلح وبين التَّطبيق.
وحينما يطغى على التَّطبيق الفساد السِّياسيِّ، فإنَّ ذلك لا يحوِّل مصطلح السِّياسة إلى مصطلح فاسد.
كثير من النَّاس يُطبِّقون الدِّين تطبيقًا خطأً، فهل يصبح الدِّين فاسدًا؟!
وهل يصبح الدِّين خطأً، لأنَّ التَّطبيقات كانت خطأً؟!
ما أكثر مَن يُطبِّق التَّقوى تطبيقًا خطأً!
ما أكثر مَن يُطبِّق الدِّين تطبيقًا خطأً!
فهل نرفض الدِّين لذلك؟!
هل نقول: الدِّين فاسد؟!
هل نقول: الدِّين زيف، لأنَّ التَّطبيقات زائفة؟!
إذًا، هذا خلط بين المصطلح وبين التَّطبيق.
قد نجد سياسة نظيفة، وقد نجد سياسة فاسدة، ولذا لا نستطيع القول: إنَّ السِّياسة فساد.
نعم، هناك سياسة فاسدة، وربما تطغى السِّياسة الفاسدة على السِّياسة الصَّالحة، ولكن ليس معنى ذلك أنْ يتحوَّل مصطلح السِّياسة إلى مصطلح مرفوض.
وأمَّا واقع السِّياسة، فهناك السِّياسة الصَّالحة، وهناك السِّياسة الفاسدة، وقد تحدَّث الإمام عليٌّ (عليه السَّلام) عن هذين اللَّونين من السِّياسة.
عندما نقرأ كلمات عليٍّ (عليه السَّلام) نراه يبيِّن لنا أنَّ هناك نمطين من السِّياسة، حيث يقول (عليه السَّلام): «حسن السِّياسة يستديم الرِّئاسة». (11316 حكمة للإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام، الصفحة 190، القاضي عبد الواحد محمَّد التَّميمي الآمدي).
فهنا يتحدَّث (عليه السَّلام) عن سياسة نظيفة.
فإذا كانت هناك سياسة نظيفة تستديم الرِّئاسة، ويستديم الحكم، ويستديم بقاء الحكم.
إنَّ بقاء النِّظام بحسن السِّياسة، بنظافة السِّياسة، بطُهر السِّياسة.
هذه كلمة عن عليٍّ (عليه السَّلام)، فهو يقول: هناك نمط من السِّياسة هو نمط صالح.
ويقول في كلمة أخرى: «حسن السِّياسة قوام الرَّعيَّة». (11316 حكمة للإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام، الصفحة 190، القاضي عبد الواحد محمَّد التَّميمي الآمدي).
الإمام (عليه السَّلام) يتحدَّث عن السِّياسة البصيرة، والسِّياسة الحسنة، والسِّياسة النَّظيفة، والسِّياسة الكفوءة.
وفي كلمة ثالثة له (عليه السَّلام): «…، ومَن حسنت سياسته دامت رياسته». (غرر الحكم، الصَّفحة 592، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
يتحدَّث عن نمط من السِّياسة نظيف.
وفي كلمة رابعة لعليٍّ (عليه السَّلام): «جمال السِّياسة: العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة». (غرر الحكم، الصَّفحة 341، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
فهو هنا يتحدَّث عن سياسة نموذجيَّة، عن سياسة نظيفة.
وفي كلمة خامسة له (عليه السَّلام): «مَلاك السِّياسة العدل». (غرر الحكم، الصَّفحة 840، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
وفي كلمة سادسة له (عليه السَّلام): «نعم السِّياسة الرِّفق». (غرر الحكم، الصَّفحة 718، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
إذًا، يتحدَّث عن نمط من السِّياسة نظيف، لأنَّ ليس كلُّ سياسة تكون فسادًا.
وليس كلُّ سياسة زيف.
وليس كلُّ سياسة دَجَل، إذ توجد سياسة نظيفة.
ويتحدَّث (عليه السَّلام) عن النَّمط الآخر من السِّياسة، مثل:
«بئس السِّياسة الجور». (غرر الحكم، الصَّفحة 310، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
هذا نمط آخر، هذه سياسة فاسدة.
وفي كلمة أخرى: «آفة الزعماء ضعف السِّياسة». (غرر الحكم، الصَّفحة 279، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
وهنا يتحدَّث عن ضعف سياسيٍّ.
وفي كلمة ثالثة: «سوء التَّدبير سبب التَّدمير». (غرر الحكم، الصَّفحة 840، عبد الواحد الآمدي التَّميمي).
إذًا، عليٌّ هنا يَفصِل بين نمطين من السِّياسة: سياسة صالحة نظيفة، وسياسة فاسدة قذِرة.
ولذا يجب أنْ لا نخلط في التَّشخيص؛ لنقول: إنَّ عليًّا ليس سياسيًّا، لأنَّ السِّياسة دجل!
لا، فيوجد نمط آخر من السِّياسة نظيف.
وهذا أوَّلًا في نقاش هذا المبرِّر الأوَّل.
ثانيًا: عندما نقرأ في الكلمات الواردة في وصف النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في وصف الأئمَّة (عليهم السَّلام)، وفي وصف بعض الأنبياء (عليهم السَّلام):
1- «…، ثمَّ فوَّض إليه أمر الدِّين والأمَّة؛ ليسوس عباده». (الوافي 3/616، الفيض الكاشاني).
«ثمَّ فوَّض»: الحديث يتحدَّث عن النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
«ثمَّ فوَّض إليه» – يعني الله تعالى فوَّض إلى النَّبيِّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) – «…، أمر الدِّين والأمَّة؛ ليسوس عباده».
إذًا هذه سياسة، فالرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يسوس من السِّياسة.
إذًا، الرَّسول سياسيٌّ يسوس، ويحكم!
2- وكلمة أخرى تتحدَّث عن الأئمَّة (عليهم السَّلام): «أنتم ساسة العباد». (الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام، الصَّفحة 690، أحمد الرَّحماني الهمداني).
إذًأ، الأئمَّة سياسيُّون.
ساسة، قادة، حكَّام، ولا يوجد أيُّ مشكلة، فأنتم ساسة العباد.
3- كلمة أخرى في تعريف الإمام من أهل البيت: «الإمام عارف بالسِّياسة». (الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام، الصَّفحة 690، أحمد الرَّحماني الهمداني).
إذًا، الإمام من اللَّازم أنْ تكون لديه خبرة، وعنده فهم سياسيٌّ.
وفي الخبر: «كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم». (الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام، الصَّفحة 690، أحمد الرَّحماني الهمداني)، أي: تحكمهم.
إذًا، هذا المبرِّر الأوَّل يخلط بين المصطلح وبين التَّطبيق، وهذا فهم فاسد.
لا توجد مشكلة في أنَّ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) سياسيٌّ، ويكون نظيفًا، وفعَّالًا.
لقد كان سياسيًّا نظيفًا.
وكان سياسيًّا صالحًا.
هذا هو المبرِّر الأوَّل من مبررات المقولة: إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) ليس سياسيًّا، بل هو رجل مبادئ!
المبرِّر الثَّاني: يستند بعض الذين يُروِّجون لهذه المقولة – بأنَّ عليًّا (عليه السَّلام) رجل مبادئ، وليس رجل سياسة، وليس رجل حكم – إلى بعض الكلمات التي صدرت من أمير المؤمنين (عليه السَّلام) نفسه!
الكلمة الأولى:
قوله (عليه السَّلام): «لولا الدِّين والتَّقى لكنت أدهى العرب». (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 3/401، حبيب الله الهاشمي الخوئي).
فيفسِّرون الدَّهاء بالسِّياسة، والإمام عليٌّ (عليه السَّلام) يقول – ما معناه -: لولا أنَّ الدِّين يحكمني لصرت سياسيًّا كبيرًا!
ومعنى ذلك – الفهم -: إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) ليس سياسيًّا، لأنَّ الدِّين يحكمه، ذلك لأنَّ الدِّين لا يسمح له بأنْ يكون أدهى العرب، حيث: «لولا الدِّين والتَّقى لكنت أدهى العرب»!
وكلمة ثانية لأمير المؤمنين (عليه السَّلام): «والله، ما معاوية بأدهى منِّي، ولكنَّه، …». (نهج البلاغة، الصَّفحة 318، خطب الإمام علي عليه السَّلام).
لقد فسَّروا الدَّهاء بالسِّياسة!
وعلى تفسيرهم كأنَّما عليٌّ (عليه السَّلام) يقول: أنا لستُ سياسيًّا، لأنَّني لا أمارس الدَّهاء، حيث إنَّ الدَّهاء حِيل، وألاعيب.
مناقشة هذا المبرِّر
إنَّ الدَّهاء في اللُّغة هو الفطنة، والذَّكاء، وجودة الرَّأي، فهذا هو الذَّكاء.
وإذا أتينا إلى المصطلح اللغويِّ لكلمة الدَّهاء نجد أنَّهم يفسِّرون الدَّهاء بالفطنة، والذَّكاء، وجودة الرَّأي، ولكن شاع في تطبيقات الدَّهاء!
وفي فهم النَّاس هو اعتماد الغدر، والمغالطة، والأكاذيب!
وصار مصطلح الدَّهاء عند النَّاس هو الخُدَع!
فعليٌّ (عليه السَّلام) يتبرَّا من هذا اللون من الدَّهاء، حيث يقول: إنَّ الدَّهاء الذي فيه الكذب، وأغاليط، وغلبة النَّاس – ولو بالباطل -، فإنَّني لا أمارس هذا اللَّون من الدَّهاء، فلم يقل: أنا لا أمارس السِّياسة.
إنَّ هذا النَّمط من الدَّهاء المشحون بالألاعيب وبالأكاذيب، والخدع لا أمارسه، لأنَّ ديني يحكمني، ولأنَّ التَّقوى تحكمني، ولا تسمح لي بأنْ أمارس هذا النَّمط من الدَّهاء.
إذًا، هذا هو المبرِّر الثَّاني.
المبرِّر الثَّالث – الذي استند إليه هؤلاء الذين يروِّجون مقولة: إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) لا يصلح للسِّياسة، ولا يصلح للحكم -: إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) مُربٍّ، وواعظ يصنع وعي النَّاس، وقيم النَّاس، وأخلاق النَّاس، وتقوى النَّاس.
علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) مدرسة، مدرسة قِيم، ومبادئ، أمَّا أنَّه رجل حُكم، فلا!
لكنه لا يصلح أنْ يكون رجل حكم بدليل اضطِّراب الأوضاع السِّياسيَّة، والأمنيَّة في عهده، فلو كان يصلح للحكم فما اضَّطربت الأوضاع في عهده.
إنَّ الأوضاع السِّياسيَّة والأمنيَّة، والحقوقيَّة في عهد علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) قد اضطَّربت!
إنَّ علي بن أبي طالب بمجرَّد أنْ استلم الحكم قد عزل شخصيَّات ثقيلة!، فلو كان سياسيًّا لجعل الأمر يستتبُّ، ومن ثمَّ يعمل على عزلها، وليس بمجرَّد استلام الحكم يعمد إلى تلك المواقع المهمَّة عند المسلمين، وإلى تلك الشَّخصِّيات التي لها ثقلها ومن أوَّل يوم يصدر مراسيم عزل فلان، وفلان!، حيث عزل كلَّ الشَّخصيَّات التي كان يحترمها المسلمون!
فمثل هذا ليس نهجًا سياسيًّا!
إذًا، دليلهم الثَّالث على كون عليًّا (عليه السَّلام) ليس سياسيًّا هو اضطِّراب الأوضاع في عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام)!
مناقشة المبرِّر الثَّالث
إنَّ اضطِّراب الأوضاع السِّياسيَّة والأمنيَّة في عهد أمير المؤمنين (عليه السَّلام) راجع إلى مجموعة أسباب، وهذا ليس دليلًا على أنَّه لا يمتلك قدرة سياسيَّة، ولا قدرة حكم!، إلَّا أنَّ هناك أسباب لذلك.
أسباب اضطِّراب الأوضاع
السَّبب الأوَّل:طرح مشروع سياسيٍّ عملاق
إنَّ الإمام عليًّا (عليه السَّلام) قد طرح مشروعًا سياسيًّا عملاقًا إلَّا أنَّ المدَّة التي حكم فيها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) كانت مدَّة قصيرة، وهي أقل من خمس سنوات.
لم يستطع تطبيق مشروعه السِّياسيَّ، ذلك لأنَّ المدَّة لم تكن كافية.
لم تكن المدَّة كافية لأنْ يُطبِّق علي بن أبي طالب مشروعه السِّياسي، ولم تأخذ المهام الإصلاحيَّة مجراها لقصر تلك المدَّة!
لم يمهلوا عليًّا (عليه السَّلام)، حيث لديه مشروع تغيير كبير، وقد استلم حينها تَركة ثقيلة، مع أوضاع متردِّية كثيرة!
منذ أنْ تقرأ منهج علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، ورؤى علي بن أبي طالب، ومراسيم علي بن أبي طالب تجد عنده مشروعًا سياسيًّا ضخمًا.
إنَّ المهام الإصلاحيَّة رغم ضخامتها، وقيمتها، وأصالتها إلَّا أنَّ المدَّة كانت قصيرةً جدًّا، ولم تتَّسعْ بأنْ يُحرِّك (عليه السَّلام) مشروعه.
السَّبب الثَّاني: إشغاله بالحروب!
لقد أشغلوا عليًّا (عليه السَّلام) بحروب، كـ: حرب الجمل، وحرب صفِّين، وحرب النَّهروان.
قد أُشغل بحروب، فلم يتفرَّغ إلى تحريك مشروعه، حيث هاجس المواجهة، وهاجس التَّصدِّي، وهاجس الحرب قد شغل علي بن أبي طالب (عليه السَّلام).
لقد أشغلوا عليًّا (عليه السَّلام) بحروب قد عطَّلت جزءًا من المشروع!
السَّبب الثَّالث: عدم الإيمان بنظريَّة الغاية تبرِّر الوسيلة
لم يكن عليٌّ (عليه السَّلام) يؤمن بنظريَّة: (الغاية تبرِّر الوسيلة)!
إنَّ السِّياسة الفاسدة تقول لك: استخدم أيَّ وسيلة مادام الهدف مشروعًا!
إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) لا يؤمن بذلك، وهو: أنْ أستخدم أيَّ وسيلة حتَّى لو كان الهدف مشروعًا، حتَّى لو كان الهدف نظيفًا!
لا بدَّ أن تكون الوسيلة – أيضًا – نظيفة.
إنَّ مقولة: الغاية تبرِّر الوسيلة لا يؤمن بها علي بن أبي طالب!
ولا يؤمن بها الدِّين.
هل إذا لم يكن عندي وسيلة نظيفة فأسلك أيَّ وسيلة؟!
أو إذا عندي غاية نظيفة، فلأسلك أي وسيلة؟!!
إنَّ الأمر ليس هكذا!
الغاية لا تبرِّر الوسيلة، بل الغاية يجب أنْ تُنظِّف الوسيلة، وهذه هي نظريَّة علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)، وهي نظريَّة القرآن الكريم.
نعم، عليٌّ (عليه السَّلام) بإمكانه أنْ يكسب الكثير ولكن بوسائل غير مشروعة إلَّا أنَّه (عليه السَّلام) لا يؤمن بهذه الوسائل غير المشروعة، كما يجب أنْ لا ننسى بأنَّ علي بن أبي طالب ليس حاكمًا زمنيًّا مؤقَّتًا.
لربما فرد حكم لمدَّة عشر سنوات، وينتهي، وينتهي اسمه، وينتهي منهجه، أمَّا علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) يؤسِّس لمشروع لآخر الدُّنيا، حيث بريد من الأجيال أنْ تقتدي به لآخر الدُّنيا، وليس هو مشروع لعشر سنوات، أو خمس سنوات يحكم فيها، ثم ينتهي وينتهي المشروع معه!
إذًا، يريد (عليه السَّلام) أنْ يؤسِّس لمبادئَ تستمرُّ عبر التَّاريخ.
فهو يؤسِّس لقِيم يجب أنْ تبقى خالدة.
لذلك نلاحظ عندما يدخل ابنُ عبَّاس ويرى أمير المؤمنين (عليه السَّلام) يُصلح نعلًا عنده، فيلتفت إلى ابن عبَّاس قائلًا (عليه السَّلام) له: ما قيمة هذا النَّعل؟
فأجاب ابن عبَّاس: يا أمير المؤمنين، لا يسوى شيئًا!
مكون من ليف لا يسوى شيئًا هذا النَّعل!
قال أمير المؤمنين (عليه السَّلام): والله، لهذا النعل أفضل عندي من ولايتكم إلَّا أنْ أقيم حقًّا، أو ادفع باطلًا.
هذا النَّعل أفضل من الولاية كلِّها إلَّا أنْ أتحوَّل إلى أمير يحقِّق الحقَّ، ويُبطل الباطل.
قال عبد اللَّه بن العبَّاس (رحمه الله): «دخلت على أمير المؤمنين عليه السّلام بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قِيمة هذه النَّعل؟
فقلت: لا قيمة لها.
فقال (عليه السَّلام): واللَّه لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم إلَّا أنْ أقيم حقًّا، أو أدفع باطلًا». (اختيار مصباح السالكين، ابن ميثم البحراني الصَّفحة 140)
ومَن قال أنَّ عليًّا (عليه السَّلام) لم يطرح نموذجًا سياسيًّا راقيًا؟!
لقد طرح نموذجًا راقيًا جدًّا!
فهذه تطبيقات علي بن أبي طالب (عليه السَّلام)
وهذا تسامح علي بن أبي طالب.
وهذا عدل علي بن أبي طالب.
هذه النماذج في التَّاريخ، عندما نقرأها نرى نماذج راقية سياسيًّا.
يكفي أنْ نقرا عهده (عليه السَّلام) لمالك الأشتر (رضي الله عنه)، فهذا أرقى نموذج سياسيٍّ.
إنَّا نرى الآن هذه الدُّنيا وبأرقى مؤسَّساتها الحقوقيَّة إلَّا أنَّها لم تصل إلى مستوى إلى مستوى ما طرحه عليٌّ (عليه السَّلام) في عهده إلى مالك الأشتر!
عندما نقرأ عهده (عليه السَّلام) لمالك الأشتر نرى أرقى نموذج سياسيٍّ للحكم!
فكيف بعد كلِّ هذا تقولون: إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) ليس سياسيًّا؟!!
دعونا نرى كلَّ شعارات الدُّنيا، ولكن أعطني شعارًا مثل هذا الشِّعار: «…، وأنَّ النَّاس، …، فإنَّهم صنفان: إمَّا أخ لك في الدِّين، وإمَّا نظير لك في الخَلق». (نهج البلاغة، الصَّفحة 427، خطب الإمام علي عليه السَّلام).
كلُّ الأنظمة الحقوقيَّة في العالم لم تصل إلى مستوى هذا الشِّعار.
هل الحاكم، أو المواقع المتصدِّية تنظر للنَّاس على أنَّهم: إمَّا أخوك في الدِّين، وإمَّا نظير لك في الخَلْق؟! سواء كان ذلك يهوديًّا، أم مسيحيًّا، أم صابئيًّا، أم ملحدًا، فهو أخوك في الخلق ومن الواجب أنْ تعدل معه؟!
إنَّ عليًّا (عليه السَّلام) قد طرح نموذجًا راقيًا جدًّا من السِّياسة.
وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربِّ العالمين.
الوصلة: